كان رحمه الله متعدد المواهب. أبدع في مختلف أجناس الفن والإعلام، فقدم للإذاعة والتلفزة والمسرح والسينما والصحافة والغناء، ما أسعد الملايين من المستمعين والمشاهدين والقراء.
لم يكن محمد حسن الجندي يملك من زاد الحياة والعمل، غير إرادة الطموح والتحدي، مع كفاف القناعة.
علمه والده من دراويش الزاوية التيجانية، كيف يرى بعيدا قبل أول خطوة إلى الأمام، وربته والدته على التعايش الجميل بين أقرانه في أعتق أحياء مدينة مراكش..”حي القصور”.
منذ نشأة الطفولة والصبا، كان محمد حسن الجندي يفكر فقط في مسار مختلف لمستقبل واعد، رافضا بشدة بؤس واقع الحال.
تأثر بهرج ومرج أجواء “جامع الفنا”، دون الإنخراط في رواج فنونه الفطرية. وبدوام استماعه إلى الراديو، وإدمانه على تكرار مشاهدة الأفلام المصرية القديمة، تشكلت مواهبه الفنية المبكرة، أهلته للإلتحاق بالفرقتين المسرحيتين “الوحدة” و “الأمل”، إلى أن غادر مراكش في نهاية خمسينات القرن العشرين، وتوظيفه بفرقة التمثيل العربي لإذاعة الرباط. واكتسب فيما بعد مهارة التأليف والإخراج.
وبالإحتكاك اليومي مع أسرة الإذاعة، استفاد كثيرا محمد حسن الجندي من تجارب المرموقين في مجالات الموسيقى والغناء، والبرمجة الإجتماعية والثقافية، والأخبار، وتقنيات الصوت. وكان الشاعر الكبير إدريس الجاي، معلمه الأفضل في كسب مهارات الإبداع الثقافي.
محمد حسن الجندي، من المؤسسين لأول نقابة إعلامية في المغرب سنة 1959، بتشجيع من الدكتور المهدي المنجرة مدير عام الإذاعة المركزية.
ومن بين المؤسسين للنقابة الجديدة : محمد العربي المساري، محمد الخضر الريسوني، إبراهيم الوزاني، خالد مشبال، محمد الكواكبي، الأزدي الميلودي، عبد الرحيم احساين، مصطفى الحضري.
وكان الدافع الأول والملح من تأسيس النقابة : إصدار القانون الأساسي للإذاعة، ودعم مشروع المهدي المنجرة لاستقلاليتها إداريا، كما هو حال القطاع الإعلامي في الدول المتقدمة، والتضامن مع المطالب الوطنية لحزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، وحزب الإستقلال، والحزب الشيوعي، ومنظمة الإتحاد المغربي للشغل، ومنظمة الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، بمراجعة الوضع القانوني للصحافة الإستعمارية.
محمد حسن الجندي في هذه المرحلة، كان ضمن الزملاء النقابيين، الذين قادوا حركة الإضراب الناجح، بوقف البث الإذاعي في الرباط وطنجة، احتجاجا على إسناد وزارة الأنباء إلى مولاي أحمد العلوي،وطمس مشروع المهدي المنجرة حول استقلالية مؤسسة الإذاعة المركزية وفروعها الجهوية.
دائما كان محمد حسن الجندي يشاركنا في جلسات تنسيق العمل النقابي مع المحجوب بن الصديق بالدار البيضاء، والهاشمي بناني بالرباط، بحثا عن مخرج سليم لأزمة الإذاعات في المغرب، وأزمة الإعلام بصفة عامة بعد الإستقلال.
مع شديد الأسف أن الذين يكتبون تاريخ الإعلام الوطني، يجهلون أو يتجاهلون الأوضاع الحرجة والمعقدة لقطاع الإعلام السمعي، ابتداء من سنة 1960.
وهكذا يبدو أن محمد حسن الجندي، لم يكن عضوا فقط في فرقة التمثيل العربي للإذاعة، بل كان مناضلا صلبا، يسعى بشجاعة الرأي والموقف إلى فتح آفاق جديدة للإعلام في المغرب.
وحتى عندما تسلل بحذر إلى العمل السياسي في الأحزاب الوطنية، تراجع بسرعة، دون أن يفقد صداقته المتينة مع عبد الله إبراهيم، أحد زعماء حركة الإصلاح الدستوري والديمقراطي.
بصمات محمد حسن الجندي في إحياء أزليات التراث العربي ، نراها واضحة في روائع حلقات مسلسله الإذاعي “ألف ليلة وليلة”، حيث تم إعادة تسجيلها في أرقى استوديوهات الصوت بالولايات المتحدة الأمريكية، امتثالا لتوجيهات وتعليمات جلالة الملك الحسن الثاني. وقد كان هذا العمل الإذاعي المتميز، من هدايا القصر العامر لضيوف المغرب، ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية، وكبار شخصياتها السياسية والثقافية.
محمد حسن الجندي، كانت له أيضا بصمات فنية في استنطاق مختارات الأدب والتاريخ بلغة الحوار والتشخيص، حين استلهم قصائد شاعر الحمراء محمد بن ابراهيم، وحولها إلى مشاهد مسرحية، أعادت الإعتبار المعنوي لأديب كبير مغبون. كما تعامل بنفس أدواته الفنية الخلاقة مع رواد مرحلة تأسيس مدينة مراكش، وبطلها يوسف بن تاشفين. وهذا الإنتاج الأدبي التاريخي، أنجزه خلال توليه مسؤولية مندوبية وزارة الثقافة بمراكش (سنة 1992 – 1999).
الوفاء من الخصال النادرة في علاقاتنا العامة حاليا، ولكنه علامة بارزة وراسخة في سلوك محمد حسن الجندي.
لقد عشنا نحن الثلاثة (خالد مشبال، إدريس الجاي، محمد حسن الجندي) في بيت واحد، لسنوات طويلة في الرباط، يجمعنا الوفاء الدائم، كأننا بهذه الصفة النبيلة، ثلاثة أشخاص في روح واحدة.
هذه العشرة الطيبة بيننا منذ سنة 1967، أترك تفاصيلها المضحكة المبكية لكتابات ذاتية، تصدر قريبا في كتاب مستقل.
ومن وفاء الجندي في علاقته الإنسانية مع الآخرين، تخليه عن العمل في الإذاعة، بسبب تفرغه لإجراءات علاج صديقنا عزيز الفيلالي، بأكبر مستشفى أمراض السرطان في ضواحي باريس.
هذا الرجل الودود المريض، كان متعهد حفلات السهرات العمومية الكبرى، في المغرب والجزائر وتونس ومصر..وكان صاحب فضل وراء شهرة الكثيرين من أسماء أهل الطرب، في مقدمتهم عبد الوهاب الدكالي، عبد الهادي بلخياط، سميرة بنسعيد، قشبال وزروال، ناس الغيوان.
وواصل محمد حسن الجندي وفاءه لأسرة عزيز الفيلالي، فسعى لعودة زوجته المصرية إلى بلادها بعد وفاته، ثم سعى إلى إلحاق إبنها الوحيد بكلية شرطة القاهرة.
ولما حاول محمد حسن الجندي الرجوع إلى عمله، بعد تبرير غيابه الإنساني في باريس، لمساندة مريض من أسرة الفن، حالت دون ذلك، إجراءات إدارية بليدة، فقرر بإرادة الطموح والتحدي، هجرة المغرب إلى بريطانيا. واشتغل بالقسم العربي لإذاعة لندن (البي بي سي)، كمنتج خارجي، يعد برامج أسبوعية عن تراث المغرب الإجتماعي والثقافي.
إقامته في لندن، وطدت علاقته بالوسط الفني عربيا ودوليا، وأفسحت له المجال واسعا، للإشتراك في مسلسلات التلفزة وأفلام السينما، بتهافت من كبار المخرجين العرب والأجانب.
صوت محمد حسن الجندي الفخم، كان جواز مروره إلى أدوار البطولة، إضافة إلى فصاحة اللسان وتعابير ملامح الوجه. واعتاد تقبيل الميكروفون والكاميرا، في نهاية التسجيل والتصوير.
قبل نهاية سبعينات القرن الماضي، استقبله الرئيس العراقي صدام حسين في قصر الجمهورية ببغداد، وقلده وسام المتنبي للإبداع، ثم أهداه ساعة ذهبية يدوية، وقال له : كنت رائعا (يا جندي) في شريط “القادسية”. وعلق محمد حسن الجندي على هدية صدام : أرجو أن تكون هذه الساعة، تشتغل حسب التوقيت الوحدوي الديمقراطي للأمة العربية.
وعندما نسأل الجندي عن مفهومه للتمثيل والممثل، يكون جوابه التلقائي : “النص الروائي الجيد، هو الذي يصنع الإثنين، وبخلو هذا الشرط، لا تمثيل ولا ممثل”.
وعن الإخراج يقول : “إنه وجع الميلاد الحقيقي لمضمون النص، مع التدقيق جيدا في اختيار أدوات التنفيذ”.
غير الجندي قد يتكرر كفنان شامخ، ولكن بالتأكيد لن يكون بديلا له. إنها ظاهرة نادرة، أن يجتمع الأديب والإعلامي والفنان في كيان واحد، إلا أن الجندي جمع فأوعى.
وقائع أخرى أكثر إثارة، كابدها فناننا الراحل محمد حسن الجندي، لا يتسع المقال لذكرها في هذه المناسبة الحزينة، كما لم يتسع وقته لذكرها كاملة، في عموده الأسبوعي حول سيرته الذاتية “ولد القصور”، بالجريدة الغراء “الأسبوع الصحافي”.
محمد حسن الجندي، إلى أن حان أجل وفاته، ظل الرجل الصامد في مواقفه ومواقعه، التي عبر عنها بجرأة الفكر في إنتاجه الإذاعي والتلفزي والمسرحي والسينمائي والصحافي.
وبعد يا سادة.. فقد فقدت بوفاة هذا الجندي، صديق العمر، لأنه فعلا كان توأم الروح.