يعبر مصطلح “الإسلام السياسي” عن عمليات الصياغة المعاصرة للإسلام التي ابتدأت منذ أوائل القرن التاسع عشر، وقدمت منظومة واسعة وممتدة من التطبيقات والدراسات والمؤسسات والجماعات والأنظمة الجديدة التي أعادت تقديم الإسلام على نحو استوعب التحولات الاقتصادية والسياسية والعلمية التي سادت في الغرب وشملت عالم الإسلام، وهي جهود شارك فيها علماء ومفكرون وأساتذة وباحثون وطلبة دراسات عليا بالتحالف مع أنظمة سياسية ومؤسسات علمية وتعليمية واقتصادية، وجماعات سياسية واجتماعية؛ أفضت إلى محصلة عميقة ومعقدة من الدراسات والمناهج والبرامج والمؤسسات والتطبيقات «الإسلامية» في السلوك والثقافة والحكم والتعليم والإعلام والبنوك والأسواق والسلع والخدمات والعلاقات.
ما الإسلام السياسي؟
شاع استخدام مصطلح الإسلام السياسي، باعتباره يعني الجماعات الإسلامية السياسية التي تعمل لأجل تطبيق الشريعة الإسلامية والمفاهيم والأحكام الإسلامية من خلال المشاركة السياسية السلمية و/أو الديمقراطية، لكنه اسم يحتمل تسميات أخرى كثيرة غير ذلك؛ إذ إنه يعني التطبيق والمفهوم السياسي للإسلام، ويشمل هذا التعريف الأنظمة السياسية العربية والإسلامية القائمة، والتي تطبق الشريعة الإسلامية أو تقوم بدور ديني سياسي، كما يشمل أيضا جماعات إسلامية متطرفة، سواء كانت سلمية أو تستخدم العنف؛ لأنها أيضا جماعات لديها برامج وتصورات لتطبيق الإسلام وفهمه سياسيا.
لقد أدى هذا الغموض والشمول في معنى المصطلح إلى لبس وتباين في التعامل مع “الإسلام السياسي”؛ فبعض الحكومات والدراسات تنظر إلى الجماعات الإسلامية جميعها؛ المسلحة والسلمية والمتطرفة باعتبارها جماعة واحدة، وبعضها الآخر يضيف إليها دولا عربية وإسلامية تؤمن بالمفاهيم والمبادئ التي تؤمن بها الجماعات الإسلامية السياسية، وسمح هذا اللبس والغموض بعدم وضوح المواقف السياسية والدبلوماسية من الإسلام السياسي، وجعل الحكومات تتعامل مع الجماعات والمفاهيم الإسلامية حسب الدول والمناطق والمواقف السياسية والأيديولوجية دون معيار واضح أو محدد لتقييم الظاهرة ومراجعتها.
وبغض النظر عن الدلالات الاجتماعية والواقعية لمصطلح الإسلام السياسي، فإنه بما هو إعادة صياغة وفهم الإسلام فهما معاصرا أنشأ منظومة جديدة للفهم والتطبيق في عالم الإسلام تعمل بموجبها الدول والجماعات، وامتد تأثيرها إلى المؤسسات الدينية والتعليمية والمجتمعية، وتقوم على إضفاء الطابع الإسلامي “الأسلمة” والشرعية الدينية على كل مجالات الحياة في الحكم والتعليم والأسواق والإعلام والسلوك والفنون، فيكون كل ما عداها ليس إسلاماً أو خروجاً على الإسلام، وتقديم هذه البرامج والتطبيقات الشاملة في دليل عملي واضح ينتقي من المصادر التقليدية، ويستبعد الفلسفة والفنون وأوعية التدين الروحي والشعبي والمؤسسات العلمية والمذهبية السابقة.
إن الأنظمة السياسية والجماعات الإسلامية جميعها لا تسمي نفسها “الإسلام السياسي” ولا تفضل هذه التسمية، وتفضل كل جماعة اسمها الخاص بها، وهي تسميات، وإن كان يجمع بينها “الإسلامية”؛ فإنها تعكس مفاهيم متعددة وغامضة لتعريف ووعي الذات، فإنه أيضا وعي غامض ومتناقض، ويعكس عجز الجماعات عن تقديم رؤية واضحة متفق عليها، كما يعكس أيضا صعوبة إن لم يكن استحالة تقديم تسمية واضحة ومتفق عليها تعكس ما تسميه بوضوح ودقة، ذلك أنه وببساطة تتعدد قراءات وفهم النصوص الدينية في خريطة لا نهائية حسب الحالة الحضارية والاجتماعية والثقافية السائدة على المستوى الجمعي والفردي أيضا.
لكن ورغم هذا الغموض في الأفكار الإسلامية، فقد أظهرت الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط (الربيع العربي) قوة الأفكار وقدرتها على عبور الحدود الوطنية والتأثير على الأفراد والدول والمجتمعات، وإن كان من عقد اجتماعي يصلح مخرجا للأزمات والصراعات القائمة، فهو “التدين بدلا من الأسلمة” بمعنى أن يكون الدين ملهما للقيم والمبادئ والسياسات على نحو فردي و/أو اجتماعي في حين تخضع السياسة والتشريعات للعقلانية الاجتماعية والأخلاقية معبرا عنها باجتهاد الناس حسب الانتخابات التشريعية والعامة دون ادعاء بالصواب الديني أو السياسي، بل وفي التزام سياسي وثقافي باحتمالية الخطأ، ما يعني بالضرورة أنه ليس ممكنا في الديمقراطية والحكم والسياسة اجتراح حلول ومبادئ وقرارات تمثل الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!
قدمت وزارة الخارجية البريطانية تعريفا للإسلام السياسي مفاده “تطبيق القيم الإسلامية في الحكومات الحديثة، من خلال المشاركة في العملية السياسية، وفي بعض الحالات تكون هذه المشاركة تكتيكية، وليست مستمدة من إيمان أو التزام بالقيم والعلميات الديمقراطية، ويمكن أن يشمل مفهوم الإسلام السياسي جماعات متطرفة ومعارضة للديمقراطية، أو معادية للغرب والليبرالية.
إن مراجعة البيانات حول الإسلام السياسي تظهر مجموعة من الآراء والمعتقدات والأهداف تجعل المفهوم واسعا ويشمل طيفا من المجموعات والأفراد، بعضها مؤمن وملتزم التزاما حقيقيا بمبادئ الديمقراطية والقيم الليبرالية مثل المساواة والاحترام المتبادل، والتسامح مع الديانات والمعتقدات المختلفة، كما توجد آراء أخرى متطرفة ومتعصبة.
وقد شغلت الدولة البريطانية بمسألة الإسلام السياسي بما هو الجماعات السياسية الإسلامية، وأعدت في ذلك تقريرين؛ أحدهما لوزارة الخارجية، والآخر للبرلمان البريطاني، ولم يتح الاطلاع تقرير وزارة الخارجية ولكن تقرير البرلمان نشر على موقعه الرسمي في الإنترنت، معيدا الجدل حول أسلمة السياسة والجماعات المشتغلة في هذا الإطار.
تقول وزارة الخارجية البريطانية على لسان وكيل الوزارة توبياس ال وود في إجابتها على سؤال البرلمان عن تعريف الإسلام السياسي “مصطلح الإسلام يغطي طيفا واسعا من الحركات والأيديولوجيات غير العنفية، ولا يستبعد التعريق أيضا جماعات إسلامية متطرفة مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، ولكن بيان الوزارة يوضح أنه ليس من المفيد تطبيق منهج واحد في جميع الظروف، والأفضل هو التعامل مع كل حالة على حدة، وقال إن مشاركة وزارة الخارجية والكومنولث مع الإسلام السياسي جزء من عملها حسب البلد أو المكان الذي نعمل فيه.
وقدم الشهود الذين استمع اليهم البرلمان البريطاني تعريفات مختلفة ومتعددة تعتمد على موقف الشهود أنفسهم من الإسلام السياسي، إن كانوا مؤيدين أو مشككين، كما تدمج في كثير من الأحيان الجماعات الديمقراطية والسلمية مع جماعات العنف والعداء للديمقراطية، ويشملها معا تعريف “الإسلام السياسي” أو “الإسلاموية” وقال بعض الشهود، إنها جماعات تتشارك في الهدف، وإن اختلفت في الوسيلة.
الإسلام السياسي والديمقراطية والقيم الليبرالية.
على الرغم من أن الدول الغربية تعلن غالبا عن تقييمها للجماعات والأنظمة السياسية على أساس إيمانها والتزامها بالديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم الليبرالية التي تؤمن بها الدول والمجتمعات الغربية، فإنها كانت تؤيد أو تعارض أو تغض الطرف حسب المصالح والظروف التي تقدرها. وفي المقابل، فإن الجماعات السياسية الإسلامية وكذلك الأنظمة السياسية العربية والإسلامية ليست متشابهة في فلسفتها وموقفها من تطبيق وفهم الشريعة الإسلامية، بل إن الجماعة الواحدة أو الدولة الواحدة تقدم رسائل ومواقف متباينة، ففي حين تحارب بعض الأنظمة السياسية الجماعات الإسلامية بقسوة، فإنها تطبق أنظمة وأفكارا دينية لا تختلف عما تؤمن به وتدعو إليه هذه الجماعات!
لم يشغل تقرير البرلمان بفهم الحالة وتقييمها، لكنه قفز إلى تقييم الجماعات السياسية الإسلامية بغض النظر عن الفهم الجوهري للدين في السياسة مقترحا ثلاثة معايير لإرشاد السياسة البريطانية في هذا المجال، وهي المشاركة الديمقراطية ودعمها والالتزام بها، ورفض العنف كالتزام أساسي واضح لا لبس فيه، والالتزام العملي والفلسفي والفكري بحماية الحقوق والحريات والسياسات الاجتماعية التي تنسجم مع قيم المملكة المتحدة.
اقتصر التحقيق البرلماني على منطقة الشرق الأسط وشمال أفريقيا، رغم أن مفهوم ووجود الإسلام السياسي يمتد إلى مناطق أخرى من العالم الإسلامي، كما اهتم بتجربة “الربيع العربي” وما تبعها من أحداث على مدى خمس سنوات تالية أعطت مؤشرات وأدلة غير مسبوقة تاريخيا حول سلوك الإسلاميين السياسي في السلطة والمعارضة.
تشكل جماعة الإخوان المسلمين المساحة الكبرى في ظاهرة الإسلام السياسي كما تشكل لغزا مربكا للباحثين والمتابعين كما الأنظمة السياسية العربية والعالمية، فالجماعة تبدي طيفا واسعا من الأفكار والمبادئ في داخل القطر الواحد ومن قطر إلى آخر، وإن كانت تجمعها أيديولوجية واحدة هي التطبيق السياسي للإسلام، لكن يبدو ثمة اختلاف واسع في مستوى وطبيعة هذا الفهم والتطبيق، ففي حين يبدي حزب النهضة التونسي (الإخوان المسلمون التونسيون) قبولا بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ويلتزم بفصل الدعوي عن السياسي، وبمبادئ وقيم ليبرالية وديمقراطية لا تختلف عن القيم الديمقراطية الغربية، فإن الجماعة في مصر والأردن تبدو أكثر تحفظا وتعصبا، ويشكل حزب العدالة المغربي (الإخوان المسلمون المغربيون) نموذجا آخر للمتدينين الديمقراطيين المحافظين ضمن المنظومة السياسية والثقافية والدينية المتبعة في النظام السياسي المغربي، وأما حزب العدالة والتنمية في تركيا الملهم للإخوان المسلمين، فيمكن اعتباره حزبا علمانيا محافظا. وعلى الرغم من التزام جماعة الإخوان المسلمين في الشرق العربي بالعمل السلمي والديمقراطي فما زالت كتب وأفكار سيد قطب سائدة وملهمة للجماعة، وهي أفكار مناقضة للديمقراطية، كما أنها الأفكار والمبادئ نفسها الملهمة للجمعات المتطرفة والمسلحة.
يؤكد كثير من الإسلاميين السياسيين على تمسكهم بالديمقراطية، لكن الكثيرين في الغرب والشرق ينظرون إلى مشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية على أنها خطيرة وغير ديمقراطية. وشهدت دول الشرق الأوسط نماذج كثيرة من مشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية كما في تركيا والجزائر وفلسطين وتونس ومصر والمغرب والعراق والأردن وليبيا، وقد انتقدت جماعات إسلامية متطرفة مشاركة الإخوان المسلمين في الانتخابات، باعتبارها مشاركة في ظل راية علمانية! وتؤكد أحزاب إسلامية على التزامها بالانتخاب والتصويت في قراراتها واختياراتها الداخلية، لكنها مشاركات والتزامات لم تعالج الغموض والخوف من الاستبداد والصراع أو الاعتداء على الحريات الشخصية والاجتماعية كما الحريات السياسية والديمقراطية، ولا يمكن بالطبع إعفاء الأنظمة السياسية العربية والإسلامية من اللوم والمسؤولية عن بناء وتعزيز عقد اجتماعي يمثل إجماعا سياسيا وثقافيا للناس، ولا يمكن أيضا تجاهل أن الفشل التنموي والاقتصادي يقود إلى الصراع والتطرف! فمشكلة الديمقراطية في الشرق الأوسط أن الفائز يستحوذ على كل شيء، وهذا يشمل الإسلاميين وغيرهم. وأظهرت الممارسات العملية للجماعات الإسلامية تنوعا واختلافا في التعامل مع الديمقراطية، فقد كان بعضها براغماتيا وبعضها عقائديا، وأظهر حزب العدالة والتنمية في المغرب كما حركة النهضة التونسية مرونة واسعة في فهم الاأديولوجية الإسلامية تنسجم مع الديمقراطية، ولكن أثيرت شكوك حول حزب الحرية والعدالة في مصر.
ويلاحظ تقرير البرلمان البريطاني أن هناك وضوحا في هيكل جماعة الإخوان المسلمين على المستوى الوطني ولكن ثمة غموض في التنظيم العالمي، إذ إنه يشمل مجموعات كثيرة من جميع أنحاء العالم. ويلاحظ التقرير أن ثمة تناقضا بين رسائل الجماعة وأدبياتها المعلنة حسب اللغة المستخدمة والجمهور المستهدف.
ولكن هناك حالات تبدو فيها الجماعة ملهمة للعنف، رغم أنها لم تشارك في ذلك مباشرة، ويجب الاعتبار أنه يصعب على حركة سياسية أو اجتماعية أن تسيطر على جميع أعضائها ونشطائها في ظل الاستفزاز الذي تمارسه السلطات السياسية. ويرجح (حسب التقرير) أن طبيعة الإسلام تدعم استمرار التداخل بين الدين والسياسة في المستقبل المنظور.
ويقدم البعض تفسيرات ومقاربات دينية للديمقراطية، فيقول محمد سودان أمين العلاقات الخارجية في حزب الحرية والعدالة: إن الشورى فكرة أساسية وجوهرية في القرآن. ويجادل شهود آخرون فيما يتعلق بالإخوان المسلمين أن نظرتهم إلى الديمقراطية أنها الأغلبية، وليست عملية ثقافية واسعة، وفي المقابل فإن حزب النهضة في تونس وحزب النور في مصر يؤكدان على حرصهما على مشاركة جميع التيارات السياسية وليس انفراد الأغلبية، يقول رفيق عبد السلام رئيس دائرة العلاقات الخارجية لحزب النهضة بأن حزبه يلتزم بمبدأ أن الحكم في المرحلة الانتقالية لا ينبغي أن يقوم على الأغلبية، ولكن على أساس توافق الآراء والاتجاهات المختلفة.
واستمع البرلمان البريطاني إلى شهود يرون أن الجماعات السياسية الإسلامية، رغم أنها قد تكون ديمقراطية وليست عنفية، لكنها متناقضة مع الليبرالية، بمعنى موقفها غير الديمقراطي من السياسات والحقوق الاجتماعية، لذلك يعتبرها كثيرون معادية للقيم الغربية الليبرالية، مثل معاداة حرية الرأي والدين، والتمييز على أساس الجنس والجنسية، وكانت بعض الإجابات التي تلقاها البرلمان من الإخوان المسلمين كانت غامضة فيما يتعلق بالمبادئ الأساسية، مثل العقوبات، وقال إبراهيم منير نائب المرشد العام للإخوان المسلمين إنه يؤيد عقوبة الإعدام، ولا يرفض رفضا قاطعا عقوبات الجلد والضرب والبتر، بالنظر إليها عقوبات منصوص عليها في القرآن، وحول حقوق العلاقة المثلية قال لم نتمكن بعد من إجراء مناقشة كافية، لكنه يعتقد بحق الفرد في حياته الخاصة، لكن الجواب في هذه المسألة لا يمكن أن يكون لا أو نعم.
جماعات الإسلام السياسي: غموض في الأفكار والتنظيمات .
وصف رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون تنظيم الإخوان المسلمين بالسرية والغموض، لكن الإخوان المسلمين يردون بأن السرية كانت خيارا بسبب الحظر والملاحقة التي تعرضت لها الجماعة، وفي إجابتهم عن أسئلة البرلمان قدم إبراهيم منير نائب المرشد العام للإخوان المسلمين، إن أعضاء الجماعية يقتربون من المليون، ويقوم تمويل الجماعة على اشتراكات الأعضاء والتبرعات، ويساهم العمل التطوعي في الجماعة في تخفيض النفقات بنسبة كبيرة، وتقسم الجماعة إلى وحدات أساسية أو خلايا تسمى كل وحدة “أسرة” يرأسها “نقيب” كما تنتظم الأسر في منطقة إدارية تسمى شعبة، يرأسها “نائب” الشعبة، ويقود الجماعة مركزيا مجلس شورى ومكتب الإرشاد. وينسق العلاقة بين الأقطار مجلس شورى عالمي، وهناك أيديولوجيا واحدة للإخوان المسلمين في العالم.
وقد لوحظ تناقض واختلاف بين إجابات ورسائل الإخوان المسلمين المقدمة باللغة العربية والأخرى المقدمة بالإنجليزية، ففي حين حملت رسائل بالعربية تحريضا على الاحتجاج والعنف كانت الرسائل بالإنجليزية تؤكد على الديمقراطية والعمل السلمي، وفي إجابته الخطية قال إبراهيم منير نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين إن موقف الجماعة من العنف لا لبس فيه ولا غموض، إذ ترفض الجماعة استخدام العنف، لكنه لم يجب عن أسئلة البرلمان حول عقوبات الإعدام والجلد وبتر الأعضاء.
ينظر عادة إلى الإسلام السياسي بالتخطيط لفرض فهم متشدد للشريعة الإسلامية يقوم على التفسير الحرفي للنصوص، لكن مرتضى الشيخ المدير المشارك في مركز أبحاث ابن رشد يقول، إن بعض الإسلاميين يقدمون تفسيرا للشريعة مختلفا عن مفاهيم الخلافة التي تدعو إليها جماعات مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، وقال رضوان المصمودي إن الدستور التونسي الذي أقر في عام 2014 لم يتضمن إشارة إلى الشريعة، ورغم ما وجه إلى الإخوان المسلمين في مصر من تهم الأسلمة، فإن حزب الحرية والعدالة يردّ بأن الحزب لم يقدم تفسيرا أكثر تقييدا من قبل، ويمكن على نحو عام ملاحظة سياسات واقعية وأخرى عقائدية سلكها الإسلام السياسي.
يلاحظ أن هناك تنوعا كبيرا داخل الإسلام السياسي، فقد اتجه حزب النهضة إلى الفصل بين الدعوي والسياسي، وقال الغنوشي رئيس الحزب إن النهضة حزب سياسي بحت، وقال رفيق عبد السلام في اجابته للبرلمان إن الحزب ينظر إلى الأنشطة الثقافية والدينية، باعتبارها محصورة في المؤسسات الدينية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني، ولا يدعي حزب النهضة أنه يتحدث باسم الدين.
يرتبط الإسلام الراديكالي إلى حد كبير بالتهميش والأحباط والغضب لدى الشباب، ويعتقد بعض الشهود أن ثمة تحالفات بين الإخوان المسلمين وجماعات إسلامية متطرفة، مثل ليستر كروك مدير المنتدى الفكري للنزاعات الذي يلاحظ أنه في بضع البلدان مثل اليمن وسوريا، فإن الإخوان والقاعدة يشاركون في الصراع المسلح، وقال أليسون بارجتر إن الإخوان المسلمين في ليبيا تحالفوا مع الجماعات الأكثر تطرفا. ويتهم حزب النهضة بالتسامح مع الجماعات الإسلامية المتطرفة، يقول مايكل ماركوس إن الحزب في أثناء توليه السلطة سمح للمتطرفين بالعمل وتجنيد الأتباع والمؤيدين، لكن هذه الجماعات محظورة الآن.
ويرى شهود بأن الإسلام السياسي وإن لم يستخدم العنف، فإنه يمثل حاضنة للجماعات والأفكار المتطرفة والعنفية، كما أن الأيديولوجيا المتبعة لدى الإسلام السياسي تطوّر علاقة الجماعات والأتباع بالتطرف، .. وتظل علاقة جماعة الإخوان المسلمين مع التطرف والعنف غامضة وغير واضحة، وقد أبدت قيادة الإخوان المسلمين رسميا رفضها لأفكار سيد قطب، وتستدل بكتاب دعاة لا قضاة تأليف حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين، والذي نشر في عام 1969 ردا على أفكار سيد قطب وبخاصة كتابه “معالم في الطريق” ويؤكد إبراهيم منير على أن الجماعة لا تستخدم العنف ولا توافق عليه لأجل التغيير أو العمل الوطني، وأن هذا الموقف لا لبس فيه، لكن واقع الحال ودراسة الجماعة يؤشر إلى أن الهضيبي لا تأثير كبير له في الجماعة، وكتابه “دعاة لا قضاة” لا يكاد يكون معروفا، وفي المقابل فإن كتب سيد قطب أو الكتب والأفكار المستمدة منه منتشرة ومؤثرة بوضوح.
ما بعد الإسلام السياسي .
مشكلة الإسلام السياسي ليست متعلقة فقط بموقف الجماعات من العنف والديمقراطية، ولكنها قضية تخص علاقة المسلمين بالدين والدولة والمجتمعات وتنظيم حياتهم وشأنهم الروحي. وبالنظر إلى ما تؤول إليه عمليات الأسلمة الرسمية منها والجماعاتية يبدو واضحا اليوم أنها أدخلت العالم الإسلامي في حالة من الصراع والكراهية والانهيار!
ولم يعد ممكناً النظر إلى مواجهة هذه الحالة في عالم العرب والمسلمين اليوم في معزل عن المنظومة الإسلامية المنشئة لها ، رغم ما في ذلك من مغامرة؛ ذلك أن الأنظمة السياسية والجماعات والمجتمعات والشركات تصير حتماً في مواجهة مع الذات، ولكن مواجهة التطرف لن تكون فاعلة أو ناجحة من غير هذه المواجهة، ولم يعد أمامنا حكوماتٍ ومجتمعاتٍ وأفراداً سوى أن نكف عما نحسبه مكافحة للتطرف مما لا يعدو كونه هجاء المتطرفين، أو نضيف إليه إعادة النظر في المنظومة المنشئة لتصوراتنا وتطبيقاتنا الدينية، والتي نتشارك فيها مع المتطرفين ولا نكاد نختلف عنهم في فهمها وتطبيقها في شيء يذكر.
والحال أن كل أو معظم ما بذل في المواجهة الفكرية والأيديولوجية مع المتطرفين يتحول إلى نتيجتين: أرباح صافية للمتطرفين، أو يجعل الدول وحلفاءها يظهرون وكأنهم في مواجهة مع الإسلام وليس مع المتطرفين! ولم تعد ثمة فرصة للخروج من دوامة الكراهية والتطرف والعنف سوى إعادة فهم وصياغة العلاقة بين الدين والحياة والأفراد والدول والمجتمعات في منظومة فكرية مختلفة عما درجت عليه الدول والجماعات والمؤسسات الدينية منذ أوائل القرن التاسع عشر ومختلفة بطبيعة الحال عن منظومة الحياة الاجتماعية والسياسية وعلاقتها بالدين حسب ما تشكلت عليه قبل القرن التاسع عشر.
وتكون المواجهة بطبيعة الحال في مدونة جديدة تعيد صياغة المحتوى والمبادئ التي قامت عليها المؤسسات الدينية والتعليمية والاجتماعية والإعلامية والثقافية ، حيث تنشئ استراتيجيات بديلة وجديدة للمحتوى الديني وفلسفته وأهدافه واتجاهاته، وتؤسس لبيئة فكرية ودينية واجتماعية جديدة تقوم على الأفراد والمجتمعات وليس الحكومات والمؤسسات والجماعات، وعلى علاقات جديدة ومختلفة بين الدين والدولة والمجتمعات والأفراد.
هي مدونة يمكن إجمال فكرتها وفلسفتها في أنها تنبذ الكراهية وتؤصل لعلاقات الأفراد والمجتمعات والعالم على أساس من التعاون والتقبل المتبادل لجميع الناس والأمم والحضارات والأفكار، واحترام التعددية والتنوع، والإعلاء من شأن العقل والفلسفة والمنطق والمناهج العلمية والفكر الناقد والفنون والإبداع، وتميز بوضوح وحسم بين الديني والإنساني، وتقدم نفسها على أساس من الأنسنة والنسبية وعدم اليقين والقابلية الدائمة للمراجعة والتصحيح وليست على أنها من عند الله.
وتتبع ذلك حتماً إعادة صياغة مسألة الدين والدولة، باعتبار الأنظمة السياسية والاقتصادية والإدارية والمناهج التعليمية منظومات إنسانية قابلة للاجتهاد والاقتباس والمراجعة والتطوير، وتظل منظومات علمية وإنسانية غير مقدسة وغير ملزمة دينياً للدولة والمجتمعات.
ثم وعلى المستوى المجتمعي والفردي إعادة النظر في جميع المؤسسات والتطبيقات (الإسلامية) مثل البنوك والمدارس والكليات والفنون والثقافة واللباس والطعام والسلوك الاجتماعي وأسلوب الحياة لأجل تحويلها إلى منظومات إنسانية غير مقدسة، تقتبس من العالم وتعطيه أيضاً على أساس من التبادل والتنافس، وإعادة توجيه الإسلام الشعبي نحو الاتجاه الروحي والعلمي، وفي ذلك تمكن مساعدة الأفراد والمجتمعات على اكتساب تدين يرتقي بتطلعات المتدينين الروحية ويعلمهم الدين على أسس علمية صحيحة، وتجنيب الأفراد والمجتمعات التديين السياسي أو التوظيف السياسي والاقتصادي للدين ليكون مورداً روحياً واجتماعياً يخلو من المصالح والعيوب.
سوف تخسر السلطة السياسية مصدراً للدعم والشرعية الدينية، وتحتاج إلى وقت لتكريس علاقة جديدة مع الدين تكون مقبولة في المجتمع وفي أوساط المتدينين، ولكن وعلى أي حال لم يعد ذلك خسارة كبيرة بعد أن نجحت الجماعات الدينية في تحويل الشرعية الدينية لمصلحتها، ولم يعد مجال في الحقيقة سوى التضحية بهذه الشرعية (الضائعة) والعمل على تأسيس شرعية سياسية وقانونية ودينية جديدة ومختلفة،.. وهي وإن كانت مغامرة فلا مجال إلا لخوضها.
ربما يختلف الفاعلون والمراقبون في تفسير وإدانة السياسات الدينية القائمة في الدول العربية والإسلامية، ولكن لا مجال للخلاف في أن التطرف والإرهاب في حالته الراهنة ينتمي إلى عالم الإسلام وأن ما هو خارج هذا العالم لا يمثل تحديا كبيرا للدول والمجتمعات، .. ولا خلاف أيضا أن التطرف في الإرهاب في حالة نمو وانتشار، ويحققان مكاسب كثيرة سواء على صعيد انتشار وزيادة الكراهية أو زيادة المؤيدين والمناصرين أو في مجال العنف الذي يجتاح أساسا عالم الإسلام نفسه، ثم يمتد إلى خارجه على هيئات رشقات لا تضر الغرب بقدر ما ألحقت ضررا بالغا بالعرب والمسلمين المقيمين والمتوطنين في الغرب، وليس من خلاف أيضا أن عالم الإسلام يواجه أزمات وتحديات كبرى تدفع به إلى الهشاشة والتفكك، وأسوأ من ذلك أنه يتحول إلى جزء لا يتقبله العالم ولا يتقبل العالم أيضا.
ولم يعد ممكنا مواصلة التهرب بعد هذه السنوات الطويلة من مواجهة التطرف والإرهاب من سؤال بديهي وأساسي: لماذا يواصل التطرف والإرهاب نموهما وانتشارهما؟ وكيف نتأكد أننا نحارب التطرف والإرهاب بالفعل أو أننا نمضي في هذا الاتجاه بالفعل؟ وفي المواجهة الأيديولوجية والفكرية والثقافية لا مجال أيضا للهروب من السؤال الأساسي: كيف تكون الحالة الدينية القائمة في الدولة والمجتمع تخدم الإصلاح والتقدم وتعزز قيم التسامح والاعتدال والمشاركة العالمية (أن نكون جزء امن العالم يتقبلنا ونتقبله)؟
باحث في الجامعة الأردنية