مباشرة بعد بلاغ الأمين العام للأمم المتحدة، وانسجاما معه ومع ما تضمنه من تأكيد صريح على خيار الحل والتسوية السلميتين للنزاع المفتعل حول الصحراء، عمد المغرب إلى سحب مختلف قواته العسكرية من الكركارات. هذا السحب المغربي لقواته العسكرية لا يمكن فهمه إلا من خلال هذه العناصر الستة:
أولا: المغرب منذ 1991 وهو منخرط في مسلسل التسوية السلمية للملف، اختار الخيار الدبلوماسي الأممي بعد حرب طاحنة عاشتها المنطقة التي استغلتها البوليساريو لبث الرعب والخوف وإجبار العديد من السكان إلى النزوح خارج الأقاليم الجنوبية في إطار الخطة التي وضعت لبناء مخيم الصحراويين خارج المنطقة.
هذه الحرب لم يتم التغلب عليها من طرف المغرب إلا من خلال بناء جدار عازل، فرض على البوليساريو التراجع خارج الأقاليم الصحراوية، وأصبح الخيار الدبلوماسي وتسوية الملف على الصعيد الأممي خيارا استراتيجيا للمغرب منذ التوقيع على الاتفاق.
ثانيا: جبهة البوليساريو تعمل وفق أجندة إقليمية مخطط لها، تريد جر المغرب إلى مواجهة عسكرية مفتوحة تدخل المنطقة كلها في الفوضى، ليسقط في فخ المواجهة المسلحة، حتى يظهر المغرب كدولة مارقة، خارج على القانون وعلى الشرعية الدولية، لتسهل محاصرته، واستصدار قرارات أممية وإقليمية دولية تدينه.
ثالثا: منذ مدة والبوليساريو تضع في استراتيجيتها دفع المنتظم الدولي إلى تطبيق القانون الدولي الإنساني على النزاع المفتعل وعلى المنطقة، وهو ما يعني عمليا إخضاع المنطقة لرقابة وإدارة أممية تخرجها من السيادة المغربية، تجعلها في المقابل في يد الأمم المتحدة، وهو ما ظلت البوليساريو تدفع في اتجاهه وتنادي به تحت يافطات متعددة؛ فتارة تحت يافطة حقوق الإنسان، وتارة تحت عنوان “نهب الثروات الطبيعية، وأخرى بافتعال الفوضى، ليظهر المغرب بمظهر الدولة غير القادرة على حماية المدنيين، واليوم استفزاز المغرب عسكريا واعتراض شاحنات مغربية، وهو الوضع الذي واجهه السائقون بشجاعة كبيرة، بل منهم من اختار رفع الأعلام الوطنية في وجه عناصر البوليساريو.
إن الدخول في أي مواجهة عسكرية سيحقق إحدى أهداف الجبهة، وسيجد مبرره لدى الدول الموالية للبوليساريو للمطالبة بتطبيق القانون الدولي الإنساني، وعلى رأسه اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الإضافي الأول.
رابعا: قيادة البوليساريو تعيش إفلاسا سياسيا داخليا؛ أي داخل المخيمات، وأزمة تنظيمية مع توالي الانشقاقات والتصدعات التي ظهرت مؤخرا، كان آخرها في مؤتمر الاتحاد الأفريقي وما تلاه من تطورات، كما أنه تراجعت مصداقيتها داخل شباب المخيمات بشكل خاص الذين فقدوا الأمل في التوصل إلى حل سياسي يخرجهم من الوضعية اللاإنسانية التي يعيشون فيها؛ لذلك فمثل هذه الاستفزازات تهدف إلى التنفيس على هذه القيادة وإظهارها بمظهر القيادة الثورية، خاصة إذا تفاعل معها المغرب خارج المؤسسات الدولية.
خامسا: هذه الاستفزازات مدروسة التوقيت، ابتدأت مع التمهيد لعودة المغرب إلى الاتحاد الافريقي، وكانت تهدف إلى إظهار المغرب بمظهر الدولة غير المحترمة للميثاق التأسيسي للاتحاد حتى يبرر رفض طلبه من قبل زوما وحلفائه.
اليوم تأتي هذه الاستفزازات عند علم المحور المحرك للجبهة بأن المغرب تقدم بطلب الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية المشكلة من دول غرب إفريقيا، وهو الطلب الذي أفقد هذا المحور هدوءه وجعله ينتقل إلى المرحلة القصوى من استفزازه للمغرب.
سادسا: هذه الاستفزازات تأتي للتغطية على نجاح زيارة الملك على الدول الإفريقية والاتفاقيات المهمة التي تم توقيعها وعلى الاختراق الكبير الذي تم تحقيقه، مما أدى وسيؤدي إلى تفكيك المحور الذي كان مناهضا للمغرب، مقابل فشل زيارة إبراهيم غالي إلى بعض الدول الإفريقية؛ حيث ظلت تلك الزيارات يتيمة وغير ذات مضمون أو هدف غير التشويش على المغرب، خاصة وأن هناك بداية اختراق أول متوقع على مستوى جنوب إفريقيا، أضف إلى ذلك سحب زامبيا لاعترافها بالجمهورية الوهمية، مما يرفع عدد الدول الإفريقية داخل الاتحاد الإفريقي غير المعترفة بالوهم، وهو ما يخيف قيادة تنظيم للبوليساريو من استصدار قرار مستقبلي يعيد تقييم وضعية البوليساريو من “جمهورية” إلى وضعها الطبيعي “تنظيم”، وبالتالي كشف طبيعة هذا المخطط الاستفزازي للمغرب.
رد المغرب وتفاعله الإيجابي مع بلاغ الأمين العام للأمم المتحدة، وهو تجاوب دولة جدية في تعاملها مع المنتظم الدولي وبلاغاته، خاصة عندما تكون محققة بشرط الحياد، وهو المأمول والمنتظر من الأمين العام للأمم المتحدة الجديد، وعلى عكس دعاية الجبهة التي تريد أن تظهر الانسحاب كأنه هزيمة عسكرية للمغرب وانتصار للبوليساريو، هو استجابة لطلب تقدم به الأمين العام للأمم المتحدة يقضي بسحب القوات العسكرية من تلك النقطة وفتح المجال للحل السلمي، من طرف دولة عضو بالأمم المتحدة تسعى إلى إقناع العالم بالحكم الذاتي كتعبير حقيقي عن الحل السياسي المتفاوض بشأنه.