قد لا يكون يوم 20 فبراير يوما لائقا لتقديم العزاء
في وفاة الكبير امحمد بوستة..
قد لا يكون أصلا يوما مجديا في تشييع رجل من زمن القيم، والتمثلات الجميلة عن مغرب جديد..
لكنه ، بالتأكيد، يوم يليق بحزن متفرد
وبانتباه خاص إلى ما في السيرة الذاتية للرجل من قيم
كان جيل شباب 20 فبراير يريد أن يعطيها رونقها ليس إلا..
الشباب الذي خرج بحثا عن تضاريس جديدة لحلمه، كان يستعيد القيم التي تربى عليها جيل سبقهم
ومبادئ صنعت كاريزماتهم..
وأحيانا عندما تغيب كاريزما الشخص الواحدة تكون كاريزما الجمع السالم..
فتحضر كاريزما الفكرة
أو القيمة أو الأخلاق..
لن نقطف صباحا جديدا
من زمن القديم
كما لو كنا في حنين إشكالي لا يستقيم إلا بعودة الحاضر إلى زمن الأسطورة..
أبدا..
نحن نريد أن يكون الجيل من سيرة واقفة للجميع..
لهذا لا يمكن أن تحيط الكتابة، مهما انتبهت إلى السيرة ودقائقها، إلى حجم الدرس.
وحجم الأغنية.
لهذا استرعاني دوما في الفقيد امحمد بوستة قدرته على «تأويل» عبد الرحيم بوعبيد..
لهذا أيضا كنا نبحث عنه، في تفاصيل الحوارات، آخرها كان ربما في 2013، معلنا عما بقي لديه من بوعبيد
وما بقي فيه مما أفلت من جيلي الاتحادي..
لقد كتب عبد الواحد الراضي، في سيرته الكاملة، التي صدرت بمناسبة المعرض، ما يمكن اعتباره مفتاحا ..
وبحذق الصدفة التي تصنع للحدث ظلاله المهابة قرأت في الصفحة 106 أن الفقيد الكبير بوعبيد كان هو وامحمد بوستة «ذراعه اليمين» في فرنسا لما تم اغتيال لوماكر دوبراي، الذي أدخل زيت لوسيور إلى المغرب في فترة الاستعمار، من طرف غلاة اليمين وأنهما، بوعبيد وبوستة ذهبا معا إلى بيت الراحل وقدما التعازي..
ونعرف أن زوجة إدغار فور، رئيس الوزراء آنذاك طلبت منهما أن يتوجها إلى مقر الحكومة على وشك الاستعجال..
لابتداء مرحلة المفاوضات ..
ونعرف من خلال ما كتبه الراضي أن بوستة، رحمه الله، كان مع عبد الرحيم ، أثناء الشروع في التفاوض على رجوع محمد الخامس، وكانت أطروحة الاستعمار أن يكون نصف رجوع، أي عودة إلى فرنسا، من المنفى، يليها فصل ثان عن عودة مرتقبة..
كانا معا عند لقاء ادغار فور
وكانا معا أيضا عند إيكس ليبان..
بل كان بوستة هو همزة الوصل بين الوفد الاستقلالي وبين أحمد بلافريج وعلال الفاسي .. وغيرها من مؤسسات الحزب..
وكانا معا في محاولة الصلح في ماي 1958 لرأب الصدع في حزب الاستقلال بعد الخلاف حول الحكومة ..
لهذا بدا أن رأيه في ما يفكر فيه عبد الرحيم بوعبيد يكتسي أمرا خاصا ونكهة لا تعوض..لا بالنسبة لنا، نحن الذين عشنا المسؤولية السياسية، بعد تربية طويلة من الهوية «المتناقضة» مع الجذر الاستقلالي، الأصل العائلي . كان امحمد بوستة أيضا، الذراع اليمنى «البعدية» في قراءة بوعبيد
وقراءة تراثه..
لأحد حواراته مع الجريدة، قصة لا بد من روايتها..
تصادف أننا كنا في زيارة إلى الصين الشعبية، في دجنبر 2010.
وكان الوفد المغربي يضم وقتها أحزاب الكتلة الثلاثة، الاستقلال والاتحاد والتقدم. وقد كان العبد الضعيف لربه ضمن الوفد بمعية أخوات وإخوان من المكتب السياسي آنذاك .. وكان من ضمن وفد الاستقلال كل من عبد الإله بوزيدي وعائشة أبو عالي، وكيلة اللائحة النسائية الاستقلالية والبرلمانية حاليا، مجدي الكوهن من القيادة الوطنية أيضا..
وتلك الفترة لم تكن الأمور على محجتها بين الحزبين..
وفي معرض المناقشة «الموضوعية» في بلاد العجائب الصينية وفي حميمية «الغربة»…
ووقتها سألت عن الفقيد بوستة ورأيه في الأجواء العامة ..
وكان شتاء بيكين يعدنا بفبراير على مرمى سنة.
أحد الإخوة من وفد الاستقلال حدثني عن تقدير مغاير لما كنا نتابعه .. بمجرد العودة من الصين، وكانت ذكرى الفقيد بوعبيد على الأبواب طلبت من الزميلين البومسهولي والكباص إجراء حوار مع الفقيد بوستة وطرح أسئلة بحد ذاتها.
وكان الجواب الذي لم أنتظره حقا، ولعل من الأمانة وحسن التوديع أن أعيد فقراته كما سجلها الإخوة، وكما صدرت على صدر الجريدة :
-1- عبد الرحيم لم يكن يرفض النظام الملكي، لأنه مترسخ في المغرب. لكن كان يرغب في نظام ملكي على أساس ديمقراطي سليم، يضمن مشاركة الشعب في تسيير وتدبير شؤونه. ودائما بدون تطرف، لأن عبد الرحيم كان في ما يتعلق بالمبدأ واضحا و في ما يتعلق بالأساليب الموصلة لتحقق هذا المبدأ، مَرنا في مواقفه،وكانت هذه هي ميزته…
-2- عندما أصدر عبد الرحيم رده الشهير على مقترح الاستفتاء (…) كان في عمقه رد فعل رجل وطني غيور لا يرغب في حل بطيء للقضية الوطنية يتم عبر مراحل طويلة. وذلك خلافا لموقفه سنة 1963 بخصوص موريتانيا والحدود الشرقية للمغرب. و لابد أن أذكر بقضية وقعت قبل هذه كان فيها موقف عبد الرحيم موقف رجل دولة حقيقي (..) يجب أن نشير إلى أن موقف عبد الرحيم بخصوص الاستفتاء كان له أثر جد مهم لأن منه انبثقت مواقف أخرى لا في ما يهم الصحراء بصفة خاصة ولا في ما يتعلق بالتطور الذي وقع بالمغرب، وهذه مسألة أساسية كان لي الحظ و الشرف أن شاركت فيها. بالفعل وقعت أغلاط و فشلت عدة محاولات ولكن وقع تطور في التفكير حتى عند الملك الحسن الثاني بفعل المواقف التي اتخذتها الحركة الوطنية. وهنا سأذكر مسألة أساسية بالنسبة لي .
-3- وصية سي علال الفاسي:
(أ)– لا تتركوا الملك لوحده مع الجماعة التي تحيط به لأنهم كوارث حقيقية فقد جعلوه يسلم في ثلاث أرباع المغرب في معاهدة إفران ومعاهدة تلمسان ، وكانوا سيقومون بكارثة أسوأ بمحاولة اغتياله، لأنه لوتم ذلك لدخلنا في متاهات مماثلة لتلك التي وقعت في الشرق، فذلك لم يكن ثورة وإنما إجهاضا للثورة لأن الثورة الحقيقية هي الحرية والديمقراطية.
(ب)– ما يهمني هنا ويهم إخواننا في الاتحاد الاشتراكي بصفة عامة هو أن العمل الوطني لن يتم بجدوى وبنتيجة إيجابية إلا باتفاقنا مع الإخوان الذين انفصلوا عن الحزب فهم الوطنيون الحقيقيون .
-4- أسرار الضفتين: كان عبد الرحيم ـ وهذه شهادة لابد أن أدلي بها ـ كلما أقدم على خطوة مثل هذه سواء مع الملك أو مع حزب الاستقلال الذي تربطه به روابط متينة لأنه من مؤسسيه، كان يفكر دائما في رد فعل إخوانه بالخارج . وكان من حسن حظي أن يشركني معه في أسراره المتعلقة بهذا الباب . وهذا ما جعلني في ما بعد أقوم بالاتصال بهم بالخارج و عقد اجتماع معهم ببيت امبارك بودرقة و القيام بالعمل الذي تم إنجازه . لأن اعتبار آراء الإخوان بالخارج كان مسألة أساسية لدى عبد الرحيم مهما بلغت حدة اختلافهم معه .
-5- العمل المشترك: في» توحيد الصف كان لدينا سوابق في هذا الموضوع مع الأسف فشلت أو أعطت نتائج جزئية . الأولى كانت في 1963 وهو ما يجهله الكثير من الناس . ففي انتخابات هذه السنة وباقتراح مزدوج من سي علال و سي المهدي رحمهما الله، شكلنا لجنة لإفراز مرشح مشترك. وكانت اللجنة تضم من جهة حزب الاستقلال وباقتراح من علال الفاسي الطاهر غلاب و عبد ربه ومن جهة الاتحاد المهدي و سي منصور. اتفقنا على أنه حتى إذا لم نتمكن من إفراز مرشح مشترك على الأقل أن نتفادى منافسة بعضنا. أعطى ذلك نتيجة لم تكن تامة و لكن تمكن الحزبان معا من حصد ما يقارب نصف مقاعد النواب رغم التزوير الفظيع الذي هيمن على عملية الانتخاب. والمهم في الأمر هو أن هذا الاتفاق و المواقف التي اتخذها الحزبان بشكل مشترك بالبرلمان و تقديمهما لملتمس الرقابة والخطابين الشهيرين لعبد اللطيف بن جلون والطريس كل ذلك أثمر نتيجة عظيمة بالنسبة للرأي العام . والمحاولة الثانية كانت في 1970 عند إنشاء الكتلة الوطنية التي مثلت إنجازا كبيرا حينها لأن قلق المخزن في ذلك الوقت كان متأتيا من اتفاق حزب الاستقلال مع الاتحاد الاشتراكي وهو ماكان يحارب بقوة سرا و علنا . فشلت هذه الخطوة مع الأسف لأسباب داخلية . بعدها كان عبد الرحيم دائما مستعدا للعمل المشترك بين الحزبين الذي اتفقنا على الإعلان عنه. كان ذلك في مناسبة انعقاد مؤتمر حزب الاستقلال سنة 1989 وكذا مؤتمر الاتحاد حيث اتفقنا على توحيد مواقف الحزبين و قبلها مسألة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي كان لي أنا أيضا دور في تكوينها .
-6- الوضوح: عبد الرحيم دائما واضحا، فهو ليس ضد النظام لكنه يريد نظاما قائما على أسس سليمة، وكانت لديه رؤية بالخصوص في ما يتعلق بالإصلاح الدستوري، بحيث يتم توضيح الدور الرئيسي لرئاسة الحكومة، وعملية تكوين الحكومة، والكيفية التي يجب أن تتشكل عليها، وأن يُعطى دور أساسي لمجلس النواب عندها كنا نتحدث عن غرفة واحدة فقط ، بأنه لا يجب أن تخضع الحكومة لإرادة الملك فقط، ولكن كذلك أن تخضع للناس الذين يمثلون الشعب، أي البرلمان، وإذا رفضوا، فطبعا للملك الحق أن يغير ويسمي وزيرا آخر، وهذا حق معطي لكل رؤساء الدول، ولكن أن تكون المراقبة و حق الفيتو رفض المجلس قضية أساسية، كان عبد الرحيم يوضح هذه الأشياء، وهذا هو ما كتب في المذكرة، أنا لم أحفظ المذكرة بالحرف ولكن ما أعرفه أن في روحها كان عبد الرحيم يسعى أن تتغير الكيفية التي يمشي عليها المخزن بالمغرب، ليس هو ضد النظام لقلبه أو شيء من هذا القبيل، لكنه يريد أن يكون نظاما سليما وقويا، معتمدا على الديمقراطية الحقيقية، كان الكثير من إخوانه يخالفونه لكنه كان يعرف طريقا واحدا يرى أنها هي الأساس، أعطت بالفعل نتائجها، كان رحمه الله يراها بشكل صوفي، لم يكن ليراها بشكل ذاتي أو لقضاء مآرب خاصة ولكن يراها لمستقبل المغرب»…
سيحفظ جيلنا للرجل أنه الزعيم الذي نحت كلمة سياسية بارعة، من سجل المتداول المغربي، ليصف وضعا مغربيا حصريا، كلمة الانتخابات المخدومة، والتي لم يغامر أحد بترجمتها..لهذا ظل اسمه مقترنا برفضه لمغرب «مخدوم»..
وظل يستطيع الكلام عن الديموقراطية وهو تحت ظلال الشرعية والثوابت، واتساع الحياة، بتقدير الناس، بالرغم من حوادث السياسة المتراكبة، والتي لا تعطي عادة فرصة للتمييز..
لم يذهب إلى آخر العمر وحده، ولم يتواطأ إلا مع ما كان يملكه من مقومات وطنية استقلالية.. تماما كما قال درويش في «ورد أقل» «ليفيد مكوثه على حافة الأرض بين حصار الفضاء وبين جحيم التردي.»