يتابع الرأي العام اليوم النقاش الدائر حول التأخير في تشكيل الحكومة منذ تعين السيد عبد الاله بنكيران من قبل جلالة الملك في يوم 10/10/2016 أي اليوم الثالث بعد تاريخ اعلان نتائج الانتخابات البرلمانية., و هو التعيين الذي ترجم به جلالة الملك التزامه بالوثيقة الدستورية وفق ما اعلن عليه في الخطاب الذي القاه بعد تصويت المغاربة على دستور 2011 و في نفس الوقت يوجه الانظار الى مدى التزام باقي الفاعلين السياسيين بنفس الوثيقة الدستور.
ذلك النقاش الذي كان يدور حول المفهوم الدستوري للفصل 47 من الدستور و الإمكانات التي يتيحها و العرض الدستوري الذي يقدمه. و هو النقاش الذي تدخلت فيه كل فئات الشعب المغربي من أساتذة جامعيين في القانون الدستوري الى المواطن العادي مرورا بكل الآراء الصحفية التي تناولت الموضوع.
فدستور 2011 عندما سن , لأول مرة في تاريخ الدساتير المغربية, على القاعدة الدستورية المذكورة في الفصل 47 فهو لم يسن قاعدة ذات بعد قانوني محدود و إنما طوى مرحلة من النظام السياسي المغربي و أسس لمرحلة سياسية جديدة متقدمة على عدد كبير من الدساتير في الدول الماثلة للمغرب و لاءم النظام السياسي مع ارقى الديموقراطيات في العالم . وذلك بتنازل الملك على حق الوحيد في تعيين رئيس الحكومة ونقله الى إرادة الامة المعبر عليها بواسطة الاقتراع العام عندما نص على الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر انتخابات مجلس النواب.
لكن هذه العملية الانتخابية التي تلعب فيها الأرقام الدور الأكبر ليست مطلوبة لذلتها أي لمعرفة من هو الحزب الذي سيرتب في المرتبة الاولى في المغرب, لان من يقف عندها النوع من التحليل سيفرغ الديمقراطية و الانتخابات العامة من أي مضمون انساني و سياسي و حقوقي .
لذا من المفيد الرجوع الى الصياغة التي اختارها مشرعو دستور 2011 لنجد ان الفصل له مضمون يتجاوز قراءة الكلمات التي كتب بها كما سنرى فيما بعد
غير أنه من المفيد لفت النظر إلى أن قراءة وتفسير القواعد الدستورية يختلف بكيفية كلية عن قراءة وتفسير القواعد القانونية العادية، لأن القواعد الدستورية تشمل وتستوعب القواعد القانونية المنظمة للعلاقات الفردية وتشمل بالإضافة لذلك القواعد التي تنظم سير المؤسسات الدستورية.
فإذا كان تفسير وقراءة القواعد القانونية يجب، في جل الحالات وليس في كلها، التشبث بحرفية النص فإن ذلك مرده إلى كون القواعد القانونية هي تنظم علاقة الأفراد فيما بينهم اي تنظم مصالحهم الخاصة وبالتالي من حق كل طرف في نزاع مع غيره أن يتمسك بحرفية النص لأنها إما تحمي مصالحه أو تبعد عليه مسؤولية عمل معين. ففي هذا النوع من القضايا نحن أمام مصالح فردية خاصة لا علاقة لها بمصالح الدولة والمجتمع.
بينما القواعد الدستورية، فهي إلى جانب أن بعضها يشكل قواعد قانونية حامية للمصالح الفردية، فهي تشمل قواعد تنظيم تدبر الشأن العام، أي تدبير المشترك بين جميع افراد هذا البلد السعيد و جميع مؤسسات الدولة أي تدبير المصالح الكبرى و المشتركة.
فهذه القواعد الدستورية تسهر على ضمان السير العادي للمؤسسات الدستورية.
لذا، فقراءة نصوص القواعد الدستورية تلزم التخلي عن جلباب رجل القانون المهتم بتوازن مصالح الفرد الخاصة , واعتماد قراءة وتفسير لتلك القواعد من أجل ضمان سير المؤسسات الدستورية وليس ايقاف عملها و عرقلة ذلك السير انطلاقا من قراءات لغوية ضيقة لفصول الدستور المغربي.
من المعلوم أن المغرب لم يعرف دستورا أكثر تقدما وانفتاحا وفصلا للسلطات و ضمانا لتوازنها مثل دستور 2011، مما يلزم علينا أن نقرأ الدستور بأفق التوسيع في فهم قواعده ، وأن لا ننهج خطوات فقه التضييق في قراءة لفصوله بطريقة لا ترى من أفق إلا الحواجز و العراقيل ، بينما يلزم أن يتم اعتماد فكر التفتح و فكر المعابر والجسور لتجاوز الاشكالات التي من شأنها أن تعرقل سير المؤسسات العامة وعلى رأسها تشكيل الحكومة من جهة ، وإطلاق أشغال برلمان جديدة وليس المطالبة بحله وتسريح البرلمانين الجدد مع استحضار الوقع النفسي للناخبين و أثر ذلك على إشكالية المشاركة في عمليات الاقتراع بالإضافة الى الكلفة المالية الضرورية لإعادة الانتخابات.
لذا عندما نعود الى الصياغة التي استعملها مشرعو دستور 2011 عند كتابتهم للفصل 47 نجدها كما يلي:
“يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي يتصدر انتخابات “أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها.
فالفصل المذكور لم ينص على أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب الذي يحصل على أكثر عدد من المقاعد في البرلمان وإنما حرص المشرع الدستوري على استعمال صياغة و كلمة ( تصدر) بدل كلمة (يتوفر على أكبر عدد من المقاعد)
كما ان الفصل المذكور لم يقف عند الحزب الي يتصدر الانتخابات، فقط، وإنما لا بد أن تكون تلك الصدارة مستخلصة من نتيجة الانتخابات.
وهو ما يعني أن العبرة ليس فقط بعدد المقاعد التي يحرز عليها حزب معين، وإنما يجب، كذلك، أن يتلاءم عدد المقاعد مع الغرض والنتيجة من الانتخابات، لأن جملة “على أساس نتائجها” تعود على الانتخابات و لا تعود على الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد.
ومن غير الضروري التذكير بأن الغرض والنتيجة من الانتخابات ليس هو معرفة من هو الحزب الذي يتوفر على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان كما سبق الإشارة اليه أعلاه , إذ أنه إذا كان الامر كذلك فإن الانتخابات ستكون في هذه الحالة عبثا ولن يشارك فيها أي أحد.
بل أن الغرض والنتيجة من الانتخابات البرلمانية في العالم كله كما هي في المغرب هو تكوين أغلبية من نواب الأمة لتنبثق عليها حكومة تستطيع تسيير الشأن العام باسم تلك الأغلبية، باعتبار أن السيادة هي للأمة يمارسها بواسطة نوابها طبقا للفصل 2 من الدستور
فالنتيجة إذن من الانتخابات هي تكوين أغلبية برلمانية من نواب الأمة الذين هم الممثلون لسيادة للأمة , تسمح , أي الأغلبية البرلمانية , بانبثاق حكومة تستند على تلك الأغلبية في تدبير السلطة التنفيذية.
لذا، لم يكتف مشرعو دستور 2011 وهم يكتبون الفصل 47 بحصر مهمة تعيين رئيس الحكومة في الحزب الذي يحصل على أكثر عدد من المقاعد فقط، وإنما وضعوا شرطا آخر هو أن تلك الصدارة لا يجب ان تكون للأرقام فقط و انما يجب ان تكون لها علاقة بالنتيجة من الانتخابات أي أن يستطيع ممثل الحزب المذكور أن يشكل أغلبية من النواب المكونين.
وأن هذا الفهم وهذا التفسير منبثق ومستمد من استحضار عنصرين أساسين واضحين في صياغة المادة 47 المذكورة:
-العنصر الأول: هو أن مشرع الفصل 47 لا يقول بأن تعيين رئيس الحكومة يكون من الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد، وإنما استعمل جملة الحزب الذي يتصدر انتخابات و بطبيعة الحال فهو يتكلم عن انتخاب مجلس النواب.
علما أنه لا يمكن أن ينسب لمشرعي الدستور لا الخطأ في التعبير و لا عدم الالمام بمفهوم الكلمات المستعملة في صياغة نص دستوري.
فالمشرع الدستوري لو أراد أن يحصر مهمة تعيين رئيس الحكومة في الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد في قبة البرلمان، لنص على ذلك صراحة باستعمال جملة ” (حصل على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان).
مع أن الكل يعلم أن اللجنة التي عهد لها بصياغة القواعد الدستورية اختيرت من خيرة أطر هذا البلد.
-العنصر الثاني: إذا كان مشروعو دستور 2011 يريدون أن تحصر مهمة التعيين في الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد فقط، لماذا أضافوا في نفس الفصل جملة (وعلى أساس نتائجها) علما أن كلمة “نتائجها” لا تعود على الحزب وإنما يعود على عملية انتخابات أعضاء مجلس النواب.
ومن غير المنازع فيه أن الغرض والنتيجة من أي انتخابات برلمانية في دولة حديثة مثل المغرب هو تشكيل أغلبية من أعضاء مجلس النواب تساند وتؤيد الحكومة التي ستشرف على تسيير الشأن العام.
فشرط أغلبية النواب الذي يجب أن تتوفر عليها الحكومة ليس شرطا شكليا عاديا، وإنما هو شرط مرتبط بتنصيبها دستوريا.
ذلك أن دستور 1996 وما قبله من الدساتير التي عرفها المغرب لم يعط للبرلمان أي سلطة في تعيين أو تنصيب الحكومة لأن تلك الدساتير حصرت مهمة البرلمان في قبول أو رفض برنامج الحكومة المعروض عليها، إما الحكومة فإن تعيينها يدخل في الاختصاص الخاص للملك.
لكن، التقدم الذي أحدثه دستور 2011 هو أن الحكومة لكي تحصل على شرعية الوجود الدستوري لابد ان تمر في مرحلتين:
-مرحلة التعيين من قبل الملك تطبيقا للفقرة الثانية من الفصل 47 المذكور اعلاه.
-مرحلة التنصيب من قبل البرلمان وذلك تطبيقا للفقرة الأخيرة من الفصل 88 الذي ينص على:
“تعتبر الحكومة منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب، المعبر “عنها بتصويت الأغلبية المطلقة لأعضائه الدين يتألق منهم لصالح “البرنامج الحكومة
وهكذا يتبين أن الحكومة التي لا تتوفر على أغلبية برلمانية لا يمكن أن يتم تنصيبها من قبل مجلس النواب، أي لا يمكنها أن تخلق وتوجد من الناحية الدستورية وبالتالي من الناحية الشرعية الدستورية.
وإذا كانت الحكومة لا تستطيع الحصول على تصويت الأغلبية المطلقة للنواب فهذا يعني أنها لا تتصدر نتائج الانتخابات.
ومن المفيد الالتفات , كما سبق ان اشرت اليه في مقال أخر , مثلا إلى ما يقع بلدان أخرى وعلى الخصوص ذات النظام الملكي، ففي إسبانيا مثلا تابعنا كيف أن الملك عين رئيس الحزب الشعبي الذي حصل على اكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية للمرة الثانية بعدما فشل في المرحلة الأولى في تشكيل اغلبية في البرلمان فاضطر رئيس الحزب الشعبي لفتح عملية تفاوض جديدة مرة أخرى قصد تكوين اغلبية برلمانية تساند حكومته .
و ان رئيس الحزب الشعبي اجرى مفاوضات عسيرة و معقدة و قدم تنازلات أدت به الى إقناع الحزب الاشتراكي الى الامتناع عن التصويت حتى شكل حكومته.
فمبدأ و آلية التفاوض هي التي تعطى الشرعية الدستورية لقائد الحزب الأول لانها تجعل منه قوة تمكنه من تكوين اغلبية تسند حكومته .
وهكذا ، يتبين من دستور دولة ملكية أوروبية مجاورة و هي المملكة لاسبانية أنه من العادي والطبيعي أنه بعد كل انتخابات برلمانية يقوم الملك بتعيين رئيس الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد ويطلب منه تشكيل حكومته، وهذا الأخير يفتح مفاوضات مع كل الأحزاب و يقدم تنازلات او تسويات او يقدم وعود مقنعة يضمن تحقيقها بسمعة شخصية و بوزن حزبه لدى الرأي العام ليكون الأغلبية التي ستصادق له على برنامجه و تكون له حكومته.
فحل برلمان انتخب حديثا هو أمر لا يلجأ له بسهولة وإنما لا يمكن أن يكون إلا الحل الاخير أمام استحالة تشكيل أغلبية برلمانية من كل الأحزاب المكونة للبرلمان.
وأن نفس الأجراءات تمارسها مملكة بريطانيا عندما تعين الملكة رئيس الحكومة من الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد لكن قبل تنصيب حكومته يتعين عليه أن يشكل أغلبية برلمانية تدعم تشكيل الحكومة.
لهذا فإن تفسير الفصل 47 ، لا يجب ان ينصرف للاهتمام بالحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد, لان نظام الاقتراع المبني على اللائحة الجاري به العمل اليوم في المغرب لا يسمح ، بسهولة، لأي حزب بالحصول لوحده على الأغلبية المطلقة لأنه نظام مبني على ضرورة تمثيل تعددية الأحزاب ليس فقط في المشاركة في العمليات الانتخابية وإنما ، وكذلك، بالمشاركة في تدبير الشأن العام، أي المشاركة في تكوين حكومة.
لهذا فإن الفصل 47 ليس نيشان يعلق على صدر رئيس الحزب الذي يتقدم على باقي الاحراب في عدد النواب , بل هو باب يفتح لهذا لرئيس هذا الحزب ليمتحن و في تحمل المسؤولية الحقيقة من وراء الانتخابات التي يلقيها الدستور عليه و هي التفاوض من أجل تكوين اغلبية التي ستسند عليها حكومته التي سيقدمها للملك.
لهذا لا يجب ان ينظر للفصل 47 من الدستور كامتياز للحزب الذي حصل على عدد اكبر من عدد النواب وإنما يجب ان يفهم منه انه امتحان لمن يعينه جلالة الملك في القدرة على تكوين اغلبية التي ستسند الحكومة التي سيقدمها للملك و للبرلمان ليحصل على تنصيبها.
لهذا فان الفصل 47 يتوجه للمثل الحزب الذي عينه جلالة الملك بعدما اقنع اكبر عدد من الناخبين ان ينتقل لمرحلة أهم و هي إقناع اغلبية الاحزاب لكي يضمن تعيينه حكومته من قبل جلالة الملك و تنصيبها من قبل البرلمان.
و من المفيد التذكير ان ما ميز المغرب منذ بداية الاستقلال و عند وضع الاسس الاولى لبناء الدولية المغربية هو حرص المغفور له محمد الخامس و رجال الاحزاب الوطنية و على عدم السماح و القبول بالنظام السياسي المعتمد على الحزب الوحيد كما هو الشأن في جل الدول العربية على الخصوص , و إنما اعتمد على التعددية الحزبية كأساس لبناء الدولة المغربية من أجل ضمان استقرار البلاد و هو الفكر الذي اطر كل الدساتير المغربية و اكد عليه دستور 2011 .
فالتفسير الحقيقي للفصل 47 يعني تحميل ممثل الحزب الذي حصل على اكبر عدد من البرلمانيين مهمة التفاوض والبحث على من يسانده من باقي الأحزاب الممثلة في البرلمان لتشاركه تكوين أغلبية من عدد نواب الامة ، أي أن الفصل 47 هم امتحان لقدرة رئيس الحزب المعين من قبل جلالة الملك على التفاوض مع باقي الأحزاب الأخرى بما يعني من قدرته على الاقناع و على الاستعداد لتقديم بعض التنازلات الحزبية من اجل اشراك الأحزاب الأخرى في البرنامج الذي سيعرض على البرلمان ليصوت عليه أغلبية الأعضاء.
لذا، فإن الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد ملزم بأن يتحالف مع أحزاب آخرى لا أن يعتبر أن المهمة سهلة و القول بأن سلطات الملك موضوعة بين اختيار اما الابقاء عليه او حل البرلمان، بل يجب أن يفهم و يفسر الفصل 47 بكون امتحان لممثل الحزب الذي حصل على اكبر عدد من المقاعد على قدرته في التفاوض السياسي لأنجاح المهمة التي عين من اجلها و هي تشكيل الاغلبية البرلمانية.
أما من يفسر الفصل 47 بانه يعني حل البرلمان المنتخب حديثا والدعوة لانتخابات أخرى فإنه تفسير جامد لذلك لفصل ولا ينهل و لا يستوعب الغاية التي من أجلها خلق الانتخابات و لا الغاية التي من اجلها خلقت فكرة تعد الأحزاب.
فلننس فكرة إعادة الانتخابات وليبرز رئيس الحكومة قدرته في التفاوض و الإقناع من اجل تكوين أغلبية من الأحزاب لكي يشكل الحكومة التي سيقدمها لجلالة الملك.