إذا لم تكن أحداث ما يسمى «الربيع العربي» قد فعلت شيئاً آخر غير إماطة اللثام عن أزمة السلطة والنظام السياسي فـي البلاد العربية المعاصرة، فقد فعلت كل شيء. نقول هذا بمعزل عن موقفنا من أحداث «الربيع» تلك، ومن الوظائف التي أريد لها تأديتها فـي الاجتماع السياسي العربي؛ ذلك أن الأحداث إياها ما كان لها أن تندلع وتنتشر، على النحو الذي حصل، لو لم تجد بيئتها الخصبة وشرطها الموضوعي فـي أزمة النظام. وحتى لو أمكنها أن تندلع، بقدرة قادر، ما كان لها أن تتفاقم وتستفحل لولا أنها وجدت فـي الأزمة تلك ما يمدها بأسباب الحياة بعد إمدادها ببعض أسباب المشروعية. وأزمة النظام السياسي مركبة ومتداخلة الأبعاد، ولكنها تقبل الاختصار فـي أظهر مظاهرها: الاستبداد؛ وهو شكل من السلطة ونظم الحكم عريق فـي بلادنا، ذو جذور ممتدة فـي التاريخ، لكنه تجدد واكتسب وجوهاً أخرى مستمدة من خبرات أنظمة الحكم الحديثة ذات الطبيعة الكلانية (التوتاليتارية) أو الديكتاتورية، نتيجة اتصال أسباب العلاقة بين مجتمعاتنا ومجتمعات العالم المعاصر، وتأثيرات تجارب ونماذج فـي الحكم عالمية فـي مجتمعاتنا ونخبنا السياسية.
منذ مطالع القرن العشرين – حين كتب الكواكبي كتابه الشهير عن الاستبداد – وحتى يوم الناس هذا، لم يتوقف الوعي العربي عن القدح فـي هذه اللوثة، والتنبيه إلى مخاطرها، وبيان ما يدفعه المجتمع والناس من باهظ الغرامات نتيجةً لفشوها. ولكن أحداً منا لم يكن يتخيل أن يعيد الاستبداد إنتاج نفسه فـي نقائضه، فـيصبح ضحاياه من حزبه وعلى مثاله! فالقاعدة أن الظاهرة تستثير نقيضها الذي يمانعها ويغالبها، وأن الاستبداد – تبعاً لهذا- آيل بمجتمعاتنا إلى توليد نزعات متعددة إلى الحرية والديمقراطية وحكم القانون؛ وليس هذا ما حصل فـي تاريخنا المعاصر، وإن حصل شيء منه فهو جزئي لا تجري به القاعدة مجرى العادة. ثم إن أحداً منا ما كان ليتخيل كيف يمكن للاستبداد أن يبدل فـي الطبائع البشرية إذا كان يسيراً عليه أن يبدل فـي الأفكار والخيارات؛ فلقد يكون أكثرنا فوجئ بتلك الكمية الخرافـية المخيفة من العنف ونوازع الشر التي أفصحت عنها حروب داخلية أطلقها الاستبداد والتدخل الأجنبي من وراء حجاب؛ ولقد يكون بعضنا صدم من ذهاب المعارض فـي اقتداء الحاكم فـي بطشه وشدته إلى حيث بزه وتفوق عليه! وبالجملة، فجر الاستبداد خوافـي الاجتماع العربي ليخرجها إلى السطح، وليعيد طرح السؤال عن منزلة الاستبداد من المنازل: هل هو العلة أم المعلول، أم هو هما معاً؟
الاستبداد، إذن، هو تلك الثمرة المرة التي يثــمرها نظام سياسي يعجز عن التعبير عن توازنات المجتمع وحقائقه، السوسيولوجية والسياسية، تعبيراً مطابقاً فـيبدو- للأسباب تلك – نظاماً مغلقاً لنخبة سياسية ضيقة ذات قاعدة تمثيلية محدودة. فـي مثل هذا النظام الضيق المغلق، تكون النخبة الحاكمة نخبةً فئوية على وجه الضرورة. وهي كذلك-أي فئوية-بالمعاني كافة لعبارة فئوية؛ فقد تكون مبنى فئويتها على استنادها إلى طائفة بعينها، أو مذهب بعينه، من دون سائر الطوائف والمذاهب (وما أزخر البلاد العربية بها)؛ وقد تكون مبناه (قبلية أو عشائرية أو أقوامية أو مناطقية أو عائلية) من دون غيرها من العصائب، كما قد يكون مبناها على فئوية حزبية يصادر فـيها «الحزب الواحد» أو «الحزب القائد» السلطة والسياسة، على حساب غيره ممن تقصيه الفئوية من الحياة السياسية، على حساب غيره بقوة العنف القمعي أو العنف القانوني. وحين يكون النظام نظام نخبة سياسية فئوية، فمعنى ذلك أن قاعدته الاجتماعية غير تمثيلية، وأنه يعاني نقصاً حاداً فـي الشرعية السياسية. وهو نقص لا يمكن سده باللجوء إلى خداع سياسي من قبيل إجراء انتخابات شكلية، أو منقوصة، أو يشوبها شوب من تزوير، أو تنظيم استفتاءات على دساتير ممنوحة من الحاكم، وليس موضع توافق وطني؛ فلقد تكون أدوات «الحداثة السياسية» مطواعةً فـي أيدي المستبدين، بمن فـيهم من لا يعرفون من الاستبداد إلا أشكاله التقليدية البدائية الموروثة من القرون الوسطى!
لم تنته الأزمة بسقوط أنظمة سياسية هنا، وسقوط أنصافها هناك، ودخول قسم ثالث آخر منها فـي صراع وجودي لحفظ بقائه؛ وهي-أيضاً -ما انتهت بقيام أنظمة جديدة، ولا انتهت من طريق اتعاظ من لم يسقط بدروس من سقط، وإنما هي مستمرة فـي التفاقم والاستفحال فـي طبعات النظام السياسي العربي كافة: من سقط منها، ومن قاوم السقوط، ومن لم يسقط بعد، ومن قام عقب سقوط سابقه. إن أزمة النظام السياسي أبعد وأعقد من أن تحل بإزاحة نظام أو، بالأحرى، رموزه حتى لا نقول إنها، بمثل تلك الإزاحة التي جرت، تستفحل أكثر وتدخل فـي تكوينها ونظام اشتغالها عوامل جديدة، لم تكن فـي جملة مكوناتها السابقة، يستعوص بها أمرها أكثر من ذي قبل. لم يقدم «الربيع العربي» حلاً لأزمة السلطة والنظام السياسي، وأنى له أن يفعل وهو الذي أتى محمولاً على أي صهوة ما عدا صهوة المشروع الوطني الديمقراطي التوحيدي التنموي، ولكن «الربيع» ذاك قرع ناقوس الخطر، ورفع درجة الانتباه العام إلى المخاطر التي ينطوي عليها استمرار الأزمة تلك فـي الاجتماع السياسي العربي؛ ليس على صعيد حقوق سياسية ستكون مهضومة فحسب، بل حتى على صعيد وحدة الجماعة الوطنية ووجود الكيان نفسه. واليوم، بعد أن انصرمت الموجة الكبرى الأولى من «الربيع العربي»، فأخذت معها ما أخذت وتركت ما تركت، سيكون على العرب، وقواها الفاعلة، الوقوف وقفة شجاعة للتفكير فـي هذه الأزمة التي تهدد بقاء الشعوب والكيانات موحدة حتى داخل أقفاصها الضيقة. وعلينا أن ندرك أن هذه الأزمة التي أتت بـ «ربيع مدمر» قد تأتي بما هو أكثر تدميراً منه فـي المستقبل إن لم تجد جواباً اجتماعياً ــ سياسياً عنها.