عندما يتأمل المرء في الحياة يجد أنها سؤال، وأن قيمته كإنسان تكمن في طرح الأسئلة ، و أن خصوصيته كذات مفكرة تتمثل في قدرته على طرح الآسئلة، وهو ما يجعل منه كائنا متسائلا.

ويفضي التأمل في ثقافتنا العربية الإسلامية السائدة إلى استخلاص أن ورطتهاالكبرى تتجسد في عجزها عن طرح الأسئلة، لأنها تقوم على الأجوبة المطلقة، ما يعني أنها ترفض الأسئلة وتنهض على نفيها وتحريمها وتجريمها، وتكمن قيمة الأسئلة في عمق وسعة الأفكار التي تثيرها. ويبدو لي أن ثقافتنا السائدة اليوم لا تحول فقط دون قدرتنا على طرح الأسئلة، وإنما ترفض نشرها وإشاعتها. فمن الضروري أن يتساءل الإنسان حول الحياة ومعناها وطبيعتها وكذا حول الآخر وقيمته وعلاقته به…

يقول أبو حيّان التوحيدي “الآخر صديق هو أنت”. يبدو لي أن هذه القولة تلامس معنى الهوية، حيث إن طرح سؤال الآخر يفضي إلى طرح سؤال الهوية، ويستوجب طرح سؤال الذات طرح سؤال الآخر. لكن مفهوم الهوية عندنا مبتسر ومشوه، إذ يتم اختزاله في مفهوم “الميراث الثقافي” الذي نرثه عن أسلافنا، وذلك كما يرث الإنسان منزلا أو عقارا عن والديه أو أجداده وهذا أدنى مستوى من مستويات الهوية. كما أن الآخر بالنسبة لموروثنا الثقافي هو محط شك وريبة؛ فإما أن يكون منا ويعتقد في ما نعتقد فيه، وإلا فإنه ضدنا، بل عدو لنا”. وهذا ما يجعله مستهدفا من قِبلِنا.

إننا لا نتوقف عند هذا الحد، بل نسعى إلى تذويب الآخر في ذاتنا رغبة في السطو على كينونته. وهذا ما ينطبق على كل الهويات المغلقة، مع فارق في الدرجة لا في النوع . ويعبر عدم الاعتراف بالآخر عن رفض حقه في الوجود،وبالتالي رفض حقه في الحياة، ما قد يفضي إلى السعي إلى استئصاله واجتثاثه، وهذا ما يفسر الصراعات الدموية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، حيث تسود الكراهية الناجمة عن ثقافة العنف الضاربة الجذور عميقا في ثقافتنا العربية الإسلامية وتاريخنا. وهذا ما يفسر رفض بَعضُنَا للبعض عبر سيادة الثقافتين القٓبٓلِية والطائفية، حيث ليست هناك وحدة عضوية داخل مجتمعاتنا، ويعود ذلك لسيادة ثقافة الكراهية وغياب ثقافة التفاهم والحب، ما جعل نسيجنا الوطني غير متماسك، الأمر الذي يفسر ضعف لحمتنا الوطنية وهشاشتها، حيث صار سهلا على القوى الأجنبية تفجيرها عبر توظيف العوامل القبلية والطائفية….

فضلا عن ذلك، يقود التأمل في ثقافتنا المدرسية إلى اكتشاف أنها غارقة في ثقافة العنف ورفض الآخر، حيث تفتقر مدرستنا إلى الشروط الديداكتيكية والبيداغوجية التي تمكن المتعلِّم من طرح أسئلته الخاصة، ما يحول دون انطلاق تفكيره وانخراطه في بناء معارفه وقيَّمِه وذاته، فالمدرسة عندنا ترفض أسئلة المتعلِّم، وبذلك تقتل فيه حب الاستطلاع وتشوه طبيعته التواقة أصلا إلى اكتشاف العالم والآخر. فهي تمنع المتعلِّم من استعمال فكره ومخيلته، ما يحول دون نموه، ومنحه لحياته معنى، حيث لن يكون له صوته المستقل، ولن يمتلك فكرا نقديا، إذ يقتضي ذلك تمكينه من القدرة على ممارسة النقد الإبستولجيي والأنطولوجي.

خلاصة القول، إننا لا نعرف ذاتنا ولا ندرك أنه ليست هناك هوية جاهزة، وإنما هي صيرورة يتم ابتكارها باستمرار من خلال ما ننجزه وما نبدعه، إذ نتطور عبر ذلك ونصير أكثر انفتاحا على العالم والآخر في آن واحد.

إننا لا نعي أن الآخر ليس مجرد إنسان نحاوره، وإنما هو جزء من بنية هويتنا، حيث لا تكتمل الذات إلا بالآخر. وإذا حلم الإنسان بالسفر إلى ذاته، فإنه لا يستطيع فعل ذلك إلا عبر الآخر. يقول جوته:إن من لا يعرف لغة أجنبية لا يعرف حتى لغته الأم.

عندما تقوم العلاقة بين الرجل والمرأة على الحب، فإنها تفضي إلى اندماجهما مع بعضهما البعض، فيصيران ذاتا واحدة، حيث تكون لهما هوية مشتركة، لذلك، ينبغي العمل ثقافيا على خلق هذه الهوية المشتركة بين الذات والآخر حتى يسود التفاهم والسلم في مجتمعات منطقتنا خصوصا، وعلى المستوى العالمي عموما.

الرباط:  الاحد 12 فبراير 2017.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…