لا تشبه أزماتنا – نحن فـي الوطن العربي والعالـم الإسلامي وقسم من بلدان الجنوب – أزمات بلدان الغرب (الأوروبي والأمريكي) فـي الطبيعة والاحتداد ، إن وضعنا الأزمات هذه وتلك فـي ميزان التحولات الجارية فـي نطاق العولـمة، وما تستجره التحولات تلك وتولده من مشكلات؛ فإلى كون كل منها مختلف الطبيعة، فنتائجها والتبعات – للسبب عينه- متفاوتة تفاوت الآثار التي تنجم منها هنا وهناك. ولقد يكون «أبده» جواب عن الفارق فـي القدرة على استقبال الأزمات تلك، وامتصاص ضغوطها، وتحييد آثارها السلبية، أن العالـمين يتفاوتان فـي حيازة البنى والأدوات والآليات الدفاعية بتفاوت مستويات التقدم فـيهما، وأن حظوظ بلداننا فـي مغالبة أزماتها ضعيفة إن لم تكن معدومة إن هي ضوهيت بحظوظ بلدان الغرب. لكن الجواب هذا – الذي قد نستبدله – ليس من البداهات فـي شيء، ولعله قد يكون، فـي أفضل أحواله، فرضية قابلة للصحة أو للبطلان تبعاً لنوع منطلقات وضع الـمشكلة، وتبعاً لزاوية النظر والتحليل. وآي ذلك أن رد التفاوت فـي القدرة على جبهة الأزمات فـي العالـمين إلى التفاوت فـي مستوى حيازة الأدوات الدفاعية (رد) يضمر اعتقاداً بأن العالـمين متجانسان (من جنس اجتماعي – سياسي، اقتصادي، علمي… واحد)، وأن التفاوت بينهما كمي درجي؛ يقع فـي مستوى اكتساب القدرات، وأن بلداننا ما إن تتقدم – على الطريق عينها- في اكتساب الأدوات نفسها حتى تحقق التأهيل الكافي للنجاح في استيعاب أزماتها. وهذه، في زعمنا، فرضية ميؤوس من إثبات حجتها عند القائلين بها، لأنها-بكل بساطة تذهل عن قاعدة ذهبية مقررة (فـي مأثورنا الفقهي): لا قياس مع الفارق.

والفارق، مثلما ألـمحنا، ليس فارقاً فـي الدرجة أو فـي الـمنسوب التراكمي، وإنما هو فارق فـي الطبيعة: فـي طبيعة التكوين الاجتماعي-السياسي وبالتالي، فـي طبيعة الأزمات التي تتولد منه. التشابهات الخارجية ليست ذات قيمة فـي منظور التحليل العلمي، ولا تغري فـي الوعي سوى حس الـملاحظة. أما عند التدقيق فتبدأ التشابهات تلك فـي التبدد. لنطالع أمثلةً لتشابهات تكشف عن شكلية مبناها تتقاطع فـيها بلداننا وبلدان الغرب. حتى مع التسليم بوجود قانون حاكم للعلاقة بين العالـمين، هو قانون التفاوت فـي التطور، إلا أن الـمشتركات بينهما عديدة: الرأسمالية، التحديث، البناء الديمقراطي والـمؤسساتي (فـي بعض يسير من البلاد العربية والإسلامية)، تسخير التكنولوجيا فـي الإنتاج وفـي الاستخدامات الاجتماعية.. الخ.

ينظر إلى الرأسمالية بوصفها نظاماً إنتاجياً معمماً على الصعيد الكوني، وبالتالي، نظاماً تتقاسم الانتماء إليه الـمجتمعات (الغربية)، الـمتقدمة صناعياً وتكنولوجياً، والـمجتمعات «النامية» أو «الـمتخلفة» فـي «العالـم الثالث»، وفـي جملتها الـمجتمعات العربية والإسلامية. وغالباً ما يعتقد أن الفارق بين هذه وتلك فـي التطور فارق كمي تراكمي، وأن الأخيرة منها («النامية») ما تلبث أن تلحق الأولى وتضارعها إن أخذت بسياساتها واستراتيجياتها فـي التنمية؛ وتلك عقيدة تسهر مؤسسات دولية -مثل «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي»- على إشاعتها وعلى حمل البلدان الصغرى على اعتناقها وتطبيق أحكامها. ولكن الذي لا يشار إليه، عند الحديث عن «كونية» الرأسمالية، هو أن نظام الرأسمالية يقوم على قاعدة عدم التكافؤ بين عالـمين يسود فـيهما: عالـم ميتروﭙولي مهيمن وعالـم طرفـي تابع، وأن مثل هذا الاستقطاب لا يترك مكاناً للعالـم الرازح فـي قيود التبعية كي يكسر إطار تلك التبعية، ويحقق استقلالاً اقتصادياً يؤهله للصيرورة نداً للعالـم الأول الـمهيمن.

وكما أوصلت الرسملة بلدان الجنوب إلى الرأسمالية، زجت بها فـي سيرورة من التحديث الـمادي: الاقتصادي والخدماتي والتقانـي، بدت بها وكأنها سائرة فـي الطريق عينها التي قطعت فـيها بلدان الغرب شوط الانتهاض والتقدم. بل كثيراً ما بدا أن بلداناً عالـم ثالثية ضاهت -أو كادت أن تضاهي- مثيلاتها فـي الغرب فـي مسيرة التحديث، على الأقل فـي ميادين إنشاءات البنى التحتية، والنمو العقاري، والقطاع الـمالي والبنكي، وإدارة الـمشاريع الاقتصادية… الخ. ومع أن أحداً لا يملك أن يجحد حقيقة ذلك النجاح الذي أحرزته بلدان عدة – فـي الجنوب وفـي الوطن العربي- فـي مضمار التحديث أسوةً ببلدان الغرب، إلا أن الفارق بين العالـمين أن التحديث فـي الغرب مقترن بمقدماته الثقافـية والاجتماعية (الحداثة)، بل هو وجه منها كما هي وجه منه، أما التحديث عندنا – وفـي بلدان الجنوب- ففعل مادي منفصل عن مقدماته الفكرية والثقافـية والاجتماعية، ولذلك يتعايش مع التقليد كما لو كان هذا هو عينه ثقافة التحديث!

على صعيد ثالث، تبدو بلدان الجنوب – وفـي جملتها بلداننا – وكأنها قطعت أشواطاً (متفاوتة الـمدى و الوتيرة) فـي مضمار البناء الديمقراطي والـمؤسساتي. إذا تركنا جانباً الأمثلة الناجحة الـمستقرة وذات التاريخ التراكمي الحديث – مثل الهند – سنلحظ أن مسلسل ذلك البناء يتقدم، حثيثاً، فـي بلدان كبرى مثل البرازيل والأرجنتين وجنوب إفريقيا، ويتقدم معه – وإن بتردد شديد- فـي بلدان أخرى مثل تركيا وبعض بلدان العالـمين العربي والإسلامي. ومع ذلك، فالفارق بين تجربة هذا البناء-عندنا فـي الجنوب وفـي الوطن العربي – و(بين) نموذجه فـي بلدان الغرب أن الديمقراطية هناك متينة البنيان لأن قوامها على قواعد صلبة: على عقد اجتماعي متوافق عليه؛ على علاقات الـمواطنة الكاملة؛ على الاندماج الاجتماعي؛ على التمثيل السياسي الصحيح لا على التمثيل العصبوي (الـمناطقي أو القبلي أو العشائري أو الطائفـي والـمذهبي؛ على الثقافة الديمقراطية السائدة.. الخ. أما عندنا فالديمقراطية لم تتجاوز مفهومها الوسائلي كمنافسة على كسب الأصوات عبر الاقتراع.

أما تسخير التكنولوجيا فـي الإنتاج والخدمات والحياة الاجتماعية فإذ أحرزنا فـيه نجاحاً، لم نبلغ فـي ذلك مبلغ نجاح بلدان الغرب فـيه؛ ليس لأنها عممته أكثر منا، فوصلت بذلك التسخير إلى أدق تفاصيل الحياة، وإنما لأن الفارق بيننا وبينها أنها (بلدان) تنتج التكنولوجيا وتصدرها إلى العالـم، أما بلداننا فتكتفـي باستهلاكها واستيرادها، وكم هو كبير الفارق بين الـمنتج والـمستهلك!

 

 

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…