تقديم وتأطير: استئناف تحليل الخطاب الأصولي ومسؤوليات البلاغي المناضل
يمكن النظر الى كتاب: تحليل الخطاب الأصولي، عوائق التواصل، قراءة حجاجية في خطاب الأصوليين المغاربة لمحمد العمري على أنه حلقة ضمن حلقات متسلسلة مترابطة ومتراصة في تحليله للخطاب التداولي الحجاجي، وفي صلبه الخطاب السياسي. كتاب له أصول معرفية ومنهجية، تنظيرية وتطبيقية في باكورة كتابه: في بلاغة الخطاب الإقناعي (1986)، وهو يحلل الخطابة العربية بأنواعها في عصرها الذهبي، خاصة الخطابة السياسية المحكومة بسؤال خلافة الرسول[1](ص) وما تلاها من صراعات ما تزال تُلقي بظلالها على الراهن الإسلامي العربي حتى هذه اللحظة، وتفعل فيه فعلها، وفي الوقت نفسه كتاب له صلة انتماء وتوأمة بكتابين سابقين، أولهما : دائرة الحوار ومزالق العنف(2002)، وقد ارتبط بمرافقة تجربة حكومة التناوب وتداعياتها السياسية، سواء في مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية، أو في التفاعل مع عودة المغتربين السياسيين إلى أرض الوطن، وثانيهما: منطق رجال المخزن وأوهام الأصوليين،(2009) وفيه عمّق مجرى تحليل الخطاب الأصولي المخزني منه والدينسي، ومدّه بالأمثلة المُحيّنة؛ رابطاً في كل ذلك السابق باللاحق، مستشرفاً الآفاق والمآلات في نسق لا تنفصل عُرى عناصره.
وعلى هذا الأساس، يمكن أن نعتبر كتاب: تحليل الخطاب الأصولي، لمحمد العمري، على أنه توسيع لمجال البحث في ذات الخطاب ونقده وتشريحه، وتشخيص عوائق التواصل فيه، وفي الوقت ذاته، مقاربة مُعمّقة لقضايا كبرى ومصيرية تخص الوطن والأمة في وجودها ومآلها، وتهم الإنسان (الرجل والمرأة) وأسئلته في زمن لا ريب ستستقر عجلاته في قرار “الديمقراطية والحداثة” لا محالة[2]، حيث لا مكان فيه للعبيد والرعايا والمريدين والتمييز بين المرأة والرجل. وكلها قضايا تدخل تحت طائلة الخطاب السياسي، ذي الطبيعة الاحتمالية والترجيحية، التي تقتضي الحوار على قاعدة احترام العقل والأخلاق، وبالتالي تفادي كل أساليب التدليس والإعنات والمغالطة والتجهيل والتسفيه والتهويل والتلطيخ والتجريم والاختلاق والتكفير والتحقير والاستعلاء والاستهجان، وكل ما يدخل ضمن دائرة العنف، بآلياته المختلفة. عندها تكون الحاجة إلى محكمة البلاغة قائمة، والاحتكام إلى آلياتها وقوانينها ضرورة، وتكون الحاجة إلى البلاغة “المواطنة” واجبة، وللبلاغي “العلماني” المناضل ضرورة، على الأقل من باب أضعف الإيمان، ونافلة فعل الخير. (الله يقدرنا على فعل الخير). فالرجل لا يشكو من بطالة، ولا يطلب متاعاً من وراء ما يكتب[3].
تلك من مسؤوليات البلاغي من طينة محمد العمري الذي لا يعرف للمساومة طريقاً، ولا للمجاملة سبيلاً، خاصة عندما يُباشر تحليل خطابات سياسية من طبيعة “شعبوية”[4] عينُ منشئيها على إقناع “الحشود”، وتكثير الأنصار، واستزادة المريدين، في نشوة واسترخاء في أُفق زحف مُمَكِّن، وهو ساهٍ على موطن رجليه، حيث ينزلق إلى خارج دائرة الحوار ومقتضياته، فيُشاغب ويُهافت ويُغالط، إلخ، خاصة إذا كان هذا الخطيب السياسي قد “بلع” “أسطوانة مشحونة”، يَصْدُر عنها، فيستعرضُ بدل أن يحلل، ويُبرر عوض أن يفكر، فيضطر إلى “لخبطة العجين”، فيُضيعُ النظام، ويُلوث الفضاء. وعندئذ يلزم البلاغي أن يؤدي وظيفته، ويمارس مهمته في إعادة النظام إلى الخطاب، من خلال الكشف عن أساليب الشغب، وآليات التهافت، ونزع أقنعة المغالط، وبيان خطورة هذا النوع من الخطاب الأصولي على المُستمَع[5] “الشعبي” الفقير[6] الذي يَتْبع بعيون مغمضة، وعقول عليها أقفالُها.
ومما يزيد من ثقل مسؤولية البلاغي ويُضاعفها، أن يكون منشئ هذا النوع من الخطاب من “موقع ديني يوازي موقع البَابَا (مثل القرضاوي)؛ ويتحدث من موقع مُطاولة فكرية تُوازي موقع سقراط، أو الغزالي (مثل طه عبد الرحمن)؛ أو يحمل صفة الزعيم السياسي الذي يريد أن يقود أمة (مثل بنكيران). هؤلاء لايُعذرون حين يُغالطون، ويُرتاب في غلطهم حيث يغلطون. فما بالك بمن يدعي “التوقيع عن الله” ولا يهتم حتى بتنظيف فمه من فُحش الكلام”[7] (مثل بنحمزة)…
مسؤوليات بحجم أمة، وقضايا كبيرة بقدر الخائضين فيها، ومن مختلف المواقع والمرجعيات، المذكورة أعلاه، وبالتالي لا يقوى على حملها أو الخوض فيها إلا من “استرخص” نفسه وأخلص للحُلم بالحِلْمِ على الواقع، خاصة في مجتمع، مثل مجتمعنا، يتلمس الطريق الديمقراطي، ويسعى لترسيخ قيم يريدها كونية، كالحرية والعدل والرحمة والمحبة[8]، وفي أرض ما تزال غير مهيأة للاستنبات، وتحتاج إلى كثير جُهد، قد تكون البلاغة مساهمة في تلك التهيئة، بآلياتها وقواعدها، وبنفَسِها البيداغوجي، وبالأخص إذا كان، مثل محمد العمري، وقد نزع رأسه على كاتفه، وتأبط رأسماله البلاغي، وهو يُردد بصوت مرتفع: “أنا أنتمي إلى الحرية والعدل والتكافل ضد العبودية والظلم والأنانية بكل أشكالها وتجلياتها، سواء نسبت لفلسفة من الفلسفات، أو دين من الأديان، أو لأي مذهب أو اعتبار، وسواء جاءت صريحة تسعى في ضوء النهار، أو مقنعة متسللة تحت جنح الظلام، وهذا ما يجعلني في خصام إلى يوم الدين مع الأصولية- لا أصلح الله بيني وبينها-لأنها ترتب حقوقا خارج ما يحكم له العقل. وأنا لا أحجرُ على غيري أن يختار أي توجه يقتنع به، وكل ما في الأمر أني أطلب منه أن يعمل داخل دائرة الحوار، ويتجنب مزالق العنف. ويبقى أن الأصولية منهزمة أمام العقل والعدل والحرية والرحمة والنظافة والحشمة، لأنها مجرد خُدعة”[9].
من هذا الموقع، وعلى قاعدة هذا الاختيار الصعب (الاختيار مسؤولية ملزمة، كما يقول الوجوديون)، فإن مهمة البلاغي “المواطن” الممارس لنقد الخطاب التداولي في هذا السياق، كما يقول العمري ذاته، ومن خلال هذه المقارنة البيداغوجية الإجرائية:” هي تنظيم المرور: انتبه! لن يَطلُب منك أن تتجه إلى وجدة أو الداخلة، ولا إلى الكَارة أو سلْوَان، أو أي وجهة أخرى، بل يطلب منك فقط أن تحترم قواعد السير وقوانينه حتى لا تصطدم بالآخرين، وتصل بسلام، وهي قواعد كونية. ولن يقبل منك أن تقول كما يقول بعض الفوضويين: “رانا غير فالمغرب، مَاحْنَا شِي فالسويد! أو “أنا زربان، باغي نوصل بكري”! قوانين الخطاب مثل قوانين السير، يؤدي عدم احترامها إلى الاصطدام”[10]. معنى ذلك، أن مهمة البلاغي “الجديد” شبيهة بمهمة شرطي المرور المتشبع بروح المواطنة، والحريص على تطبيق القانون، ولا شيء سوى القانون، بروح” مندمجة مع روح المحبة”[11]، والساهر على تنظيم المرور تفاديا للاصطدام، وعواقبه، أو عرقلة السير وتداعياته. وعند المخالفة، تدليساً أو استغفالاً أو تجاوزاً أو قصداً أو حتى سهواً، يتم الاحتكام إلى قانون السير، وتتحرك المساطر والقوانين، وعلى جميع المواطنين، سائقين أو راجلين، حاكمين أو محكومين، أمراء أو فقراء، نساء أو رجالاً. وذلك سر “اختراع القانون من أجل حل الخلافات الداخلية لجماعة معينة[12].
وبناء على ما تقدم وما تأخر، لم يجد العمري حرجاً في تشبيه مهمة البلاغي، بمهمة الشرطي، ومنظف البيئة. فهو في هذه الحالات، “شرطي بلاغي”، و”منظّفٌ للخطاب”، ومن ثمة فهو الساهر على احترام قوانين الخطاب، ومراعاة الإطار الأخلاقي العام، وهو الحريص على الاحتكام إلى العقل المجتهد، في تحليله للخطاب، بمختلف أنواعه، وفي مقدمتها الخطاب السياسي. من جهة، ومن جهة أخرى، فهو مسؤول عن نظافة الخطاب، كما تنظف البيئة الطبيعية والمرافق الاجتماعية، من مختلف الملوثات، مع ما يمكن أن ينتج عن كل ذلك، خاصة في المرفق العمومي، وفي طليعته البرلمان، من خروقات و”أمراض”، تطال الوطن والمواطنين، وتلحق بهم أضرارا، منها ما يتجاوز البلاغة نحو القضاء.
واستناداً إلى ما سبق، فأن مَنْ يُـلوثُ فضاءَ الخطابِ السياسي، عند محمد العمري، “لا يقلُّ سوءاً عن ملوثي البيئة الطبيعية والمرافق الاجتماعية، بل إن ضررَ ملوث الخطابِ أكبرُ. وتبدأ ملوثات الفضاء السياسي بالمغالطات والفحش الصريح والضمني، وتنتهي بالسباب والتهديد المفضي إلى الضرب والجرح”[13]. وبمقتضى هذا التصور، يشبه الباحث فضاء الخطاب السياسي، ب”فضاء التواصل”، بل بفضاء “للعيش والتعايش، مثله مثل الفضاء الجغرافي. يلتقي فيه الناس كما يلتقون في مقرات الأحزاب والمؤسسات، ومنه ينطلقون للعمل: كما انطلق الربيع الديمقراطي «من الشاشة إلى الساحة». ولذلك فهو يقتضي منا نفس الاهتمام الذي يوليه المتحضرون من بني جلدتنا للبيئة الجغرافية: عَدوُ الفضاءين (البيئي والخطابي) هو رمي النفايات، ونفثُ الدخان والغازات…الخ، في الحقيقة والمجاز”[14].
ولتوضيح تلك الادعاءات التي ادعينها أعلاه، وبالقدر المسموح به في هذه الدراسة، والاستشهاد لها بما يناسب المقام والسياق، لصعوبة الإحاطة وتعذرها، سنختار مدخل المرأة وموقف الخطاب الأصولي الدينسي منه، بالنظر لهيمنة هذه الثيمة على الكتاب من ناحية، ومن ناحية أخرى لمناصرته للمرأة والدفاع عن كرامتها [15]. وسنقترح مقاربة هذا الخطاب المُشيطن للمرأة الحداثية، من خلال نموذجين ندّعي تمثيليتهما لفلسفة الكتاب وغايته، ونزعم فعالية البلاغة في أداء مهمتها النضالية، سواء في مراقبة قواعد المرور في الخطاب الأصولي، وتقدير مدى احترامها، أو في رصد مظاهر التلوث فيه، ومعاقبة المخالفين من الملوثين بقدر مخالفتهم، ودرجة تلويثهم للخطاب أحياناً، بل توسيخه أحيانا أخرى، بما لا يتماشى وحرمة فضاء المحترمين، ومواقعهم الاعتبارية[16]. وكل ذلك، على أساس تصور العمري للبلاغة (البلاغة المناضلة) وهي تخوض في تحليل الخطاب السياسي، وتحاور في أكثر قضاياها حساسية، وبقناعة نضالية معلنة، وأفق سياسي وفكري، ومسار حداثي تحرري “سارت فيه الدعوة الإسلامية، وزكته حركة التاريخ التي حرّمت الرق والعقوبات الجسدية وصولاً إلى جعل الكرامة الإنسانية أساسا للعهود الدولية”[17]. وهذا ما يعكسه قوله ويُفيده: “فقد بدأتُ المساهمة في نقد الخطاب السياسي، والممارسة السياسية في أعقاب نضال نقابي/ سياسي انتهى بتجربة سجن قصيرة، وتوقيف عن العمل دام حوالي السنتين(1979-1981). واستمر هذا النضال، ولا فخر بقبول الحرمان من كل الترقيات الإدارية والامتيازات والتعويضات والأغلفة التي كان الأصوليون يبيعون بها ولاءهم وخدماتهم لرجال المخزن”[18].
النموذج الأول، خاص بتحليل محمد العمري للخطاب الأصولي الدينسي، واستقرائه لصورة المرأة فيه، وفي وضعيات غريبة، وحالات شاذة، يتقرّبون بها إلى الله، في زعمهم، عبر فتاواهم “البئيسة” و”السخيفة” و”العجيبة”. و”الغريبة”، من مثل”الوطء خطأً، كما أوردنا من كلام مصطفى بنحمزة، ونكاح الجُثث، كما هو مشهور من فتاوى عبد الباري الزمزمي، وإنكاح بنت التسع، كما عند المغراوي، والبحث عن امرأة الحداثة في مقلب النفايات، من قبل ذ. الريسوني..”[19]؛ وإن كنا سنركز في هذه الدراسة، على تحليل العمري، كبلاغي “مناضل” لصورة المرأة الثريا في البيت، كما ورد في خطاب رئيس الحكومة المحترم السيد: عبد الإله بنكيران بقبة برلمان المحترمين، وعلى هامشه تعليق وزير العدل والحريات المحترم السيد: مصطفى الرميد على خطاب رئيسه في أثناء حوار تلفزي، وقد سُئل عن رأيه في تصريح رئيس الحكومة أمام البرلمان، وإن كنّا نسعى إلى توسيع تحليل العمري للخطاب الأصولي في نفس الموضوع، ومده بزائد من الأمثلة المُحينة، إمعاناً في إظهار تهافت هذا الخطاب، والتنبيه على خطره على مستقبل الوطن.
النموذج الثاني، وهو بمثابة ذيل لتكملة المثال الأول حول المرأة في الخطاب الأصولي الدينسي، واستكمال تشكيل صورته للمرأة، وإن من موقع آخر، يتعلق هذه المرة ب”حوار”(سؤال وجواب) بطعم “الحموضة” بين السيد وزير النقل المحترم السيد: عبد العزيز الرباح، وبين برلمانية محترمة من معارضة حزب الاتحاد الاشتراكي السيدة: حسناء أبو زيد، انتهى، كما نهاية المثال الأول، بخرق قوانين الخطاب عبر المغالطة والتدليس والإعنات، وفي الوقت ذاته تلويث الخطاب وأخلاقيته بالاستخفاف بالمرأة وتجهيلها وتسفيها، بل وممارسة الفجور في خصومتها وتعنيفها وتشويه صورتها، فضلاً عن تلويث فضاء قبة البرلمان وتلطيخه بما لا يليق، خاصة إذا كان من بوابة الدين و”قدسيته” عند المُسْتَمَعِين.
- بلاغة الشتم في قبة المحترمين: البلاغة والمرأة والثريا
عرّف محمد العمري البلاغة، وبعد أربعين سنة من البحث، بأنها “عِلْم الخطاب المؤثر القائم على الاحتمالي”[20]، والذي يتحرك في مساحة واسعة تمتد بين قطب الاعتباط أو الحُمق[21]، وقطب البرهان، والتقني – العلمي، بتعبير أوليفي روبوول) Olivier Reboul (، وبين امتداد القطبين تتواجد إمبراطورية البلاغة، وعلى امتدادها يمكن للمنشيء أن ينتج خطابه البليغ الاحتمالي من أجل الفهم والإفهام، والتأثير والإقناع، تخييلاً أو حجاجاً، أو هما معا؛ وعليه يُجري البلاغي عملية التحليل والنقد. وفي نفس الاتجاه، صاغ من قبله ميشيل مايير(Michel Meyer، ) وهو أحد أنجب طلبة بيرلمان(Chaïm Perelman )، تعريفاً موازياً ومكملاً ومفسراً للبلاغة في قوله:” البلاغة هي تفاوض الاختلاف بين الأفراد حول سؤال معين”[22]. وهو تعريف قريب من بلاغة الحوار كما صاغه العمري في قوله:” الحوار هو كل خطاب يتوخى تجاوب متلق مُعين، ويأخذ رده بعين الاعتبار من أجل تكوين موقف في نقطة غير معينة سلفاً بين المتحاورين، قريبة من هذا الطرف أو ذاك، أو في منتصف الطريق بينهما “[23]. ومحصلة هذه التعريفات في تفاعلها وتكاملها، وتوضيح بعضها البعض، وفي سياق ما نحن فيه، كون الخطاب السياسي هو خطاب احتمالي قصده التأثير والإقناع من أجل الانخراط في فكرة أو موقف أو رأي أو فعل… وهي العملية التي تحصل حين انطلاق عملية التفاوض في مسافة بين متحاورين مختلفين حول سؤال أو أسئلة تقتضي إجابات غير نهائية، بحكم اختلاف المواقع والمرجعيات.
وتكون بلاغة الحوار محمودة عند ممارسة الحوار داخل دائرة الممكن والنسبي، وذلك ما يقتضي احترام المحاور وأخذ سؤاله أو جوابه بعين الاعتبار، سواء من موقع المتعاون أو المنازع أو الناقد أو المختلف؛ وقد تكون بلاغة الحوار مذمومة، وبالتالي مرفوضة عندما تجري أطوار الحوار في دائرة المطلق والمتعالي، فيتعطل الحوار، ويختفي المحتمل والنسبي، وتضيق مساحة الاجتهاد، وتسود المتحجرات والمتكلسات، وما يتولد عنها من “حماقات” زعماء السياسة، و”سخافات” شيوخ الدينسية. عندها لا مناص من استنفار البلاغة، وتشغيل أدواتها، لمواجهة كل أشكال العنف والإقماع بمختلف درجاتهما، ورصد كل أنواع المنشطات المحرمة المروجة في الفضاء العمومي، من استعلاء على المخالف وتجهيله، أو الفجور في خصومته ومعاداته، وفي الوقت ذاته تلويث أجواء الحوار وتسميمه بمقدمات للتفجير فالقتل، كالدعاء على الخصوم “بسلسلة محفوظة من الأماني المريضة، منها التيتيم والترميل وتجميد الدماء…إلخ”[24]. عند هذا المستوى يتعطل الحوار، وتُهيمن بلاغة الشتم Rhétorique de l’insulte) [25] )، ويسود خطاب العنف، وتضيع الأخلاق ويتلوث الفضاء، ويغيب العقل، فيتحول الإنسان بذلك إلى ضده.
والمثال الذي التقطته عين العمري، واعتبره من ملوثات الخطاب، ورشحته نموذجا على خرق صارخ لقوانين الخطاب، ذلك الذي جرت أطواره في قبة البرلمان، وفي موضوع المساواة بين المرأة والرجل التي نصّ عليها دستور المملكة لسنة 2011، وصرّح فيه رئيس الحكومة، هذه المرة، عبد الإله بنكيران في خطاب يسير في الاتجاه المعاكس، أورد محمد العمري نصه كما هو، وبلغة دارجة مغربية “عيوشية”[26] منتقاة صاغ عبرها موقفه. يقول د. بنكيران:” المرأة لم تعد تجد الوقت لتتزوج أصلاً، لكي تكون أما ولتربي أولادها…ألا تعلمون أن النساء لمّا خرجن من بيوتهن انطفأت البيوت؟ …أنتم لا تعرفون هذا؟! لماذا؟! لأنكم عشتم في بيوت فيها ثريات! وهادوك الثريات كانوا هما الأمهات ديلكم!”[27].
طبعا، قد يكون هذا الموقف امتدادا طبيعياً لموقف السيد بنكيران من خطة إدماج المرأة في التنمية، الذي انتقده العمري في إبانه وحراراته، وتمّ نشره في كتابه: دائرة الحوار. وقد مرّ على هذا الموقف ما يزيد عن عِقْدٍ من الزمن، وقد تغيرت المواقع: من موقع المعارض المشاكس إلى موقع المشارك المُدبر. وظل الرجل يُردد نفس القناعة، وبكثير من وثوقية الاستعلاء، وتعالي “المُتوّج”، في حركاته على منصة البرلمان، وإيماءته المتحدية، وإشاراته المهددة (إيتوس الرئيس Ethos ) وفي صمت النواب البرلمانيين وعجبهم (باتوس Pathos المستمَعين، برلمانيين ومشاهدين) . قد تكون تلك حقيقة موقفه المحافظ، وما تشربه في تكوينه من مشاييخ حركته، وكُتبِ إخوانه، ومحفوظات طفولته. لكن المفارق في الأمر، أن تصريحه ذاك يخالف صريح دستور المملكة (2011) الذي يرأس بمقتضى بنوده وفصوله، حكومة تدبر شؤون الشعب الذي بوأه هذا الموقع. وفي نفس الآن، موقف مُعلّق، أقرب إلى الشعار منه إلى القناعة، يهشّ به على الحداثيين والحداثيات، ويستهوي به أنصاره، ويطمئن كبار المرجعيات الدينسية، في الداخل كما في الخارج. فهو ممثل السلطة التنفيذية، وتحت إمرته رئاسة النيابة العامة، ويتحكم في الأغلبية التشريعية، ومع ذلك يسعى إلى تفعيل هذا الموقف وأجرأته لعودة المرأة الموظفة والبرلمانية والوزيرة… إلى البيت حيث الوضع الطبيعي لها، فتعود الثريا لسابق نورها، ويرتاح المصباح والفانوس، وكل ما يشعُّ منه نور، من وجع رأس المعارضة وصداع المصطفين معها…
إن موقف السيد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران هذا، لا يشكل في هذا الباب استثناء يُكسر القاعدة أو يُشكك فيها، بل عينة مُمثلة تنسحب على كل أصناف الأصوليات الثلاث [28]التي تحدث عنها العمري وحلل خطابها، ورصد آليات اشتغالها، ورسم حدود مرجعيتها، وسخِر منها حسب درجة اعوجاجها المتعمد. لا يختلف في ذلك عندهم رئيس أو وزير أو برلماني أو مناضل أو شيخ أو فقيه أو مريد، صاعدا أو هابطا في سلم التراتبية. ولعل عيب هذا النوع من الخطاب أنه خطاب تبريري في المقام الأول، لكونه يصدر عن “مسبقات ويقينيات سابقة على عميلة التفكير نفسها”[29]. ولذلك يدفع صاحبه أو أصحابه بأي شيء يخطر لهم على بال، دون عناء البحث عن الأسباب والمسببات. ومساءلة واقع متحرك، وبسرعة فائقة، لا تقبل شكاية كل من تأخر أو تردد أو ماطل.
والشاهد عند العمري في هذا السياق، رأي السيد وزير العدل والحريات في نهاية حوار تلفزي، وقد سُئل عن رأيه في تصريح رئيس الحكومة أمام البرلمان عن الوضع الطبيعي للمرأة المغربية، وهو مكوثها في البيت، حيث تتمكن من الزواج أولاً، والإنجاب وتربية الأولاد ثانياً، وذلك على غرار جيل، ينتمي إليه، حيث الأمهات ماكثات في البيوت كالثريات. وتلك حُجة المقارنة شبه منطقية[30]، وما تقتضيه من مفاضلة، بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون؛ وهي حجة انتقاها السيد الرئيس المحترم بعناية، واختارها ضمن قائمة تشبيهات كثيرة، لأثرها الحجاجي. فعوض أن يقول الجميلات أو الفاتنات أو الحوريات، في مقام المُستمَعين المحترمين في قبة البرلمان، فيثير اشمئزازهم، أو حتى شهوانية بعضهم، استقر على الثريات، أي على نوع المرأة/ النساء التي يشتهيها، كلّ أصولي، في البيت ويهفو إليها. وفعالية حجة المقارنة في وظيفة الإثارة والاستهواء التي تؤديها، خاصة إن صدرت عن شخص من سلطة رئيس الحكومة (حجة السلطة)، فتدعم هذه تلك وتقويها عند المُستَمَع، علما بأنه حجة بالقدوة لوزيره في العدل والحريات، وهو أهلٌ عنده للقدوة والاتباع من كل الجهات[31].
ومن الطبيعي، وحُجة القدوة فاعلة ومؤثرة، ومنطق الواقع والوظيفة أمضى، أن يرتبك السيد الوزير المحترم، ويبرر دون أن يجيب، ويدلي برأيه دون أن يقول شيئاً، كما كان حال خطاب سلفه الأصولي المخزني: عبد الهادي بوطالب[32]. يحس السيد الوزير بالارتباك والحرج، ويستجمع قواه لمزيد تبرير وتنصيع الصورة، فيقول، موجهاً الخطاب/ الجواب للمشاهدين، ومجيباً عن سؤال المحاور الصحفي، وعينه على مستَمَع المعارضة، وانتظارات مستمع الأغلبية:” سيدي الكريم، أنا استمعت مرات – يقصد تصريح رئيس الحكومة- وأنا أدعو المغاربة أن يستمعوا لكلام السيد رئيس الحكومة. كلام رائع، وتألق فيه غاية التألق، وعبّر عن احترامه للمرأة. لكن للأسف الشديد، هناك من يصطاد في الماء العكر، فأوّل كلامه على غير حقيقته، وأعطاه أبعاداً لا علاقة له بها” هذه مشكلتنا، مشكلة هذه الحكومة مع بعض الناس الذين يدعون المعارضة، وهي أنهم لا يريدون أن يواجهونا بما نقول، وإنما يفتعلون الأمور، ويؤولون الكلام، ويزايدون علينا بغير حق، “أنا أرجو من المغاربة أن يراجعوا تلك الكلمة فسيجدونها كلها تقطر باحترام المرأة، وتتقاطر، يعني تمجيد القيم الرفيعة لمجتمعنا” (انتهى كلام الوزير)”[33].
قد يكون محمد العمري، افتراضاً، وهو ناقل كلامه وشارح موقفه ومحلله، ممن يصطاد في الماء العكر، من موقع المحسوب على خصومه السياسيين من المعارضة، أو من المؤولين لتصريح السيد رئيس الحكومة تأويلاً مغلوطاً أو مدخولاً، قصد الإساءة إلى إنجازات الحكومة والتشكيك في “نواياها”، وبالتالي التدليس على المستمعين والتشويش عليهم.
لنفرض صحة ادعاء السيد وزير العدل والحريات، وفهمه الوحيد لتصريح السيد رئيس الحكومة. ولكي نتحقق من صدق تلك الفرضية أو خطئها، نبدأ بوضع كلام السيد الوزير تحت مجهر البلاغة، سيراً على خُطى العمري وطريقة تحليله لهذا النوع من الادعاء، مع شرعية المعارضة ومشروعية اختلافها، إذ ” لا سياسية دون معارضة، أي دون منازعة حزبية” [34].
فقد سُئل الوزير المحترم سؤالاً مباشراً وواضحاً، يقتضي بنفس الدرجة، جواباً صريحاً ودقيقاً، في مقام لا يقبل أكثر من ذلك:” ما رأيك في قول رئيس الحكومة بأن الوضع الطبيعي للمرأة هو البيت، وليس العمل خارجه الذي أدى إلى الإضرار بالأسرة؟”
فسؤال السائل مباشر ودقيق، لكن إجابة الوزير المحترم كانت مراوغة وملتبسة، بل ومُدلّسة. فلم يسأله السائل عن قيمة المرأة في رأي رئيس الحكومة، ولا سأله عن إهانته أو تكريمه لها. فدرجة إرباكه تُعجِّل بانزلاقه عن الطريق المطلوب، بل وتغليط المستَمَع معه، فخرق بذلك قوانين سير الخطاب، وكان من الطبيعي أن يطبق قانون البلاغة، ويسجل “شُرطي البلاغة” مخالفة بلاغية من درجة الانزلاق والتخليط والتغليط والتدليس وما تستوجبه من “غرامات” تنبه الغافل، وتقوم اعوجاجه الحجاجي. فقد وجد المُجيب نفسه أمام طريقين: إما أن يقول بقول رئيسه، ويُقر بأن وضع المرأة الطبيعي هو البيت مع ما يترتب عن ذلك، وفي هذا مجازفة كبرى، وهو وزير للعدل والحريات، ورئيس للنيابة العامة، وينتمي إلى أغلبية برلمانية مريحة، وإما أن يخالف رئيسه، ومرجعية انتمائه الحزبي، وما درج عليه في طفولته وشبابه، فيكون أيضاً من الخاسرين. ولذلك، ارتبك “ليترك الباب مُوارَباً: يتبنى رأي بنكيران ولا يتبناه. فالعبارة مفتوحة مائعة؛ يمكن مثلاً أن يقول مستقبلاً أن مقصوده هو: أنا معه، لأن موقفه يقطر احتراماً، كما يمكن أي يقول: لم أصرّح قطّ أني معه”[35]. ومحصلة مثل هذا الجواب المطاط: أنه مع المرأة وضد المرأة؛ مع حرية المرأة ومساواتها بالرجل، وضد حرية المرأة ومساواتها بالرجل؛ مع المرأة في البيت ومع المرأة خارج البيت؛ مع احترام المرأة وضد احترام المرأة…
مفارقات صادمة في تضاعيف الخطاب الأصولي الدينسي. غياب رؤية مستقبلية واضحة، تقوقع في سجن مسبقات ومتحجرات، وغياب المعرفة بتاريخ الأمم والشعوب والحضارات، بل واختزاله له في مطرح النفايات والقذورات، كما عند كبيرهم الشيخ الريسوني، في سياق “تشويه صورة المرأة الحديثة”، وتلويث الحداثة من بابها الخلفي، بإطلاق وتعميم، مع سبق الإصرار والترصد في “رمي الرضيع مع ماء الغسيل”. ذلك هو منطق خطاب الأصوليين الدينسيين المفارق الحيران: “يتمسكون بكل تفاصيل شكليات الحياة في القرن الأول الهجري ويتمرغون في خيرات الحداثة التي سخرها الله لهم، كما قال أحدهم” .
يبقى هناك سؤال: ما هي العلاقة بين الهجوم على “نساء الحداثة” وبين دعوة السادة القادة: أردوغان وبنكيران والريسوني، ومن يطبل لهم، إلى عودة المرأة إلى البيت للإنجاب والتربية والزينة (الثريات)؟ سؤال يطلب الجواب”[36].
فنحن مع المرأة… ضد الخطة… نحن مع المرأة الثريا…كما قال السيد رئيس الحكومة بين زمنيين، لكن حيث تتزوج فقط، وتلزم بيتها وتربي أولادها، وترعى بعْلَها، وتتوسّل رضاه… لتؤثث فضاء البيت وتُجمِّلَه، سيراً على هُدى الأسلاف، وإحياء لسنّة الأجداد، والآباء. ذلك هو احترام المرأة، و”تمجيد القيم الرفيعة لمجتمعنا”، في تصور السيد الوزير، وذلك “دورها المقدس والرباني”، كما زاد السيد رئيس الحكومة، بعظمة لسانه، “أن تبقى في البيت، وذلك دورها منذ خلق الله الدنيا، وذلك هو البُعد الأسري”، وحتى إن كان خطأً، فهو خطأ مقبول ينبغي الدفاع عنه ضد المعاصرة والحداثة، بحجة أنه من عند الله، وذلك يكفي. وتلك آلية حجاجية القصد منها تثمين الإيمان الديني عند أغلبية الناس، وإضفاء “القدسية” على قيمهم الدينية[37]، في أفق ضمان الانخراط الحزبي أو المذهبي، أو السياسي العام، مع أنه صرّح في قبة البرلمان، أمام مستشاري الأمه، أنه سيطلق خطة “إكرام” للمساواة في أفق المناصفة: 2012-2016، في إطار سياسات الحكومة[38].
أمام هذا الخطاب الدينسي، وما يعتريه من مفارقات فاقعة، ومخالفات حجاجية ساطعة، وإعنات مشين للمستمَع، نصّب محمد العمري محاكمته البلاغية، وأجرى المداولات، واستنفر الادعاء العام، وفحص الحجج والأدلة، واحتكم إلى قوانين الخطاب، فأصدر حكمه الآتي؛ وبسخريته الحجاجية المعهودة حين الإصرار عن الاعوجاج المتعمد، والمنطق المتحجر، واستغفال المتلقي، وإعنات الشرطي البلاغي، ومغالطة منظف الخطاب:
“إن الثريا ليست مصباحا! نعم ليست مصباحاً! فوظيفتها تبرر ثمنها، الذي يصل الملايين، ليست إرسال النور للإضاءة، فهذه الوظيفة يحققها مصباح لا يهتم الناس بثمنه، خمس دراهم مثلا. ولو شبه المرأة بمصباح لما كان لدى المستمعين اعتراض، لأنه حينئذ سيصادف القصد الإلاهي من تمتيعها بعقل وقاد، وبصيرة نافذة، ووجدان متوهج على الدوام. التشبيه بالثريا ينزل تحت عتبة المغني البسيط الثقافة الذي يقول: لَلّا مولاتْ الدار”… ويسير في ركاب التي تقول (مهينة نفسها وبنات جنسها):”مغربية يا ناسي، عْنايتِي فلباسي”. فالعناية” في الدارجة المغربية هي “الهمة”، والكرامة. ولو طلب من حزب المصباح أن يضع “ثريا” محل “مصباحه” لأحس بنية الإساءة إلى رمزه، كما أحست النساء. سيقول المنتمون إليه: هل نحن حزب ببرنامج أم متجر كريستال؟”[39].
قوس وتثبيت: ربط السابق باللاحق وإمعان في الإعنات
إن موقف الأصوليين الدينسيين من المرأة، وارتباطاً بموضوعنا، موقف ثابت ونمطي وغير تاريخي، وذلك بسبب ثبوت المرجعية التي ينهلون منها، ونمطية النماذج الذي يودون استنساخها أو حتى اختلاقها[40]، ودونما اعتبار لقوانين التاريخ وسيرورة الحياة الحديثة، فيسدون بذلك باب الاجتهاد. ولذلك كثرت خرجاتهم المهينة للمرأة وأزكمت. خارج ضوابط الحوار ومقتضياته التي استقرأها العمري وبثها في كتابه دائرة الحوار ومزالق العنف. والمثال الآخر وليس الأخير، وربطا لسابق المواقف بلاحقها، عقّب رئيس الحكومة نفسه، وفي قبة البرلمان، على البرلمانية خديجة الرويسي من حزب الأصالة والمعاصرة في سياق المطالبة بالمناصفة في الاستحقاقات الانتخابية الماضية (04 شتنبر 2015) فأجابها، بكثير من الاستعلاء والتحقير والتحدي والتأثيم، ما قد يعتبره غيرها إجابة تقطر احتراما للمرأة، أو تنزيلا لخطة “إكرام” الحكومية. يقول السيد الرئيس، في حماس المنتصر الكاسح الواثق، وهو يتحدى بيديه ونبرة صوته، مهدداً ومتحدياً: “إنه مستعد للتنحية من رئاسة الحكومة في حالة ما أسقطه استفتاء حول النساء اللواتي يطالبن بالمناصفة واللواتي لا يرغبن بذلك”، مضيفاً، وبزهو وانتشاء، وهو يُقسم “إلى طيحوني غير العيالات أنا نمشي فحالي والله ما نبقى… ديري هاد الثورة وطيحي الحكومة انت كاع، وديري حزب نسائي وكوني الرئيسة ديالو ولَّي رئيسة حكومة كاع شكون اللي حبسك”…
لقد أسرج السيد الرئيس حصان لسانه، وأطلق عنان خياله، وتاه في الوديان والجبال والوهاد، منزلقاً من قضية إلى أخرى، دون رابط عقلي أو وازع أخلاقي، فأرعد وأزبد، ثم ضرب الضربة القاضية، عجلت تصفيقات حارة من نواب حزبه، (ديري الثّورة…وطيحي الحكومة كاع..) وكأن البرلمانية الرويسي، وقد سألت واستفسرت وطالبت وأمعنت، وصاحت وزادت، إنما قامت بانقلاب على وضع مقلوب، لا حق لها فيه بالسؤال، ورفع الصوت (لعن الله امرأة رفعت صوتها ولو بذكر الله)، أو قامت بما يشبه الثورة وتمادت فيها، وعليه، “إذا صاحت الدجاجة صيّاح الديك فذبحوها”، قبل أن تصير رئيسة للحكومة (ما أفلح قوم ولوا امرأة عليهم[41]). هذا منطق، أقل ما يمكن القول فيه، أ نه شبيه، بمنطق الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم، في مقام غير المقام، ولمستَمَعين غير المستمعين، يسكن اللاشعور الثقافي لغالبية العرب المسلمين، وعنه يصدرون في مثل وضعيات النزاع:
ألا لا يجهلن أحد علينا /// فنجهل فوق جهل الجاهلين[42].
- الفجور في الخصومة بقبة المحترمين: المرأة والتجهيل
من الأمثلة الأخرى التي التقطتها عين العمري، كبلاغي، في قبة البرلمان مرة أخرى، واعتبرها امتداداً لتلويث الخطاب السياسي عند الأصوليين الدينسيين، الحدث الذي جرت أطواره في قبة المحترمين، بين عضو مسؤول في الحكومة، وبين برلمانية من حزب المعارضة، تُمثل الشعب، وتَنطق باسمه، أو باسم فئة منه، أو كذلك يَجب.
فقد تدخلت البرلمانية من حزب الاتحاد الاشتراكي حسناء أبو زيد، وقد أعطاها الله، بلغة العمري “من رجاحة العقل وفصاحة اللسان ما أعطاها من الجمال الصحراوي الفريد”، لطرح سؤال على السيد وزير النقل السيد عبد عزيز الرباح، حول الطريق الوطنية رقم 1 الرابطة بين تزنيت والداخلة، الممتدة على أكثر من 2000 كلم، التي وصفتها النائبة بطريق الموت. طرحت سؤالا بلغة ” لا تخجل منه العذراء في خدرها كما قال الشاعر القديم”؛ لكن جواب السيد الوزير المحترم، للبرلمانية المحترمة جاء مقتضباً وفي كلمتين: “أقول سلاماً”! وانصرف إلى مقعده متنازلا عن باقي الوقت المخصص له، وبحركات تدل على تبرم وتقزز، قد تتضح أسبابه وحيثياته فيما يأتي.
“أقول: سلاما”، لمن سمعها أو قرأها، قد يكون رداً مقبولاً في سياق معزول، بل قد يوحي بالتعفف والبراءة وحُسن الخُلق ومكارمه. فهي بمثابة مقدمة مسلم بها عند المستمَعينAuditoires ، مستمدة من عقيدتهم الدينية، وهي موضوع إجماعهم. لكن “السلام” كقيمة كونية مطلوبة ومحمودة، قد ألقيت في سياق التدافع السياسي، بين الأغلبية والمعارضة. وتلك آلية ديمقراطية لا اعتراض عليها، وفي إطار مناقشة قضايا الشعب ومطالبه، فذلك شأن آخر فلكل سياق كلام، ولكل مقام مقال. فجواب الوزير على سؤال النائبة بقوله: “سلاما” لا تحل مشكلاً في البرلمان، إن لم تعقده. فالجواب خطاب من نوع الخطاب الملوث والمنزلق المفضي إلى الخروج من دائرة الحوار الممكن إلى دائرة العنف، بأشكاله وتجلياته المعلومة. ومن مهمات البلاغي الحرص على تخليق الخطاب وتهذيبه وتنظيفه، ومعاقبة كل مخالف لذلك.
فجواب الوزير يوحي بأنه يرد التحية يُفترض أن النائبة قد ألقتها عليه بالسؤال، وقد أجابها بتحية أحسن منها في الإسلام، وتحية الإسلام السلام، فجلس كل منهما في مقعده، ويمكن أن يذهب كل إلى حال سبيله (الوضع الطبيعي). لكن سياق الخطاب، وحيثياته، وطرق إلقائه، لا يشي بهذا الوضع المأمول، إذ توسل السيد الوزير بحجة الحضور[43]، عبر عملية انتقاء دقيقة، غيب فيها عناصر وطواها، وترك استحضارها لخصمه، واستحضر أخرى وقدّمها في خطابه لتحل في الواجهة وتُثبت في ذهن السائل وكل المُستمعين، وفعل هذه الآلية وتأثيرها مضمون في الحين أو بعد الحين. استحضر السيد الوزير مقام عباد الرحمن المتصفين بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، كما ورد في القرآن الكريم، وانضم إليهم وصار جزءاً منهم، وداخلاً معهم، فيما استحضر سائلته وأخرجها من دائرة عباد الرحمن الذي يمشون في الأرض هوناً، وألحقها بالجاهلين وزلات ألسنتهم. وكأن لسان السيد الوزير، وهو يجيب السيدة البرلمانية، يقول: لن أجيب عن سؤال امرأة “سفيهة” و”وقحة”، و”متكبرة” ومعتدة بنفسها، وسأترفع عن الرد عن مهاترتها، وطيشها، وأستعلي عن مجاراتها في الجهل، صونا لوقت “المحترمين” حقاً، وتوفيراً لجهد يستحقونه دون غيرهم. قالوا سلاما، إذن يفيد الإعراض عن الجاهلين ومجاراة السفهاء، وفي ذلك أجر وثواب يبتغيه السيد الوزير وإليه يشير. وفي ذلك فجور سياقي ومقامي واضح، وشتم وقذف بائنين، يتطلب تدخل البلاغة، في بُعدها الحواري، لتحليل هذا النوع من الخطاب الأصولي ونقده، والكشف عن تهافته الحجاجي، وتعرية بذاءته، وإبراز عورته، وتنبيه الساهين إلى خطورته في الحال والمآل.
الحوار نعمة، والتّحلي بأخلاقه مكرُمة، يساعد على تقريب مسافات الاختلاف بين المتحاورين، بين السائل والمجيب، بين الوزير والبرلمانية في مسألة احتمالية (التنمية الطرقية) قابلة للأخذ والعطاء لبناء “حقيقة” متوافق عليها في منتصف الطريق بين المتحاورين السياسيين. لكن عندما يتضمن الجواب، “أقول سلاما”، ويستحضر السياق، ونية الاستخفاف والاستعلاء والتجهيل، ودفع إمكانية التساوي في الجهل والسفه، فتلك جريرة مشينة تطالها البلاغة قبل القضاء. ومن أخوات هذا النوع من الخطاب الأصولي الدينسي، وأمثلته الممتدة في الخطاب التواصلي اليومي المغربي الدارج، ما يجري على ألسنة الناس، من سياقات مختلفة. كمخاطبة الفقيه حين سهوه أو إعناته أو انزلاقه: (سبحان الله ألْفقيه…)، أو مخاطبة الخصم عند اشتداد الخلاف، وخنق الحوار، وتعالي الأصوات، والخروج عن دائرة الحوار:( لْعْن الشيطان أسِّي…) مع ما يتضمنه هذا الخطاب من “تجريح “مبطنٍ، أو تعزيرٍ قاسٍ.
وبناء على كل ما تقدم، وعلى أساس ما استخلصه العمري، فإن كلمة “سلاما”، في سياق نطقها، وطريقة إلقائها، وخلفيات تصريفها في قبة المحترمين، كلمة جارحة وقاسية، بل “قاتلة”، بالمعنى المجازي، وذلك لاعتبارين نوردهما على الشكل الآتي، تعميقاً لما سبق وتوسيعاً:
أولهما، أن كلمة “سلاما”، كلمة عادية كباقي كلمات المعجم العربي، لا عيب فيها في ذاتها، لكن مقام تصويبها، ولمن صوبت، وحيثيات التصويب، وموضوع التصويب (حجج الاشتراك[44])، تشي بإرادة الفجور في الخصومة، والنيل من الخصم السياسي، إفحاماً وإقماعاً، ومن مرجعية مقدسة ونافذة عند مستَمَع البرلمان ومشاهديه. فعنف كلمة “سلاما” راجع إلى إحالتها على قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما”. وقوله تعالى: (سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين). “هذه صورة من صور التناص، عند البلاغيين، أي تقاطع النصوص، وبناء بعضها على بعض، ونقل الأحكام بالعدوى من بعضها لبعض. من السهل أن نقول لمن نختلف معه في العقيدة والفكر: سلاما، لأننا نقولها ثم نذهب إلى حال سبيلنا؛ إلى معتقدنا الديني، أو برجنا العلمي. لن يأتي أحد ليزعج سكينتنا، إلا إذا فتحنا الباب. السياسة بخلاف ذلك، لا نختار مع من نمارسها، وحتى حين نختار مع من نتحالف في تكوين أغلبية حاكمة فإن الاختيار لا يكون على مستوى الرضا بل على مستوى الإمكان، والوزير يعرف هذه الحقيقة بالممارسة الحية الآنية. وفي جميع الأحوال تبقى هناك معارضة صريحة… في السياسة لا مجال للنَّكَدِ…، النكد حالة انفعالية، والسياسة، مثل الحرب في الجبهة، تتطلب برودة الأعصاب في جميع الأحوال. حتى حين تتحول الخصومة إلى عداوة، نتيجة إقحام الديني، يجب على المرء أن يكظم غيظه ويقدم عقله أمام لسانه. “سلاما” لا تحل مشكلا في البرلمان، بل تعقد المسألة. أن تقول لمحاورك: أنت جاهل لن أخاطبك! هذا لا يحل مشكلاً”[45].
ومقام الخطاب هنا وسياقه التداولي يوحي بأن السيد الوزير المحترم في وضع “عباد الرحمن” الذين يمشون على الأرض هوناً وتواضعاً، وبكثير من الحشمة والوقار والحِلم والعلم، فيما سؤال السيدة البرلمانية المحترمة في وضع لغو الجاهلين والسفهاء. فكان من الطبيعي، وانطلاقاً من التوزيع المسبق لمواقع الفرقاء السياسيين، أن يعرض السيد الوزير عمّا يعتبره “لغو” السيدة البرلمانية، ويخاطبها صراحة بقوله “سلاما”، وضمنا بقوله تعالى: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم ( (القصص، الأية 55)، وكأننا نستعيد في قبة المحترمين صراع الكفار المشركين، والمسلمين الموحدين زمن بداية الدعوة.
وثانيهما، لأن المخاطَبة بكلمة “سلاما”، في سياق يحيل على التجهيل والتسفيه والاستعلاء، وفي تصور السيد الوزير ولاشعوره الثقافي والديني، هي نظيرة امرأة “أبي جهل”، أو من في وضعها. سؤالها لغو، والإجابة عنه قَبول باللغو وسير فيه، مع أن السائلة أبو زيد، وزمن السؤال، وفضاء طرحه قد ينبه غفلته، ويخاطب عقله، ويغير مواقفه وقناعاته. فالبرلمانية السائلة، ليست في واقع الحال من نوع النساء اللواتي اعتاد السيد الوزير مخاطبتهن، وتوجيه الأوامر إليهن من الأميات أو المفتقرات، أو المكسورات الجناح، سواء داخل حزبه أو في بيت الثريات، أو مخيلة الزمن الأول للدعوة: يسمعن ويطعن، وقد ينتظرن “سي سيد” ليتوسلنه، فيعيلهن، إن شاء، أو يتكفل بطعامهن وكسائهن وزينتهن، إن رغب وتفضل، وقد يعظهنّ أو يعرض عنهنّ فيهجرهن أو يضربهن، وذلك من أضعف إيمانه.
منطق أصولي دينسي واحد، يحكم تصور الأصوليين للمرأة في وجودها. تختلف تمظهراته من مقام إلى آخر، وتتنوع تجلياته من مسؤول إلى آخر، أو من وضع إلى آخر، خاصة إذا كانت هذه المرأة “ناجحة”، وتحتل موقعا قد يضاهي موقع الأصولي الدينسي، أو يتوهم ذلك. عندئذ، تطفو لغة العنف، وتعلو ملوثات الخطاب، من تحقير وتجهيل واستعلاء. ولنا في العقيد/ الكونونيل الذي رفض مصافحة امرأة في شخص “والي منطقة الغرب، لكونها امرأة، فأحيل على المعاش، ولم يهتم أحد بمرافعة المتطرفين الذين شايعوه، وكان من المشايعين الأستاذ الريسوني”[46]، أحسن الأمثلة. وكذلك حال الأستاذ بنحمزة، في سياق إعداد مدونة الاسرة التي تمخضت عن خطة إدماج المرأة في التنمية، لمّا رفض مصافحة امرأة كانت عضوة معه في صياغة المدونة، علما بأن رافضي المصافحة يحتلان موقع مسؤولية تدبير الشأن العام، ويتقاضيان أجورهما وتعويضاتهما من مال الشعب.
فما هالَ السيد الوزير المحترم، من موقع مقامه كوزير للأمة في قطاع النقل، أن تسأله امرأة، ليست ككل النساء فيما ترسخ في تمثله لهن. فهي امرأة كاتبة ومثقفة وباحثة، وحاصلة على دكتوراه في الصيدلة، وحباها الله من الجمال والعفاف، ونظافة اليد والفم ما لم يدعه في كثير من بنات جنسها وجنس الوزير. أبت أن تكتفي بالمكوث في البيت لتربية الأولاد، ورعاية الزوج وخدمته بتحولها فحسب إلى ثريا معلقة في سقف غرفة البيت بين السماء والأرض لتزيينه وإنارته للناظرين؛ أي أبت أن يقترن احترامها فحسب بالارتهان بالبيت وتوابعه.
أما وقد خرجت المرأة من البيت، وغاب عنها نور الثريا، فليست جديرة بالاحترام من حيث المبدأ، فكيف وقد بدأت تسأل في قبة المحترمين، وتستعجل الجواب؟ المرأة لا تسأل إنما تحكي تحت أضواء الثريا، على غرار حكي شهرزاد لشهريار. ولذلك ظلت الثقافة العربية القديمة تحتفظ للمرأة بمزايا تُنسب لها دون غيرها، هي “خفض الصوت، والإمساك عن الكلام، لكي لا تكون فَحْلَة سليطة اللسان[47]” (زلة اللسان). وفي الثقافة العربية الكلاسية، مَثَلٌ ذائع يُمعن في الذكورة، ويصب في اتجاه الفحولة ويشهد لها: “إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها”[48].
فالتشبه بالديك/ الفحولة والذكورة مدعاة للذبح[49] في تمثل السيد الوزير، ولا وعيه الثقافي. فقوله: “سلاما”؛ تعليق صريح لحق المرأة في السؤال الذي يجب أن يمر عبر كينونة الرجولة. ومن ثم، فإذا سألت المرأة يجب “ذبحها”، لأن السؤال ذكوري والجواب أيضاً ذكوري. وأشكال الذبح الذكوري كثيرة، منها التجهيل والاستخفاف والاستعلاء والتحقير والتسفيه، والفجور في المخاطبة، إلخ. ولنا في مد الجسور بين السياسيين، والأصوليين الدينسيين، وصف الشيخ مصطفى بنحمزة “لامرأة بالنكرة من النكرات”، فقط لأنها أمّت الناس في الصلاة، ثم زاد في قذفها وسبها وأمعن في تحقيرها والاستخفاف بها قائلاً:” لو كانت حتى رجلاً لا تصح الصلاة وراءها !!..”[50]. ونفس المنطق سار فيه وأمعن، لمّا وصف كل محاوريه من المخالفين له في تصوراته ومرجعيته، تارة بالقزم، وتارة ثانية بالتافه، وتارة أخرى، ب”أحدهم”… ومن بنفس المرجعية، وذات المنطق، وبقصد تشويه صورة المرأة الحديثة والحداثية، سواء في قبة المحترمين، أو في أي مجال عمومي تسعى لصون كرامتها الإنسانية، بالعمل خارج البيت، وخارج تمثله النمطي للمرأة التي في ذهنه. صحيح التقط، كما استخلص ذلك العمري، بعض مظاهر تشيييء المرأة في مختلف الفضاءات العمومية والخصوصية وتبخيسها ( المتاجر والمطاعم والمكاتب والأسواق، وغيرها) وفي مواقع متنوعة …. وتحولها إلى سلعة للاستهلاك والمتعة، لكن هذه المظاهر المشينة لصورة المرأة المطلوبة أيضا عند الحداثيين العلمانية، والعمري واحد منهم، ليست مدعاة لتعميم الأحكام وإطلاق الأوصاف دون حرص العلماء على الإحاطة والاستقراء ودخول البيوت من أبوابها…
واحد “إكوي واحد ابخ..”…ذلك جاري الحال بين منظري الخطاب الأصولي الدينسي (بنحمزة الريسوني، وغيرهما) وممارسة العمل السياسي، ومدبريه، وهم يصرفون تنظيرهم. وليتأمل المتأمل تفاعل التكامل بينهم، تأمل نتائج ذلك في البرلمان المغربي. فمتتبع دوراته، يجد العجب العجاب من الخروقات والأمراض والأعطاب بين المحترمين. والباحث لا يعدم كثرة الأمثلة والحالات التي وصلت القضاء، وتلك التي تتنظر؛ سواء من طبيعة السب والقذف والتحقير والتشهير والتسفيه، والفجور في النعوت والأوصاف، وما إلى ذلك، ويكفي للتمثيل فقط لا للإحاطة التذكير بما حدث بين البرلماني ادريس الراضي لمّا عرى بطنه لرئيس الحكومة، وما جرى بين رئيس الحكومة نفسه والبرلمانية ميلودة حازب لمّا أوحى لها بما أوحى، ولمّا وصف البرلماني عبد الله البقالي في سياق مناقشة مشروع قانون الصحافة بأبي لهب، وبينه أيضا وبين البرلماني ادريس لشكر وتبادل السفه بينهما…إلخ، أو من نوع الضرب والعض والرفس واللَكم والاشتباك بالأيدي، وإلقاء الكؤوس( مثل ما جرى بين الوزير محمد الوفا لمّا تلفظ بعبارة “طُّز”، وما توحي به أيضاً من قدح فاضح في حق البرلماني ادريس الراضي..) وحدّث وعَرَقُ الحَرج يتصبب دون انقطاع. معالم بؤس الخطاب السياسي المغربي الجاري لا يحجبها “غربال”. قبة المحترمين أم حلبة المتصارعين؟
ومثل هذه الخروقات الأخلاقية والعقلية العابرة للخطاب الأصولي الدينسي، مدخل خصب لتسميم الأجواء العمومية وتلويثها، وسبب من أسباب إشعال نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، قد لا تُبقي ولا تذر.
خلاصة:
ومحصلة كل ما سبق، تبرر حرص محمد العمري على مطلب العلمانية[51] وتشرعنه، سواء في السياسة أو البلاغة على حد سواء، رغم سمعتها السيئة عند الأصوليين الدينسيين. وبخصوص العلمانية السياسية التي يدعو إليها العمري ويحث عليها، بل ويطلب بالتعجيل في تفعيلها، فتلك التي تفصل السياسة عن الدين، والدين عن السياسة[52]. تلك العلمانية التي تقف على مسافة واحدة من كل الأديان، وعلى أساس المواطنة التي تحكمها حقوق الإنسان، بما هو إنسان، بصرف النظر عن دينه أو لونه أو عرقه، أو حزبه أو مذهبه إلخ. وذلك ما يزكيه مسار التاريخ البشري، ويشهد له. ذلك أن ممارسة السياسة بالدين، سواء في العقيدة أو الشريعة، مدخل مضمون للفتنة، ولذلك دعا، بشكل حاسم إلى فصل السياسة عن الدين، في الفضاء العمومي حصراً، حتى لا يتم استغلاله في مجال هو مجال الاختلاف والحوار بامتياز. فالدين ” يقوم على نسق مكتمل مطلق ومتعال (وأنه لا يعتبر الحياة الاجتماعية غاية في ذاتها)، أما السياسة فتقوم على توافق بشري في تدبير شؤون “الاجتماع” كموضوع وغاية، توافقٌ قوامه النسبية والاحتمال والترجيح”[53]. وذلك ما يتعب الأصوليين ويرهقهم. تكلس وجفاء لا يسعفانهما النظر إلى الحياة في سعتها ومرونتها ولعبها وحريتها…
ويضيف في هذا الشأن، وتأكيداً لما افترضه أعلاه: “يمكن أن نقول بأن الهدف الاستراتيجي ضبط علاقة الدين بالسياسة هو ما قاله أردوكان لإخوانه المصريين فأغضبهم: أنا متدين والدولة علمانية، تقف على مسافة واحدة من كل الأديان. والعلمانية التي نقصدها هي التي تحترم حرية المعتقد، بل تضمنها وتسهل ممارستها في إطار القانون العام الذي يمتد في المبادئ الكونية لحقوق الإنسان”.[54]
أما ما يتعلق بعلمانية البلاغة، فتلك طبيعتها وماهيتها. فالبلاغة علمانية المنشأ والمسار. وتاريخ البلاغة منذ ميلادها الأول في اليونان[55]، وتاريخ ممارستها- إلا في حالات الاستبداد والحكم الشمولي- تاريخ علماني، وفضاء ممارستها وحياتها مرتبط بعلمانية الفضاء العمومي، والاحتكام إلى القوانين المتوافق حولها. دون ذلك لا تُزهي البلاغة ولا تُرْطب، ولا تُزهر ولا تُثمر. ففضاء البلاغة الطبيعي، فضاء علماني، وكذلك يجب. وهو ما عبّر عنه فيليب بروطون ( Philippe Breton) ب”علمانية الفضاء”[56].
يقول بروطون في تعريفه لمفهوم “علمانية الفضاء” وصلتها بالبلاغة، في بُعدها الحجاجي التداولي: إن “علمانية” الفضاء الذي يتطور فيه الحجاج، تُعد بُعداً أساساً في الحجاج الذي يتيح له أن ينأى عن الدوغمائية ( وليس معنى ذلك أن العلم أو الدين في حد ذاتهما دوغمائيات، ولكن تعميمها على الفضاء العمومي هو ما يجعلهما كذلك) وخارج الحقل الذي يخول لها مصداقيتها، ويمنحها نسبيتها، تعمل المعرفة العلمية على تحويل آرائنا المحتملة إلى إيهام بالحقيقة”[57].
وبكلمات معدودة، فإن من علامات الأصولي الدينسي، خاصة في موضوع تمثله للمرأة وتعيين حدود وجودها، كونه على حد قناعة محمد العمري، عدو للحرية وحقوق الإنسان، ومستغل للدين قناعا عند العوام والفقراء لتحصيل مزايا سياسية واقتصادية، بل عدّه من أكبر مفسدي العقول بالترهات والسخافات، وسرقة حق المغاربة في الكرامة والديمقراطية وخيرات الحداثة، ناهيك عن قناعته الراسخة في استعباد المرأة وإهانتها، تحت مسميات ومبررات، مستمدة من مرجعية متحجرة ومتكلسة خارج التاريخ والجغرافية. ولذلك تجد الأصولي الدينسي، يرتاب من المرأة كالتي وصلت إلى قبة المحترمين، بل ويتوجس منها ويُعاديها، وعلى هذا الأساس: “يرفض أن ينظر في وجه المرأة الحديثة العالمة والمثقفة والمناضلة، لأنها تملك من المؤهلات ما يسخر من مؤهلاته. ولذلك يفضل أن يعود بالعلاقة إلى مستوى الدجاج والنعاج، مستوى الفروق البيولوجية، فيقول مع وجدي غنيم متهكما من مطلب المساواة: “الله ! الديك ديك، والفرخة فرخة” ودعْك من حديثه الوقح عن الخروف والنعجة”[58]./.