الأربعاء 19 يونيو 2013
|
وصلتنى تعقيبات عديدة على مقالى الأسبوعى المنشور فى صفحة الرأى يوم الأحد الماضى، تحت عنوان: «المشكلة مع التنظيم الإخوانى وليس مع المشروع الإسلامى». بعض هذه التعليقات يتساءل عما أقصده بالمشروع الإسلامى، وبعضها الآخر يوجه لى الاتهام، صراحة أو ضمنا، بأننى «أمسك العصا من منتصفها وأحاول إرضاء الجميع».. إلخ. وأود أن أشير هنا بشكل عابر إلى أننى لم أكتب إلا ما يعبر عن اجتهادى وقناعاتى الشخصية، وليس لاسترضاء أو إغضاب أحد. ولأننى لست عضواً فى أى تنظيم، ولا طامعاً أو طامحاً فى أى دور أو منصب، أحمد الله أن منحنى ما يكفى من الشجاعة لأعبر عن وجهة نظرى فى كل وقت، وبحرية تامة دون طمع فى ذهب المعز أو خوف من سيفه. ولا أقصد من العودة للحديث اليوم عن هذا الموضوع نفى تهمة أو تبرير موقف، وإنما فقط توضيح ما قصدت لكل من سأل واستفسر.
«المشروع الإسلامى» الذى قصدته هو المشروع الفكرى الذى أطلقه الأفغانى فى منتصف القرن التاسع عشر وحمل رايته الإمام محمد عبده من بعده، واستهدف تحرير عقل الإنسان المسلم وتمكينه من التصالح مع ذاته أولاً، ومع الآخرين ثانياً، ومع العصر الذى يعيش فيه ثالثاً، وهو مشروع موجه للمسلمين كافة، بصرف النظر عن أوطانهم أو جنسياتهم، واستنهاض هممهم لتقديم نموذج فى السلوك والمعاملات يليق بعظمة دينهم الحنيف. ولأنه دين يعترف بكل الأديان السماوية التى سبقته وجاء متمماً لها فلا يتصور عقلا، حين يُفهم على وجهه الصحيح، أنه يحض على التعصب أو الكراهية أو استخدام العنف فى مواجهة الآخر المختلف، أو سبب فى التخلف أو عائق أمام التقدم أو متناقض مع العلم أو مناهج التفكير الحديثة. وهذا هو بالضبط ما استوعبه مصلح اجتماعى كبير، فى حجم جمال الدين الأفغانى، وإمام وعالم كبير فى حجم الشيخ محمد عبده، ومن سار على نهجهما من أمثل الشيخ رشيد رضا وعبدالرحمن الكواكبى وقاسم أمين وغيرهم.
لو قدر لمثل هذا المشروع الفكرى أن يتواصل لاستطاع العالم الإسلامى من خلاله أن يعثر على صيغة للتصالح مع عصره، والانطلاق على طريق النهضة والتقدم، مع الحفاظ فى الوقت نفسه على ذاته وهويته. غير أن العالم الإسلامى لم يتمكن للأسف، ولأسباب كثيرة، من مواصلة هذه المسيرة الفكرية. فقد وقع تحت مطرقة الاحتلال الأوروبى، من ناحية، وسندان التسييس، من ناحية. وإذا كان الاحتلال الأوروبى قد سعى لفرض نموذجه «التغريبى» بالقوة، فقد راحت فصائل «الإسلام السياسى» التى ظهرت، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، تدفعه نحو التقوقع والانغلاق على الذات بدعوى حماية خصوصيته الثقافية والحضارية.
عندما ظهرت جماعة الإخوان المسلمين وقدمت نفسها فى البداية كحركة دعوية هدفها بناء وتربية الإنسان المسلم تربية صحيحة، ليصبح نواة لبناء الأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالدولة المسلمة فالأمة الإسلامية، بدت حينئذ وكأنها أحد تجليات «المشروع الإسلامى»، وانتقاله من الحيز الفكرى البحت إلى الحيز الحركى، ومن هنا ترحيب الجماهير به بل حماسهم له فى البداية. غير أنه ما إن بدأ «تنظيم» الجماعة يقوى ويشتد ساعده، حتى بدأت تظهر عليه ذات الأعراض المرضية التى تصيب التنظيمات العقائدية كافة: فقد حلت الجماعة محل الأمة وأصبحت المصلحة التنظيمية للجماعة هى مصلحة الأمة، بل مصلحة الإسلام ذاته، ثم حل الجهاز الخاص محل الجماعة وأصبحت مصلحة الجهاز من مصلحة الجماعة، ثم حل المرشد محل كل أجهزة وتنظيمات الجماعة، لينتهى المطاف بهيمنة حفنة صغيرة يقودها مرشد يكاد يعتبر نفسه نبياً مرسلاً. ولأن تنظيم الإخوان لم يعد وحده على ساحة العالم الإسلامى، بعد أن تفرعت عنه أو نشأت من خارجه تنظيمات أخرى كثيرة فى مصر وفى غيرها من البلدان، فقد أصبح لكلٍ مشروعه «الإسلامى» الخاص، وتحولت إلى عبء ليس فقط على المجتمعات الإسلامية بل على الإسلام ذاته.
المشروع الإسلامى الذى نقصده ليس مشروع «جماعة الإخوان» فى مصر، أو مشروع «حركة النهضة» فى تونس، أو مشروع «حركة طالبان» فى أفغانستان وباكستان، فتلك كلها برامج سياسية لتنظيمات تستهدف الوصول إلى السلطة، ولكنه مشروع لتحرير الفكر وتحرير العقل الإسلامى، بدأه الأفغانى ومحمد عبده فى منتصف القرن التاسع عشر، ثم توقف قبل أن ينضج ويكتمل. والمطلوب أن نعيد إحياءه وأن نستكمل مسيرته.
نقلا عن جريدة المصري اليوم
«المشروع الإسلامى» الذى قصدته هو المشروع الفكرى الذى أطلقه الأفغانى فى منتصف القرن التاسع عشر وحمل رايته الإمام محمد عبده من بعده، واستهدف تحرير عقل الإنسان المسلم وتمكينه من التصالح مع ذاته أولاً، ومع الآخرين ثانياً، ومع العصر الذى يعيش فيه ثالثاً، وهو مشروع موجه للمسلمين كافة، بصرف النظر عن أوطانهم أو جنسياتهم، واستنهاض هممهم لتقديم نموذج فى السلوك والمعاملات يليق بعظمة دينهم الحنيف. ولأنه دين يعترف بكل الأديان السماوية التى سبقته وجاء متمماً لها فلا يتصور عقلا، حين يُفهم على وجهه الصحيح، أنه يحض على التعصب أو الكراهية أو استخدام العنف فى مواجهة الآخر المختلف، أو سبب فى التخلف أو عائق أمام التقدم أو متناقض مع العلم أو مناهج التفكير الحديثة. وهذا هو بالضبط ما استوعبه مصلح اجتماعى كبير، فى حجم جمال الدين الأفغانى، وإمام وعالم كبير فى حجم الشيخ محمد عبده، ومن سار على نهجهما من أمثل الشيخ رشيد رضا وعبدالرحمن الكواكبى وقاسم أمين وغيرهم.
لو قدر لمثل هذا المشروع الفكرى أن يتواصل لاستطاع العالم الإسلامى من خلاله أن يعثر على صيغة للتصالح مع عصره، والانطلاق على طريق النهضة والتقدم، مع الحفاظ فى الوقت نفسه على ذاته وهويته. غير أن العالم الإسلامى لم يتمكن للأسف، ولأسباب كثيرة، من مواصلة هذه المسيرة الفكرية. فقد وقع تحت مطرقة الاحتلال الأوروبى، من ناحية، وسندان التسييس، من ناحية. وإذا كان الاحتلال الأوروبى قد سعى لفرض نموذجه «التغريبى» بالقوة، فقد راحت فصائل «الإسلام السياسى» التى ظهرت، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، تدفعه نحو التقوقع والانغلاق على الذات بدعوى حماية خصوصيته الثقافية والحضارية.
عندما ظهرت جماعة الإخوان المسلمين وقدمت نفسها فى البداية كحركة دعوية هدفها بناء وتربية الإنسان المسلم تربية صحيحة، ليصبح نواة لبناء الأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالدولة المسلمة فالأمة الإسلامية، بدت حينئذ وكأنها أحد تجليات «المشروع الإسلامى»، وانتقاله من الحيز الفكرى البحت إلى الحيز الحركى، ومن هنا ترحيب الجماهير به بل حماسهم له فى البداية. غير أنه ما إن بدأ «تنظيم» الجماعة يقوى ويشتد ساعده، حتى بدأت تظهر عليه ذات الأعراض المرضية التى تصيب التنظيمات العقائدية كافة: فقد حلت الجماعة محل الأمة وأصبحت المصلحة التنظيمية للجماعة هى مصلحة الأمة، بل مصلحة الإسلام ذاته، ثم حل الجهاز الخاص محل الجماعة وأصبحت مصلحة الجهاز من مصلحة الجماعة، ثم حل المرشد محل كل أجهزة وتنظيمات الجماعة، لينتهى المطاف بهيمنة حفنة صغيرة يقودها مرشد يكاد يعتبر نفسه نبياً مرسلاً. ولأن تنظيم الإخوان لم يعد وحده على ساحة العالم الإسلامى، بعد أن تفرعت عنه أو نشأت من خارجه تنظيمات أخرى كثيرة فى مصر وفى غيرها من البلدان، فقد أصبح لكلٍ مشروعه «الإسلامى» الخاص، وتحولت إلى عبء ليس فقط على المجتمعات الإسلامية بل على الإسلام ذاته.
المشروع الإسلامى الذى نقصده ليس مشروع «جماعة الإخوان» فى مصر، أو مشروع «حركة النهضة» فى تونس، أو مشروع «حركة طالبان» فى أفغانستان وباكستان، فتلك كلها برامج سياسية لتنظيمات تستهدف الوصول إلى السلطة، ولكنه مشروع لتحرير الفكر وتحرير العقل الإسلامى، بدأه الأفغانى ومحمد عبده فى منتصف القرن التاسع عشر، ثم توقف قبل أن ينضج ويكتمل. والمطلوب أن نعيد إحياءه وأن نستكمل مسيرته.
نقلا عن جريدة المصري اليوم