في سياق تضارب المواقف بين مكونات كتيبة الفريق الحكومي برئاسة بنكيران بخصوص منع المظاهرات وقمع الاحتجاجات بالعنف والقوة. هذا الحراك الاجتماعي، والذي دشنته الأطر العليا المعطلة مرورا بجمعيات المعطلين بمختلف درجات مستوياتهم التعليمية، فضلا عن مختلف المسيرات الشبابية والنسائية، وصولا إلى حركة الطلبة الأطباء ثم الأساتذة المتدربين للتصدي لقرارات ذات الحكومة وإعمال القانون وأجرأة مضامين دستور 2011 للتأسيس لمغرب الحريات.. في هذا السياق عادت عقارب الزمن المغربي لطرح قضية الحركات الاحتجاجية السلمية في الشارع العام وأمام مؤسسات الدولة. ولمساءلة الوضع القانوني في هذا الشأن فتحت “أنفاس بريس” و”الوطن الآن” صفحاتها لمختلف الفاعلين السياسيين والنقابيين والحقوقيين والجمعويين لمناقشة الحق في التظاهر والاحتجاج وأسبابه ومسبباته.. وهذا نص الحوار مع الدكتور كمال هشومي الأستاذ الجامعي والفاعل الجمعوي كاتب جمعية الشعلة للتربية والثقافة.
س* كيف تقرؤون تطور الوضع الحقوقي بالمغرب في علاقته بدستور 2011، وهل تلمسون تغييرا نحو الأفضل أم العكس؟
ج – في الواقع هذا سؤال يعتبر موضوعا كاملا يتطلب البحث والتنقيب بناء على مؤشرات ومعطيات تجعل الباحث والمتتبع والمسؤول العمومي له القدرة الموضوعية والواقعية من أجل توصيف الحالة اليوم بعد ما عرفت وتعرفه بلادنا مؤخرا من مجموعة من الأحداث والقضايا المرتبطة أساسا بمفهوم الحقوق وممارستها واحترام إعمالها.
لقد عرف تاريخ المغرب المعاصر خاصة تراكم التجارب عبر مجموعة من الأحداث التي أساءت إلى وضعه حقوقيا وديمقراطيا، إلى أن فطن الجميع، نظاما سياسيا وأحزابا ومجتمعا مدنيا، أن الصراع والصدام لا يمكن أن يؤدي إلا إلى وضع خاسر/خاسر. والواقع أن الوطن هو الخاسر الأكبر، فنهجت مقاربة المصالحة مع هذا التاريخ بإنصاف المتضررين ماديا ومعنويا، وبعد اختيار استراتيجية العمل والنضال بل والمعارضة من داخل المؤسسات، وأصبح هناك إجماع وطني على مقدسات البلاد، مع بعض الاختلافات ترتبط بالكيفيات والأساليب التدبيرية، وصولا إلى ما عرفه المغرب من حراك مجتمعي وجد البلاد قد جربت وانطلقت في تمرينها الديمقراطي.. تمرين مكنها من فهم الرهان وتأطيره بالتجاوب الفعال والسريع مع هذا الحراك بحكمة وإعمالا للعقل ولمنطق المصلحة العامة بمنظور الأفق الديمقراطي المستقبلي للبلاد، وهو ما حاولت -أعتقد- مختلف المكونات السياسية والحزبية والمدنية تأطيره وتفعيله. وكان نتاج ذلك دستورا متميزا سواء على مستوى الاعداد والتحضير، أو على مستوى الحمولة والمكتسبات. لكن، للأسف، وقعنا فيما شخصيا كنت أخشاه بكون حجم المطالب وعمقها لا يتماشى مع حجم وقدرة النخبة والجهة المخولة لتفعيل هذه المطالب. فالدستور ينص في فصوله من 21 إلى 25 على منع كل أشكال المس بحق التعبير والفكر والرأي والسلامة الجسدية وصيانة الممتلكات، ورغم ذلك تم تجاوز ذلك بأبشع الصور والأشكال. إن ما يقع من مضايقات متنوعة، وباختلاف وسائلها، لا يمكن قبولها اليوم، ولو صمت الدولة آذانها أمام طلبات الميثاق التأسيسي لحركة 20 فبراير وتعاملت بالرد الذي جوبه به الأساتذة الطلبة بإنزكان وغيرها، لكانت البلاد أكيد ستتخذ اتجاها آخر غير الاتجاه السليم والصحيح الذي أنتج لنا ذلك الدستور، وهي الوضعية التي يتغنى بها الجميع والمتمثلة في الخصوصية المغربية.. فالخصوصية هي خصوصية ديمقراطية وحقوقية وتنموية تحقق الفرق والتفاوت مع ما هو كائن اليوم.. وأجزم وأقول، على المعنيين بهذه التضييقات والتصرفات الغير محسوبة النتائج أن يفهموا أن معطيات وأجواء اليوم غير تلك التي عرفها المغرب سابقا، ومن يريد لهذا الدستور أن يبقى متنا صوريا، لا يريد أبدا الخير لهذه البلاد بمختلف مكوناتها الرسمية والشعبية.
س* ما هي أسباب هذا التراجع؟ وما هي الضمانات الحقوقية والقانونية لتحصين مطلب الحق في التظاهر السلمي والحضاري؟
ج – أعتقد أنه مؤسساتيا تعتبر الحكومة المؤتمن أولا على الحفاظ على روح خطاب 09 مارس 2011 وروح دستور 2011، كما لا يمكن أن تقدم مختلف المكونات السياسية والحزبية والمدنية استقالتها من اليقظة المتواصلة والتضحية المسؤولة للحرص على تفعيل دستور 2011، ولما لا كذلك تطويره إلى الأحسن ولكن تفعيلا لبنوده أيضا. وهنا أريد أن أفتح قوسا إذا سمحتم، كنت بكل تواضع قد عبرت مباشرة بعد إنهاء اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور عملها بالطريقة التشاركية التي انتهجتها، -كنت- آمل أن تواصل حركة 20 فبراير عملها بشكل مسؤول ويقظ، وأن تنخرط في عملية نقاش الدستور وحملة تعبوية له ثم المشاركة والتعبئة في الانتخابات التشريعية، لكن للأسف قاطعت الانتخابات وتركت المجال متاحا لما نحن نعيشه اليوم. إن الاصلاح عملية طويلة وتدريجية وهو منطق علمي وديمقراطي سليم، لا يمكن أن نعمق انتقاداتنا واحتجاجاتنا دون تواضع رؤانا لعملية الاصلاح وإلا سنكون أمام العدمية، وبالتالي فإني أعتبر تراجع حركة 20 فبراير هو من رجح كفة الأغلبية الحالية وعدم مواصلتها لعملها سبب الارتداد فيما يتعلق بما تضمنه هذا الدستور من مكتسبات لحد الآن، وهو ما يمكن أن نصفها بالشكلية طالما لا يتم الحرص على تفعيلها.
أما بخصوص الضمانات الحقوقية والقانونية لتحصين مطلب الحق في التظاهر السلمي والحضاري، فيقصد بالاحتجاج هنا ذلك الشكل من الأشكال الملموسة للتعبير عن الرأي، أو ما يسمى في التعريف الحقوقي بحرية التعبير، والمنصوص عليها في الميثاق العالمي لحقوق الانسان بالمادة 19، والمضمونة أيضا بنص دستوري منذ سنة 1996 في فصله التاسع والذي جاء فيه:
يضمن الدستور لجميع المواطنين:
أـ حرية التجول وحرية الاستقرار بجميع أرجاء المملكة.
ب ـ حرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله… إلخ.
كما نص الدستور 2011 بشكل متطور على حرية الرأي و التعبير وخصص لها بابا كاملا (الباب الثاني: الحقوق والحريات)، كما أفرد بشكل مباشر فصول مدققة في الأمر وخاصة أربعة فصول من 25 إلى 29. وحرم المساس بهذه الحقوق والحريات، وعلى سبيل المثال لا الحصر المادة 22 تصرح “لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة.لا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية.ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون”.
إن هناك مجموعة من المهام تجعل القائمين على تنفيذها من المسؤولين في إطار تدبير السياسات العمومية يتصورون، بل هذا هو الاعتقاد السائد، أنهم موجودون في مناصبهم لينعموا على المحكومين بهذه الامتيازات، انطلاقا من مفهوم تولد لديهم بانهم أولياء نعمة، وليس أنهم ممثلين وخادمين للمواطنين وللوطن، شأنهم في ذلك شأن المستعمر الذي كانت له مبررات استعمارية تهدف إلى نقل خيرات البلاد إلى وطنه الأصلي، الشيء الذي يحصل معه الاعتراض من طرف المواطن بعدة أشكال احتجاجية، ويصطدم المحتج مع الادارة، وهي التي تقرر أنه قد خرق قواعد التعامل الحضاري وارتكب مخالفة للقواعد القانونية التي ترتب جزاءات.. وهو موضوع شائك في الواقع يحتاج إلى اجتهاد قانوني ونيات أسلم وأحسن. فمثلا الدستور المغربي يعطي الحق في الإضراب، لكن القانون الجنائي في نفس الوقت يعاقب على عرقلة حرية العمل.. فكيف نوازي بين ضمان حق الإضراب وبين عدم عرقلة حرية العمل؟ وهي إشكالية تطرق إليها مجموعة من القانونيين المهتمين.
س* هل الحركات الاحتجاجية السلمية والحضارية تساهم في بلورة وعي المجتمع من خلال ترسيخ قيم الحرية والديمقراطية؟
ج – أكيد لها دور محوري في توعية المجتمع وتأطيره، بل وتلقينه مفهوم المواطنة الحقة، المواطنة الكاملة التي تربط بالضرورة بين ثنائية الحق والواجب.. لكن يجب الانتباه أنه لا يمكن أن تكون ذريعة للفوضى وللميوعة وللاستغلال الغير البريء، فالاحتجاج ثقافة وتربية في نفس الوقت، يجب على المواطن أن يكون قادرا على تكوين رأيه وموقفه وعلى التمييز بين الدفاع عن حقوقه كمبدأ، ولكن كذلك الوسيلة والكيفية المستعملة في هذا الاحتجاج مع الاحترام التام للغير في ممتلكاته وشخصه، وفي نفس الوقت عليه أن يكون ديمقراطيا وأن يلتزم بالموضوعية والواقعية والمسؤولية، لأن حرية التعبير مبدأ إنساني كوني، وسلوك الاحتجاج هو فطري ومعطى بشري لا يمكن لأي كان أن يطفئه ويقصيه وينفيه عن الأخر، قد يؤجله ولكن أكيد لن يستطيع القضاء عليه من جيل الى جيل، ولعل الأحداث التاريخية القريبة داخل وخارج الوطن تؤكد ذلك بالملموس.
س* لماذا تصر الحكومة المغربية على عدم تفعيل القانون لضمان الحقوق والواجبات انطلاقا من حركية المجتمع وفعالياته المدنية والحقوقية والسياسية والنقابية؟
س – أعتقد أن الحكومة دخلت في دوامة غير سليمة، وهي المتسمة بردود الفعل، كجهاز تنفيذي وكأغلبية، أظن عليها أن تكون حريصة خلال هذه السنة الدستورية الانتقالية أساسا على تفعيل الدستور كاملا حسب ما نص هذا الأخير في أحكامه الانتقالية، وهو الدستور الذي على أساسه أتت هذه الحكومة، وبناء على سلوك الاحتجاجات المسؤولة تبوأت المراتب المتقدمة ووصلت إلى ما هي عليه. إن الاستثمار في الفعل الحقوقي والديمقراطي والتنموي واجهات لأبعاد مواطناتية، لأنها تستهدف البناء وتستهدف العقليات والبشر، وهو خير استثمار لأي حركة سياسية رسمية أو شعبية هدفها فعلا الوطن، والتاريخ هو المحكمة العليا لكل البشرية.. أكيد لن يرحم هذه المزايدات الديماغوجية للمسؤولين على تدبير الشأن العام لتبرير نهج سلوك القمع والترهيب والتحدي، بل الحوار وتبادل وجهات النظر والبحث عن أرضية مشتركة لحل مختلف الاشكالات العويصة مع الحركة الاحتجاجية المدنية عامة، والحركة النقابية والحزبية خاصة؛ هي الوسيلة الأسلم لمعالجة مختلف الملفات العالقة.
س* في الختم ماذا يمكنك أن تضيف؟
ج – يجب أن يعلم الجميع أن منطق الأمن والاستقرار مقابل الحرية، وأنه لا حرية مع الأمن والاستقرار، منطق متجاوز لا يخدم مصالح البلاد التي اختارت الحوار كمنهج، والتعاون والبحث عن الحل الوسط كسلوك، والتشبع بحب الوطن الذي لا يمكن أن يكون مستقرا وهادئا الا حينما يحس من خلاله كل مكونات شعب هذا الوطن مطمئنا وصائنا لكرامته ومحترما لآرائه ومطمئنا لهواجسه.