أيهما أسبق في الوجود الفقر أم الغنى؟ سؤال لم أسمع أو أقرأ مثله من قبل، والإجابة الصحيحة عنه قد تكون بأن الفقر هو الأسبق، وأن الغنى في شكليه القديم والحديث لم يأت إلاّ في وقت متأخر بعد أن نجحت البشرية في تنظيم أمورها، وبدأت تستقر في المدن
ويزاول أفراد من أبنائها التجارة وآخرون الزراعة.أما قبل ذلك فقد كان الناس يعيشون سواسية ولا يشعرون بفوارق تذكر، وربما كانوا أحسن حالاً فلا تنافس بينهم ولا تحاسد، ولا ما يدفع إلى اصطناع الفوارق، هذا ما أظنه أو بالأصح اعتقده . ومن المؤسف القول إن التمدن هو الذي يمكِّن للفوارق من الظهور، وأنه منذ نشأت المدن ودخل الناس مرحلة جديدة من العلاقات بدأ الحديث عن الطبقات العليا والوسطى والدنيا، وبدأت الفوارق تأخذ أبعادها الفاجعة التي لم تخفف من وطأتها سوى الأديان والدعوات المبكرة إلى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
وفي مثل ظروفنا العربية الراهنة ماذا يمكن أن يقال لأولئك الذين يزدادون ثراءً وجشعاً، والذين اتسعت شهيتهم لامتلاك كل ما على الأرض وما في الفضاء؟ سؤال مرسوم على كل الشفاه وإن لم تتمكن هذه الشفاه من النطق به أو تسعى إلى الإجابة عنه، لاسيما حين نقابل واحداً أو أكثر من هؤلاء الأثرياء . والمشكلة لا تكون مع أولئك الذين حققوا ثراءهم بجهودهم الفردية وتنامي ثراؤهم عبر عشرات السنين، وإنما هي مع أولئك الذين يخرجون فجأة من العدم أثرياء، ويشار إليهم بالبنان بوصفهم من أصحاب رؤوس الأموال العالية التي تتصاعد في الليل أكثر مما تتصاعد في النهار.وما يرافق ذلك من شكوك وإشاعات وتساؤلات لا تجد من يجيب عنها، وهي حالة لم تكن قائمة في البلاد قبل التحولات الأخيرة وما رافقها من عشوائية اقتصادية وتخبطات سياسية على مستوى الوطن العربي كله.
كان الإنسان في ما مضى وإلى وقت قريب يستغرق وقتاً طويلاً ليكون بعده واحداً من الأغنياء، أما الآن فقد تغير الحال وأصبح في إمكان أي شخص أن يصبح غنياً بين عشية وضحاها، وأن يلعب بالملايين والمليارات كما يلعب مدمنو المقاهي بقطع الدومينو، ومن ذلك ما تناقلته الأنباء منذ شهور قليلة عن واحد من هؤلاء الأغنياء بعد أن أنفق ستين مليون دولار في ليلة واحدة هي ليلة زفافه (العاشر) من إحدى الفنانات، وكان هذا المبلغ كافياً لإنقاذ عشر جامعات عربية من الإفلاس. وأقول، وأكرر، إننا لا نحسد أحداً من الأثرياء سواء كانوا أثرياء النهار أو أثرياء الليل، ولكننا نتساءل فقط كيف هبط الثراء الفاحش على بعضهم فجأة فتحولوا بين عشية وضحاها من فقراء لا يملكون شيئاً إلى أغنياء يملكون كل شيء.ومازلت أتذكر بيتين من الشعر القديم حفظتهما في المدرسة المتوسطة وهما:
ملك الملوك إذا وهبْ
لا تسألنَّ عن السببْ
الله يعطي من يشاء
فقف على حدِ الأدبْ
ولكي نتوقف جميعاً عند حد الأدب لابد أن نرى آثار هذا العطاء الإلهي وقد تحول إلى مشاريع ومصانع تستقطب الأيدي العاملة العاطلة، وأن تتحول كذلك إلى مدارس ومستشفيات ومتاحف وأنشطة اجتماعية وثقافية، وإلى مساعدة آلاف الطلاب الجامعيين الذين لا يجدون قيمة المواصلات اليومية، حينئذٍ سيكف الشارع عن تساؤلاته (غير اللائقة)، ويكف الكتّاب عن تناول مثل هذه الموضوعات (التقليدية) ويواصلون هجومهم المستحب على الدولة ومرافقها الفاسدة حتى العظم
عن موقع جريدة التجديد العربي
http://www.arabrenewal.info/