والسياسة على اتساع تدخلها في مجالات الحياة المختلفة، تطل كلمة صعبة التحديد في قواميس اللغة، فهي تنحدر من عائلة يونانية (بوليس، أي المدينة) وتعني العلاقات بين الناس في مجتمع منظم ومتكامل.
وخارج هذا المفهوم الواسع والشامل، تبقى السياسة، على صلة وثقة بالتسلط حينا، وبالمساواة والحقوق أحيانا الأخرى، فهي القدرة على الفعل سلبا وإيجابا، وهي القدرة على الريادة والسيادة، وهي الغاية التي تبرر الوسيلة في كل وقت وحين. وهي نضالات ومراوغات وحروب، وهي المحطة التفاعلية لكل التيارات المذهبية والإيديولوجية، وبالتالي، هي فن الممكن في كل زمان ومكان.
وفي نظر الفقيه الدستوري (اندريه هوريو) في كتابه القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، السياسة هي عملية استكشاف كاملة للإنسان من قبل الإنسان، وأن هذا الاستكشاف يحتاج باستمرار إلى معرفة وتضحية وذكاء.
ويرى علماء السياسة في السياسة، عكس ما يراه فيها فقهاء القانون، فهي في نظرهم، كل نشاط سلطوي محوره الدولة، وهي كل نشاط إنساني محوره الإنسان، وإن العلاقة بين الإنسان والدولة/ بين الحاكمين والمحكومين، هي الصفة المميزة للنشاط السياسي عن غيره، ذلك لأن الدولة لا تتكون من الخشب أو الحجر، وإنما من الإنسان، والدولة في نظر السياسيين، ليست المجتمع الوحيد الذي ينطوي تحت لوائه المواطنين إذ يوجد بالمجتمع أحزاب ونقابات وجمعيات ومنظمات، تتم داخلها ظواهر التأكيد على القيادة، وكلها ظواهر ذات طابع سياسي.
يعني ذلك، أن السياسة تمتد في كل الأزمنة وفي مختلف الأمكنة إلى العقول والمصالح والإرادات، لكن ذلك لا يعني البثة أن السياسة تهدف دائما إلى تحقيق المصالح العامة، قد تكون المصالح الخاصة هي ما يتحكم في سلوكات وتصرفات الفاعلين الذين يحركون الأدوات السياسية، فكثيرا ما يتم الركوب على المصالح العامة لتحقيق المصالح الخاصة، لأن النخبة السياسية، تشكل باستمرار موقع القرار في دواليب الدولة، كما في الأحزاب والمنظمات والمؤسسات المنتخبة، وغالبا ما تكون هذه النخبة في الدول المستضعفة، هي منبع الفساد ومرجعيته الأساسية لما تملكه من حق القرار والمبادرة.
وفي نظر العديد من المحللين، أن السياسة كانت باستمرار هي منبع الأزمة التي ضربت/ تضرب القطاعات المالية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، في العديد من بلدان العالم، إنها أزمة تعود بالأساس إلى الضعف الذي تظهره الفاعلية السياسية، أمام الإغراءات المالية وإغراءات السلطة والامتيازات، التي تمنحها أنظمة هذه الدول للفاعلين السياسيين، من أجل لعب الدور الذي عليهم أن يلعبوه في الزمان والمكان.
إن ما حدث خلال العقود الأخيرة في الباكستان واندونيسيا والفلبين والشيلي وكوبا ووسط إفريقيا، وفي جهات عديدة من اروبا، ومن العالم العربي، من انهيارات مالية وسياسية وعقائدية وأخلاقية، يؤكد «مسؤوليات» النخب السياسية الجسيمة في تكريس الفساد والتخلف. سوهارتو وموبوتو وبينوشي وموري وبوكاسا كما القدافي وصالح ومبارك والأسد وبن علي، نماذج تنتمي إلى هذه النخب، احترفت السياسة وجعلت منها وسيلة للاغتناء اللامشروع والتسلط ونشر ثقافة الفساد بين الأجهزة والمؤسسات والأنظمة، وتحول عندها الفعل السياسي إلى مس من الشيطان، وهو ما جعل هذا الفعل يتجه بها إلى التكيف بشكل خادع وبراق مع التحولات العالمية ومتطلباتها السياسية والاقتصادية، مما أذى بها إلى السقوط والانهيار في اللحظات الأخيرة من حياتها.
في هذا الباب يرى فقهاء القانون أن السياسة هي فن الممكن، وامتيازها الوحيد، أنها ترتبط بالحكم والسلطة، فهي القدرة على الفعل، حسب المعايير المتخذة كمقياس لاعتماد أحكام القيمة على الناس والأشياء والعلاقات والتنظيمات المؤسساتية لشكل الدولة.
فمنذ عصر أريسطو، وحتى يومنا هذا، والسياسة مصدر أفكار وآراء في تدبير الحياة وتنظيم السلطة. فالدولة ومؤسساتها وإداراتها العمومية وإستراتيجيتها، كانت وما نزال نتيجة تفكير سياسي وممارسة سياسية.
“والسياسة كعلم منطقي، يخضع ككل العلوم للمنطق الفكري والإنساني، ينظم الحياة عن طريق المؤسسات التي يمنحها مسؤولية العمل السياسي حتى يبعد بالفكر السياسي عن اللامسؤولية، ويبعد بالممارسة السياسية عن الفوضى. وفي مقدمة المؤسسات السياسية التي ابتكرها علم السياسية، التنظيمات السياسية التي أخذت في الغالب اسم “الحزب” الذي يعتبر تكتلا سياسيا يتكون من مجموعة من الخبراء في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ينتمون لعقلية متقاربة في فهم هذه القضايا أو يضعون برنامجا يلخص خطتهم في تدبير الشأن العام، وإصلاح الأوضاع التي تحتاج إلى إصلاح وقيادة البلاد نحو المستقبل”. (1)
والسياسة هي فن يتكيف مع الزمان والمكان، وما يتأثر بهما، هي فن يرمي للريادة أو السيادة أو الحكم، وذلك بهدف إحكام دفتي السلطة والحكم إغلاقا أو فتحا حسب الأحوال، وحيثما هبت ريح السياسة تجد رجل السياسة كالمزارع بالمرصاد لاستغلالها أحسن استغلال لفائدته الشخصية والذاتية، أو لفائدة السلطة والتسلط.
والسياسة، حسب المحللين والخبراء والسياسيين أنفسهم، لا تروم الأخلاق إلا التي تخدم الحكم والسلطة، فهي فن يمكن البقاء السياسي رائدا في السياسة. إذ أن الغاية تبرر
الوسيلة، (كما جاء عند «ميكافيلي») فهي عكس «العدل» الذي تشكل الأخلاق كنهه وعموده .
في نظر باحث مغربي، إن السياسة لا تهدف دائما، إلى المصلحة العامة، بل قد تكون هذه المصلحة، هي ما يدعو السياسيين إلى استغلال مواهبهم ومراكزهم وذكائهم لتحقيق مصالحهم، فكثيرا ما تم في المغرب، أو في دول العالم المتخلفة، الركوب على النضال السياسي أو على القيم الدينية، أو على العقائد السياسية من اجل الوصول إلى غايات هي ابعد ما يكون عن المصلحة العامة، بل تحولت عند العديد منهم إلى النقيض الكامل لهذه المصلحة. ولنا في التاريخ المغربي المعاصر، ما يكفي من الأمثلة الدالة على ذلك.
والسياسة خارج كل المفاهيم الأدبية والإيديولوجية والفقهية، هي قوانين حية وتصورات متدبرة وجريئة، هي حصيلة كل ذلك مقرونة بإرادة تفهم الجماهير، وتخطيط لما تريده. فهي ليست أمنيات أو أحلاما، إنها وقائع وأرقام ومعطيات واستقراء وتحليل وقرارات. هي المحصلة التفاعلية لكل التيارات المذهبية/ الإيديولوجية، ولكل المطالب الجماهيرية، ولكل الخطابات الثقافية السائدة في المجتمع، ولكن عندما «تسود أخلاقها» وتعمل على تحريف الحقائق واختزال الوقائع لخدمة الأهداف الذاتية والفئوية والزبونية، تضيع رؤيتها وتتلاشى أهدافها وقيمها وتسقط سمعتها…
ولأن السياسة في أصولها الفلسفية والعلمية هي تنظيم للحياة العامة أصبحت المشاركة بتجمعاتها حقا من حقوق المواطنة.
فهي حق المواطن في التفاعل مع الفكر السياسي للانخراط في عملية صنع القرارات السياسية، ومراقبتها بالتقويم والضبط عقب صدورها من جانب الحاكم، وبالتالي هي ربط المواطن العادي بالشؤون العامة لوطن هو دولته.
إن السياسة حقل مفتوح للجميع، للشباب والكهول والشيوخ، للنساء والرجال، للفلاحين والعمال والأساتذة والمعلمين والموظفين، لسكان القرى والمدن، فهي ليست علما تخصصيا قد يستعصي على غير المتخصصين. لذلك فهي حق مشاع، يفرضه الوعي بقيم المواطنة والوعي بحقوقها.
فلماذا إذن، يرفض غالبية المواطنين المغاربة، الانخراط في العمل السياسي؟
ولماذا يبتعدون عن المشاركة ؟
هل يعود ذلك إلى انخفاض الوعي السياسي لدى المواطنين، أم إلى نقص الخبرات وغياب القيادات السياسية المسؤولة والقادرة على الاستقطاب والتأثير أم إلى ضعف التنظيمات السياسية ونخبها الغائبة عن هموم الجماهير وتطلعاتها…؟ أم إلى ربط السياسة بالفساد وبنتائجه الحارقة؟
ما الذي يفسر نفور المواطنين من هذه المشاركة ؟
أهو غياب الإطار السياسي الملتزم الذي يستجيب لمتطلبات المرحلة؟ أم أن أخلاق وثقافة نخب المرحلة السياسية الراهنة ومخاضاتها هي التي تدفع بالجماهير خارج “الملاعب” السياسية ؟.
تم ما هي مسؤولية إستراتيجية التفريخ والاستنساخ التي تعرضت لها “المؤسسة الحزبية/ السياسية على يد “المخزن” وأدواته خلال العقود الماضية في هذا النفور الذي أخذ يستهدف السياسة كفكر وممارسة بقوة في الحياة المغربية ؟… وما هي مسؤولية الإفساد السياسي الممنهج الذي تعرضت له الانتخابات والأحزاب والمنظمات خلال تاريخ المغرب الحديث، في ابتعاد المواطنين عن السياسة وفي تلطيخ مفاهيمها بالفساد؟ وما هو دور الحملات القمعية الشرسة التي قامت بها السلطات ضد المناضلين السياسيين في المغرب الحديث والتي أدت إلى آلاف الضحايا وبالتالي إلى نفور الجماهير الواسعة من السياسة وأفكارها ونضالاتها ومؤسساتها المختلفة؟
في قراءة نقدية لباحث مغربي(2) عن التناقضات الصارخة التي تعيشها النخبة السياسية المغربية الراهنة بين تمثلاتها الذهنية وممارساتها الميدانية، تأكيد على أن هده الأخيرة تتوزع بين استيراد النظريات الجاهزة والعمل على إسقاطها على الواقع مهما اثبت هذا الأخير من تناقض أو تجاوز أو عدم ملائمة لخصوصياته الثقافية واللغوية وبين السعي الحثيث لنمذجة التجارب الشخصية واعتباراها المرجع الوحيد الذي يفسر من خلاله كل ما طر أو يطرأ على المجتمع من متغيرات أو تحولات.
وفي هذا الصدد تؤكد هذه القراءة أن النخبة السياسية الراهنة، تلتزم بمبادئ كتاب الأمير (لميكيافيلي) الذي وضع مبدأ الغاية تبرر الوسيلة وحضور نفعية براغماتية. إذ أصبحت هذه النخبة لها كامل الاستعداد القبلي لفعل أي شيء والتضحية بأي مبدأ لصالح المبدأ الكبير والذي هو المصلحة الخاصة. ولتحصيل كل هذا يصبح الفساد شعارا والفن الرديء والإعلام الهابط آلية ووسيلة والحفاظ على الريع… وعلى الامتيازات الخاصة مطمح وهدف.
فهل يعني ذلك أن نفور الجماهير المغربية من المشاركة السياسية يعود إلى هذه المعضلة التي جعلت السياسة تتحول من فن الممكن إلى فن المستحيل ؟
مثل هذا السؤال يقودنا حتما إلى سؤال أساسي آخر كيف للأخلاق أن تتناغم مع السلوكات السياسية لقادة الحقل السياسي الذين جعلوا من منظومات الفساد ” قاطرة أمان تقودهم إلى المناصب والأموال والسلط والامتيازات وما يبتغون من ملذات ؟… وجعلت الجماهير ترى في السياسة مضيعة للوقت وفسادا للأخلاق؟
من المحزن بأن نعترف أن المغرب عرف في عهد الاستقلال، على يد “النخبة السياسية” فسادا مس بجنونه مختلف القطاعات. فساد سياسي تجسده الأحزاب المصنوعة وتؤطره الانتخابات الفاسدة والنخب المخدومة وفساد مالي وإداري، تجسده مظاهر الرشوة والمحسوبية والزبونية واستغلال النفوذ. وفساد اجتماعي / أخلاقي، تجسده العهارة وتهريب المخدرات والتملص الضريبي والتخلي عن القيم الدينية. وجميعها مفاسد تنحدر من “العائلة السياسية”، التي تهدف إلى حصد المال والسلطة بكل الوسائل وبمختلف الإمكانات.
لقد استطاعت هذه المفاسد خلال العقود الأخيرة، تكوين منظومتها الرهيبة، استطاعت هذه الأخيرة بسيطرتها ونفوذها الجبار، تحويل العديد من المؤسسات العمومية إلى إمبراطوريات خاصة، تشكل دولة داخل دولة، بعيدة عن المراقبة الصارمة، لا تشرف عليها الحكومة ولا يراقبها البرلمان.
على يد هذه المنظومة أصبح الفساد السياسي/ المالي/ الأخلاقي، قادرا على التوالد والتنامي والتجدد وأصبح قادرا على فرض نفوذه على البلاد والعباد بقوة السلطة وبنفوذ السياسة، يلقى بظلاله على مصالح الناس. وبحكم العلاقات القائمة بين “أسياد المنظومة” وبين مصالحهم الخاصة أصبحت المفاسد السياسية قوة لا يتأتى لأي شرعية أو قانون محاسبتها أو التحكم فيها، وأصبحت (منظومة الفساد) تمتلك آليات الانتشار المؤثر على النسيج الاجتماعي وعلى سلوكيات وقيم الأفراد. وعلى يد هذه “المنظومة وأسيادها” غابت الرقابة وأهدرت قيمة القانون. أنها “المنظومة” نفسها التي احتكرت/ تحتكر السلطة، والتي صادرت/ تصادر الحريات العامة، والتي غيبت الرقابة الشعبية، وألغت دور مؤسسات المجتمع المدني… لتصبح مصدرا أساسيا للتخلف في كل أبعاده.
وان متابعة متأنية “ لمنظومة الفساد” في تحركها على أرض الواقع.يعطي الانطباع أنها تعمل في المجتمع… وفي الإدارة والتجارة والسياسة والمال وتستشري في جوانب الحياة العامة باعتبارها نتاجا لعناصر مختلفة، أصرت على تهديم الإنسان/ تدمير القيم الإنسانية/ تخريب النظم الأخلاقية للمجتمع من أجل السلطة والمال.
أوجدت هذه المنظومة على زمن الاستقلال جهازا تخريبيا لتعطيل القانون. وأوجدت قيم أو سلوكات تسللت من خلالها إلى السلطة العمومية. بعدما عطلت بالمجتمع العام الكثير من أخلاقياته و قيمه التي تحميه من السقوط.
وأن ما أعطى “ لمنظومة الفساد” هولها على الأرض، سلسلة من السلبيات زكت بشكل أوبآخر المفهوم الذي تبنته “النخبة” السياسية التي تتحكم في المال والسياسة والسلطة. وهي نفسها النخبة التي زكتها في الماضي القريب وزارة السلطة على حساب الأغلبية، والتي عملت على إقصاء الكفاءات والمؤهلات، والتي عطلت قانون سيادة الدولة، وأحلت سلوكات ومعايير … أمنية / زبونيه / مصلحيه / في كل مؤسسة وكل إدارة وكل جهاز، و هو ما أذى في نهاية المطاف إلى خلق طبقة من الأثرياء الذين جمعوا أموالهم بطرق وأساليب غير مشروعة. وعلى مضاعفة فقر الفقراء، ومضاعفة معاناتهم وتهميشهم وحرمانهم من حقوقهم بالباطل. نخبة لا يهمها من انتماءها لوطنها إلا ما تحصده من أموال وريع ومصالح وسلط ومنافع وخيرات هذا الوطن.
هل يعني ذلك أن اتساع الأدوار السياسية والاقتصادية والمالية للفاعلين السياسيين، للأحزاب والحكومات المتعاقبة هو ما ركز سيادة الفساد والبيروقراطية على المصالح الوطنية؟
إن النظر الدقيق لآثار هذه المنظومة على مغرب عهد الاستقلال من زاوية البحث العلمي، أو من زاوية البحث الإعلامي، يكشف الحجم الحقيقي والمهول الذي تحتله “مداخلاتها” في المعاملات اليومية، فهي على اتساع دائرة هذه المعاملات، تتشابك حلقاتها، وتترابط آلياتها لدرجة تدفع إلى التساؤل المحير: أي مستقبل ينتظر المغرب في هذا الظرف العصيب من التاريخ؟
نضع السؤال، ولا ننتظر الجواب من أحد، ذلك لأن ” التاريخ” وحده من يجيب على الأسئلة الصعبة.
(1) محلل سياسي/ جريدة العلم/ 17 يونيو1997/ ص1
(2) محمد لغروس، محاولة لفهم النخبة السياسية بالمغرب/ جريدة المساء/ 10 شتنبر 2007/ ص16.