“كذلك كان” هو العنوان البديع الذي اختاره امبارك بودرقة – عباس في زمن الحلم الثوري- وأحمد شوقي بنيوب، لماعاشاه من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة.. وهو عبارة عن مذكرة بأربع أياد عن تجربة فردية في عالمنا العربي الإسلامي المفتوح على كل المآسي..والمنغلق في وجه أية مصالحة.
أول ما تفتح به، هو 20 فبراير..
وقد كانت التفاتة ذكية بالفعل لنوع تلك الهبة الجميلة في سياق التقليد التاريخي في الاحتجاج لدى المغاربة، ذكورا وإناثا. وعلى هذه الزاوية وحدها تعلل نشر سنوات الرصاص..
ولعلها طريقة أخرى في كتابة فيلم «هم الكلاب..» للمخرج الفنان العسري، الذي يضع في قلب السيناريو بطلا يدخل السجن في 1981 ويخرج منه ليلتقي بالثوار في الشارع العام…
في تأصيل الألم ، تاريخ السياسة
وفي التجربة ما هو منذور للمستقبل
هي تجربة ليست للماضي،
بل للحاضر والمستقبل..
وعندما تُقرأ من هذه الزاوية من طرف المناضلين معا، فهي تعني الخلاصة التي يجب أن تكون..
أي أن الاحتجاج في المغرب ليس احتجاجا ملتقطا من قارعة الطريق ..بله لقيطا!
وفي الذهاب إلى هذه الاستثنائية، سقطت أرواح كثيرة
وسقطت أقنعة أيضا
وسقطت مقولات
وأسس المغرب فرادته، وهي ليست فرادة تبرر الصمت ولا تبرر التواكل الديمقراطي..الذي يجعل الذي مضى مبررا لكي تتكرر أشياء من الماضي وتفتح الدهشة والحيرة..والالتباس..
في فقه العدالة مكتوبا بأيادي من صاغوه، نكهة مغربية، في النظر إلى الوجه المكروه البشع الذي كان وجهنا في هذه البلاد..
من جانب ثان ، يهم الكتابة الأثرية، في أركيولوجيا الندم المعلن للدولة الجديدة، من طفولتها المربكة..
في الكتاب مسحة فردية، قد تخصب الخيال الروائي عبر قصص لأشخاص، من قبيل زوجة الانقلابي الثوري أمقران، أو قصة اللبناني أبو فادي أو غيره من الأشخاص الذين عبرت آلة القمع عبر عظامهم.
بدا أنه لا بأس من تكسير عظام الأفراد لكي يكون القمع شاملا، في جدلية لا تعرف قانونها سوى أنظمة القمع..
في هذه الثنية الصغيرة المأساة الفردية تكمن تغولات القمع المخزني المستبد في جنبات الكوارث الكبرى، كوارث فردية تكشف عن جسامة ما وقع في أوراق الحالة المدنية للأفراد تولد حكاية الجَلد الذي طال أمة برمتها..
وفي الكتاب أيضا وضع لمؤشرات الفعل الواعي: المستندات، الخطوط، الأوراق الموقعة على توشيات الفعل السياسي والحقوقي الكبير، نكشف أيضا كيف جمعت الذاكرة أرشيفها، جلسة جلسة
وكيف تفاعل العالم أيضا ، مع تجربة خاصة، قادها مناضلون من طينة رجال التاريخ الكبار..
أرملة أمقران وتحدي تدبير الطلبات المقدمة بإصرار ألماني
السيدة روز ماري (مليكة) زوجة العقيد محمد أمقران، ألمانية الجنسية، بعد مرور خمس وثلاثين سنة، على محاولة الانقلاب التي شارك فيها زوجها، يوم 16 غشت 1972، زارت المغرب لتقديم طلباتها للجنة متابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة.
وللتذكير، فزوجها محمد أمقران كان يشغل منصب قائد القاعدة الجوية العسكرية التابعة للقوات المسلحة الملكية المغربية في مدينة القنيطرة، وقد تمت ترقيته من طرف الجنرال محمد أوفقير وزير الدفاع، صبيحة يوم 16 غشت 1972، أي يوم تنفيذ عملية الانقلاب، إلى منصب الرجل الثاني في الجيش المغربي، كقائد للقوات الجوية بالنيابة، وفي نفس اليوم تم تعيين المقدم الوافي الكويرة على رأس القاعدة الجوية في مدينة القنيطرة.
وفي هذا اليوم المشهود، أي 16 غشت 1972، كان الملك الراحل الحسن الثاني، برفقة العديد من الشخصيات عائدا من فرنسا على متن طائرة «البوينغ» 727، بعد F5 ، التابعة للقوات المسلحة الملكية المغربية، منطلقة من القاعدة الجوية في مدينة القنيطرة من أجل إسقاطها، وبعد عدة محاولات، استطاعت الهبوط بسلام في مطار الرباط سلا.
وعلاقة بتداعيات الأحداث، وفي نفس اليوم، وبعد أن تأكد العقيد محمد أمقران من فشل المحاولة الانقلابية، استقل طائرة مروحية رفقة أحد مساعديه اليزيد الميداوي واتجه إلى جبل طارق الخاضع للنفوذ البريطاني، وهناك أدلى بتصريح يؤكد تورطه في المحاولة الانقلابية مع مجموعة من الضباط تحت رئاسة جنرال يبتدئ اسمه بالحرف اللاتيني (o) وكان بذلك يقصد الجنرال أوفقير. الذي سيعلن رسميا يوم 17 غشت 1972 عن انتحاره وهو وزير الدفاع المسؤول عن المحاولة الانقلابية.
يوم 19 غشت 1972 استجابت السلطات البريطانية إلى طلبات السلطات المغربية، وتمت عملية تسليم العقيد محمد أمقران ومساعده اليزيد الميداوي للسلطات المغربية.
وفي 17 أكتوبر 1927 تم تقديم 220 من العسكريين بتقديمهم كل من العقيد محمد أمقران والرائد الوافي الكويرة، للمثول أمام المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية في مدينة القنيطرة، التي أصدرت بتاريخ 7 نونبر 1972 أحكامها في شأنهم. ويوم 13 يناير 1973 تم تنفيذ 11 حكما بالإعدام، من بينهم بالطبع الحكم الصادر في حق العقيد محمد أمقران.
من المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان إلى هيئة الإنصاف والمصالحة
بعد صدور تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، ومرور ما يقارب أربع وثلاثين سنة عن هذا الحدث المزلزل في التاريخ السياسي الراهن للمغرب، ستأخذ السيدة الألمانية مليكة المبادرة وستطلب عقد لقاء مع لجنة متابعة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، بصفتها أرملته التي أنجبت معه ولديه ياسمين ورشيد. وقد استقرت في ألمانيا بعد فضل المحاولة الانقلابية رفقة ابنيها. وكانت قد رفعت دعوى قضائية أمام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان ضد الدولة البريطانية بخرقها للأعراف الدولية عند تسليم زوجها للسلطات المغربية، وقد أنصفتها المحكمة الأوربية بهذا الخصوص.
تم استقبالها في مقر المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان من طرف لجنة تتكون من السادة المحجوب الهيبة الأمين العام للمجلس وامبارك بودرقة عن لجنة المتابعة وعبد الحق مصدق عن إدارة المجلس يوم الاثنين 18 يونيو 2007 على الساعة الخامسة مساء، وكانت بصحبتها السيدة عايدة حشاد زوجة الرائد صالح حشاد أحد المتهمين في العملية الانقلابية وأحد الناجين من جحيم تزمامارت.
أكدت السيدة أمقران أنها تتبعت أعمال ونتائج هيئة الإنصاف والمصالحة وأصدقاءها، الأمر الذي شجعها على القيام بهذه الزيادة، مقدمة مطالبها وملحة على الاستجابة إليها في أقرب الأوقات، وهي كما يلي:
1- تصحيح الخطأ الحاصل في تاريخ وفاة زوجها العقيد محمد أمقران، ليصبح يوم 13 يناير 1973، عوض 13 يناير 1972 كما هو مدون في شهادة الوفاة.
2- تسجيل تاريخ الوفاة الحقيقي في السجل العالي
3- حصول كل من ابنتها ياسمين وابنها رشيد على جواز السفر المغربي لإثبات هويتهما.
4- نقل رفات زوجها من المكان المدفون فيه حاليا إلى المقبرة الرسمية بمدينة الشاوية حيث يشار إلى أنه سيتم تشييد عمارات في المنطقة التي يوجد فيها القبر حاليا.
5- وبالمناسبة، ذكرت بأنه بعد زواجها من الفقيد محمد أمقران، أقامت بصفة دائمة بالمغرب لمدة عشر سنوات، وعندما عادت إلى ألمانيا بعد أحداث 16 غشت 1972، كان عمرها 34 سنة، واعترضتها صعوبات للحصول على عمل، مما اضطرها لمتابعة الدراسة لمدة أربع سنوات من أجل الحصول على الشهادة التي تخول لها الحصول على عمل. ولم يتسن لها ذلك إلا عندما بلغت سن 40 سنة، وهي الآن متقاعدة، وأن الفترة الزمنية التي اشتغلت فيها، لا تخول لها سوى نصف مستحقاتها من التقاعد مضيفة أن زوجها بحكم عمله في المغرب، ساهم لمدة 17 سنة، في صندوق التقاعد.
وأعلنت رغبتها فيما إذا كان بالإمكان أن تستفيد هذه أو بناؤها من نصيب زوجها في المقاعد، أو استرداد مبلغ الاشتراكات التي ساهم بها. وأكدت في الختام أنها مضطرة للعودة إلى ألمانيا يوم الخميس 22 يونيو 2007 وتود في حدود الإمكان أن تتلقى أجوبة عن هذه الطلبات، وتقدمت بشكرها وتقديرها لهيئة الإنصاف والمصالحة وللجنة المتابعة.
كان ذلك يوم الاثنين 18 يونيو 2007 على الساعة السادسة ونصف مساء، مما يعني أنه لم يعد أمام المجلس الاستشاري سوى ثلاثة أيام فقط مادامت ستغادر يوم الخميس، وتم التأكيد على أن جهودا ستبذل للرد أو العمل على إيجاد حلول لهذه الطلبات .أما السيدة الألمانية وهي تقدم طلباتها، فإنها تستعيد جراحاتها وتذكيرها القوى بإنصافها ،خاصة من طرف المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان.
و العدالة الانتقالية، كانت طلباتها وجيهة ومشروعة، وعنوانا آخر لتقدير درجة وقيمة التغيير الذي أحدثته هيئة الإنصاف والمصالحة في محيطها وفي علاقتها مع السلطات المحلية، كما كانت تمثل تحديات لاختبار مدى مهنية ومصداقية لجنة متابعة التوصيات.
وكذلك كان الأمر، ففيما يخص الطلب الأول والثاني، أي المتعلق بوجود خطأ في شهادة الوفاة، فإن تصحيحه في السجل المدني يعود لاختصاص وزارة العدل ويتطلب انعقاد جلستين قضائيتين: الأولى لتصحيح تاريخ الوفاة والثانية لتسجيله في الريبرتوار العائلي.
أما الطلب الثالث المتعلق بالرغبة في حصول الولدين على جواز السفر المغربي فيعود الاختصاص فيه إلى القنصلية المغربية القريبة من مدينة إقامتهم في ألمانيا وهي تابعة في إجراءاتها لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون.
أما الطلب الرابع المتعلق بنقل قبر زوجها إلى مقبرة عادية، فيعود الى اختصاص السلطات المحلية التابعة لوزارة الداخلية وهي عملية تخضع لمساطر خاصة تشرف عليها النيابة العامة.
والطلب الخامس ويتعلق بتسوية مستحقات مرتبطة بالتقاعد ويرجع للمصالح الإدارية التابعة للقوات المسلحة الملكية النظر فيها.
وتستجيب السلطات العمومية لمطالب الأرملة الألمانية..
في نفس اليوم، أي الإثنين 18 يونيو 2007، وابتداء من الساعة السابعة مساء، اتصل بودرقة بمدير الشؤون الجنائية لوزارة العدل الأستاذ محمد عبدو النبوي، مخبرا إياه بالوضع الاستعجالي لطلب تصحيح تاريخ الوفاة والتسجيل لكون السيدة أمقران ستغادر المغرب يوم الخميس، ورد الأستاذ النبوي وهو الموجود ساعتها خارج المغرب بالخليج العربي، أن الالتزامات نحو هيئة الإنصاف والمصالحة هي التزامات وطنية، وأن دوره سيبقى مركزا على السعي للقيام بالجهود القصوى، وسيتتبع الملف بصفة شخصية، وسيقوم بكل ما في وسعه لإنجاز المطلوب.
كان جواب الرجل يبعث على الاطمئنان، فعلا إن هذا الموقف إزاء أرملة أمقران يهم المغرب. وبعد ذلك اتصل بودرقة في نفس الوقت وكان مساء الاثنين، بوزارة الخارجية والتعاون بالسيدة ناصر بوريطة فيما يخص حصول أبناء أمقران على جوازات سفر مغربية، وقد أكدت الجهة المسؤولية تلقيها الطلب وعبرت عن استعدادها لتدبير الملف بصفة استعجالية. وبعد ذلك اتصل بودرقة بالسيد محيي الدين أمزازي على صعيد وزارة الداخلية، فيما يخص نقل قبر العقيد أمقران ورفيقه كويرة إلى المقبرة الرسمية، والتزمت الجهة المسؤولة بتقديم جواب رسمي وإيجابي في الساعات المقبلة.
وفي انتظار نتائج الاتصالات، كانت هيئة المتابعة متفائلة بالتطمينات على بذل المساعي، ولكنها لم تكن تتحكم في زمن إيجاد حلول للمطالب المشروعة لعائلة أمقران، التي طالب الإبن والبنت في الحصول على جزء من هويتهما من بلد موصول بتاريخ والدهم، من سيدة ألمانية بين ضفتين، صفة جنوب المتوسط وضفة المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان.
ولم يكن الصبح ببعيد، ففي صبيحة الأربعاء، جاء جواب وزارة الخارجية القاضي بأنه على ولدي أمقران التوجه إلى أقرب قنصلية مغربية للمدينة التي يقيمان فيها للقيام بالإجراءات الضرورية قصد الحصول على البطاقة الوطنية وجواز السفر. وفي اليوم ذاته جاء جواب وزارة الداخلية الذي يفيد بأنه تقرر أن يصبح المكان الذي يوجد فيه قبرا أمقران والكويرة مقبرة جديدة بالمنطقة، وبالتالي ليس هناك ضرورة لنقل رفاته، وفعلا، جاءت هذه النتيجة لتؤكد ما قاله بودرقة للسيدة الألمانية، بأنه أثناء إحدى الزيادات التي قامت بها الهيئة إلى الحسيمة 2005 برئاسة المرحوم إدريس بنزكري وعضوية مبارك بودرقة وصلاح الوديع وحميد الكام ، ثم الوقوف على قبر زوجها أمقران وفي جوار قبره العقيد الوافي الكويرة، وأن مكان الدفن من المستبعد أن يتحول إلى منطقة قد تشيد فيها عمارات بحيث يظل احتمالا بعيدا.
ويوم الخميس على الساعة الثامنة صباحا، اتصل الأستاذ عبدو النبوي ببودرقة ليخبره أنه تم عقد جلستين قضائيتين لتصحيح الوضع وإرجاع الأمور إلى نصابها.
أما الطلب الخامس المتعلق بالاستفادة من تقاعد زوجها، فقط طلب منها تقديم الوثائق التي تتوفر عليها على أن تبعثه للإدارة المعنية، وترسل نسخة منه بقصد التتبع مع المصالح المكلفة بالتقاعد التابعة للقوات المسلحة.
وهكذا، وقبل أن تغادر السيدة أمقران مساء الخميس نحو ألمانيا تلقت أجوبة عن الطلبات التي حملتها إلى المغرب، معبرة من خلال نظرات خاصة إلى لجنة المتابعة تشير من خلالها إلى ما ستفضي به لولديها في علاقتهما ببلدهما الذي سيبقى جزءا من هويتها.
ومرة أخرى، أكدت هذه الحالة الإنسانية العميقة قدرة المغرب على إحداث التغيير وعلى تتبعه.
رفات بورديسي بين عبث الاحتجاز وغرابة المكان
تنوعت حالات وأماكن المدافن التي تعاطت معها هيئة الإنسان والمصالحة. وكلما كانت المرحلة الزمنية بعيدة ازدادت الأوضاع تعقيدا. وكما هو معروف في التراث العالمي للعدالة الانتقالية، فإن البحث في الأماكن المفترضة لدفن المختفين قسرا أو من تمت تصفيتهم، تكتنفها صعوبات متنوعة، على مستوى الأدلة و القرائن وأماكن الدفن،وذلك بسبب تفكيك المعالم أو اندثارها أو وفاة الأشخاص من ممثلي الإدارة أو السلطات الذين كانوا بعين المكان، في أيام الدفن أو تأثر ذاكرات الشهود?
وتعد حالة السيد نفعي بورديسي مثالا من بين الأمثلة المتعددة التي تعاطت معها الهيئة، وقد تقدمت عائلته إلى هيئة التحكيم المستقلة للتعويض، بطلب تعرض فيه ?أنه اختطف بتاريخ 6 دجنبر 1979، في مدينة طانطان، واحتجز في عدة معتقلات، بدءا من هذه الأخيرة، فأكادير والقنيطرة، ثم كرامة الواقعة بباشوية الريش في إقليم الراشيدية، وهي غير بعيدة عن تازمامارت، والتي توفي بها بتاريخ 6 أكتوبر 1986?.
مكان للاحتجاز والدفن في غابة الغرابة
قامت هيئة الإنصاف والمصالحة، انطلاقا من المعلومات الأولية المتوفرة، بإجراء تحريات أولية، تأكد لها من خلالها أن السيد نفعي، كان محتجزا بكرامة رفقة كل من السيد دحوم فاضيلي سيدي أحمد والسيد الخالق أحمد، وقد أطلق سراحهما من معتقل كرامة صيف 1991.
وعلى أساس هذه القرية القوية، عقد فريق التحريات لهيئة الإنصاف والمصالحة بتاريخ 13 أبريل 2005، اجتماعا مع مسؤولين بوزارة الداخلية، أكدوا من خلاله أن السيد نفعي كان فعلا محتجزا بكرامة ومات هناك ولا يعرف لحد الآن مكان دفنه، وأخذت القرينة القوية طابع الحجة، وأصبح التحديد هو معرفة مكان الدفن. وبناء على ذلك، توجه وفد من الهيئة في إطار زيارة استطلاعية إلى كرامة، بعد توقفه بالراشيدية لعقد لقاء مع السيد عامل الراشيدية ،ومن ثم، وبرفقة رئيس قسم الشؤون العامة للعمالة، كانت الوجهة مقر قيادة كرامة، قصد معاينة المكان الذي كان فيه احتجاز الضحايا الثلاثة.
كان المكان عبارة عن مبنى يوجد خلف البناية الرسمية لإدارة القيادة، وقد أعد أصلا هو وغرف أخرى، لوضح آليات وأدوات تستعمل للحفر ..وقد استعملت في مرحلة سابقة، غرفة خاصة للاحتجاز.
تم تقسيم الغرفة إلى قسمين: الأول عبارة عن مساحة طولها متر وثمانون سنتيما، وعرضها أربعة أمتار ونصف، وعلوها متران ونصف. والمفترض أن هذا الحيز أعد كمحل للحراس، إذ يفصله عن القسم الثاني حائط مع باب للدخول، أما القسم الثاني فهو امتداد للأول بنفس العرض والارتفاع، وبطول تسعة أمتار، وبه ست نوافذ مربعة الأضلاع، طول كل ضلع خمسة وعشرون سنتيما، وقد بنيت بها ثلاث زنازن متساوية. أثناء الزيارة عاين فريق التحريات أن جدران الزنازن قد هدمت، لكن الحدود الفاصلة بينها سواء على مستوى الجدران أو الأ رضية مازالت واضحة للعيان.
وفي إطار استجماع المعلومات، واستفسار المسؤولين الحاليين، سواء في القيادة أو الباشوية، أكدوا عدم معرفة المكان الذي دفن فيه المرحوم نفعي، كما أفادوا أن المسؤول الإداري في تلك المرحلة و المسؤول الذي تعاقب بعده انتقلا إلى عفو الله. أما بخصوص الحراس الذين عايشوا تلك الفترة، فكان الجواب بعدم معرفتهم، علما بأن عددهم كان سبعة، ومن الممكن أن يكون بعضهم لايزال على قيد الحياة. وأعاد فريق الهيئة إجراء اتصالات من عين المكان، بالاستعانة بالمصالح الإدارية، فتأكد وجود حارسين على قيد الحياة. وتمت المطالبة بالاستماع للشاهدين، وفي نفس الوقت تم التوجه إلى المقبرة المحلية للاطلاع على السجلات المتوفرة، فلم يتم العثور على أي شيء يؤكد أن السيد نفعي قد دفن في هذه المقبرة.
وبتاريخ 17 يوليوز 2005، توجه من جديد، بودرقة ومصدق لمواصلة التحريات الخاصة بهذا الملف. وهكذا وبعد زيارة عامل الراشيدية، تم التوجه رفقة رئيس قسم الشؤون العامة للعمالة وباشا مدينة الريش وقائد كرامة، من أجل لقاء الشاهدين اللذين بقيا على قيد الحياة، من بين مجموعة الحراس، ممن كانوا في فترة احتجاز الضحية وهما السيد أفغول أحمد والسيد وشانة علي.
أكد الشاهدان كل من نفعي بودريسي ودحوم فاضيلي سيدي أحمد والخالق أحمد، كانوا محتجزين بقيادة كرامة لعدة سنوات، وأن السيد نفعي قد وافته المنية سنة 1982، ودفن في الساحة الكبرى بعد الصلاة عليه من طرف الحراس الحاضرين والقائد الذي كان موجودا آنذاك.
وقد تمت معاينة المكان المفترض للدفن، في الساحة المذكورة، فلم تظهر فيه آثار أي قبر. وبعد استفسار الشاهدين من جديد حول المكان، أكدا نفس الجواب الأول. وعند مواصلة للبحث معهما في شأن تذكر مكان الدفن بالضبط، لم يترددا في إبداء استعدادهما لتحديده، بل والوقوف عليه. وقد تميز جوابهما بلغة الجزم واليقين.
بالنظر لجواب الحارسين وعدم ترددهما في المطلوب في مرحلة أولى، تم الإنفراد بهما من قبل فريق التحريات، بقصد تلقي أجوبة حول عناصر داعمة، من شأنها تأكيد صحة الادعاء حيث دارت الأسئلة مع أجوبتها حول:
– هل قبل دفنه، تم تكفينه وبماذا؟ وكان الجواب بالإيجاب وبغطاء ملاءة من ثوب غليظ (كاشة)، وبعد صلاة الجنازة.
– طريقة إعداد القبر وعمقه؟ وكان الجواب أن الحفرة كانت عميقة أكثر مما هو معتاد.
– وهل تم وضع حجارة أو أي حاجز آخر عند وضع الجثة؟ وكان الجواب بلا، أي لا يوجد فاصل بينهما وتراب الردم.
كانت هذه الأجوبة مشجعة على اتخاذ قرار حفر القبر للتأكد من وجود رفات. هكذا، وبحضور السلطات المحلية تم الشروع في الحفر التدريجي والهادئ، الذي أخذ بعض الوقت، مما أكد جواب الشهود بخصوص عمق الحفر. وبعد مواصلة عملية الحفر، ظهر الغطاء، وتأكد بذلك عدم وجود أي حاجز. هنا توقفت عملية الحفر التي كانت حفرا سطحيا، الغرض منه التأكد من عناصر التحريات في أفق الانتقال إلى عملية استخراج الرفات بإشراف النيابة العامة وإخبار العائلة وإعادة الدفن بمقبرة رسمية.
والتزم قائد المنطقة، وفقا للطلب الذي تقدم به بودرقة، بإخلاء المعدات الموجودة قرب مكان الدفن، وتثبيت باب من الخشب لمنع أي دخول مستقبلا للمكان، إلى حين الحسم في موضوع القبر.
وبتاريخ 15 دجنبر 2005، وتحت إشراف النيابة العامة، وبحضور السلطات المحلية، تم نقل رفات المرحوم بورديسي إلى مقبرة كرامة ليدفن في مثواه الأخير.
ومن خلال التحريات التي قامت بها هيئة الإنصاف والمصالحة في معالجتها لهذا لملف، تأكدت أيضا أن المرحوم نفعي بورديسي قد وافته المنية بتاريخ 4 أكتوبر 1982 وأنها دونت بسجلات الحالة المدنية، بعمالة الراشيدية بنفس التاريخ وذلك بخلاف ما جاء في ملف هيئة التحكيم التي صرحت أن المرحوم بورديسي قد توفي بتاريخ 06 أكتوبر 1982، وأن السيدين دحوم فاضيلي سيد أحمد والسيد الخالق أحمد اللذين كانا محتجزين مع المرحوم في كرامة، فقد أطلق سراحهما بتاريخ 25 يوليوز 1991 على الساعة الخامسة صباحا.
وأشياء أخرى غريبة..
توقفت هيئة الإنصاف والمصالحة، على أشياء أخرى غريبة بعض الشيء بالنسبة لأماكن هذه الاحتجازات، حيث إن طعام الأكل اليومي للمعتقلين الثلاثة بكرامة، تم تعويضه لأحد مطاعم المدينة، الذي تعاقدت معه السلطات لتقديم الوجبات الثلاث، يوميا وتشمل فطور الصباح بالشاي والخبز، والغذاء بواسطة “طاجين” أو “كسكس” باللحم والخضر، والعشاء ?بالجريرة? أو “الشوربة “. وكان يتقاضى صاحب المطعم أجره على رأس كل شهرين. وكان المحتجزون يتمتعون بالهواء الطلق كل صباح و بعد الظهر. وكان في وسعهم غسل ملابسهم من حين لآخر، وتقوم السلطات بتجديدها عند الضرورة. وكان لكل واحد منهم فراش صغير من الإسفنج ?بونج? للنوم وغطاء. وكانوا يستفيدون من زيارة الطبيب، لفحصهم وإعطائهم أدوية كلما تطلبت وضعيتهم الصحية ذلك،وأن المرحوم نفعي زاره الطبيب قبل وفاته ثلاث مرات.
وبمناسبة تفقد مكان الدفن ومحيطه، اكتشفت هيئة الإنصاف والمصالحة وجود بناية توقفت بها الأشغال، وهي عبارة عن زنازن جديدة لا تنقصها سوى الأبواب وأمور أخرى. وكانت قد شيدت على ثلاثة صفوف بضم كل صف ست زنازن، لكل واحدة منها ثقب في السقف، قطر كل منها اثنان وعشرون سنتيما ونصف لإدخال الهواء والضوء.
كانت، تلك عبثية كرامة، أي معنى لمكان الحجز؟ وما الغرض منه ولأي أسباب تم رمي الأشخاص المحتجزين هناك والشروع في بناء زنازن جديدة؟ من اتخذ القرار في ذلك الزمن؟ كل هذه العناصر تتقاطع حول جواب وحيد وأوحد هو أن انتهاكات حقوق الإنسان لا ضمير لها. جاءت في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جملة بليغة يقول مطلعها ?ولما كان تجاهل حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال أثارت بربريتها الضمير الإنساني?.
والمرجح أن قرار المرحوم الملك الحسن الثاني بإنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1990، وقراره سنة 1991، بإطلاق سراح المختطفين هو الذي أوقف عملية إتمام بناء هذه الزنازن في هذا المكان الموسم بالعبثية، وقد أوصت هيئة الإنصاف والمصالحة بهدمها مادام لم يكتمل بناؤها ولم تستعمل كمكان للحجز حتى تصبح ذاكرة.
عبروق وإعادة خيوط الحقيقة بألوان قوس قزح
عباس بين عبروق وبغدادي
قصة عبروق أو بغدادي، من قصص العدالة الانتقالية المغربية المثيرة، وسيقف القارئ على »طلاسيمها« بعد قراءة هذه الفقرات.
انقطعت أخبار عبروق عن العائلة في أواخر السبعينيات. وكان آخر من التقاه هو عباس الاسم الحركي لبودرقة سنة 1976 بطرابلس الغرب صحبة اليوغسلافية، وقد استخرج له جواز سفر باسم عيسى بغدادي، حيث عاد ليواصل عمله في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية ببلغراد.
وعند مغادرته المغرب ترك بنتا اسمها فاطمة الزهراء وولدا اسمه أبو بكر، تركهما وهما لايزالان طفلين صغيرين، لا يتذكران شكل والدهما. وبعد مرور 15 سنة أي في نهاية السبعينيات، انقطعت أخبار الأب عن العائلة نهائيا.
وبعد طول المدة قامت شقيقتاه باتباع مسطرة استصدار حكم بوفاته من أجل حل مشاكل الارث وما يستتبعه ذلك من قسمة.
فاطمة الزهراء المتمسكة بخيط الأمل
ظلت فاطمة الزهراء بنت عبروق متمسكة ببصيص الأمل معتقدة أن أباها لا يزال على قيد الحياة، وأن وفاته لم تتأكد بصفة نهائية تبعا لمصادر موثوق بها، وأصرت على الاستمرار في طرق باب المجلس الاستشاري لحقوق الانسان بدون كلل أو ملل رغم قرار الوفاة الذي قضت به المحكمة بطلب من باقي أفراد العائلة. ورغم إقامتها في مدينة مكناس، فقد كانت مداومة على التنقل وبإصرار للسؤال عن مصير أبيها.
وكان من السهل على فريق متابعة توصيات هيئة الانصاف والمصالحة التابع للمجلس الاستشاري لحقوق الانسان أن يكتفي بالحكم الذي أصدرته المحكمة بوفاة عبروق العلمي، بإصدار قرار بإغلاق ملفه وسحبه من قائمة مجهولي المصير المبحوث عنهم وإلحاقه بلائحة مجهولي المصير مع قرينة الوفاة.
ولكن بفضل إلحاح ابنته فاطمة الزهراء، وبناء على منظور العدالة الانتقالية المغربية، المؤسس على تكوين الاقتناع على أساس حجج مقنعة وقاطعة للشكك باليقين، تقرر إجراء البحث عن المعلومات من مصادر متنوعة. وهكذا تمت مراسلة وزارة الشؤون الخارجية والتعاون على أساس إجراء بحث لدى مختلف السفارات المغربية في العالم، بهدف معرفة ما إن كان مسجلا لديها مواطن تحت اسم محمد عبروق العلمي أو اسم عيسى بغدادي.
وبالموازاة مع ذلك، تمت مراسلة سفير دولة فلسطين في الرباط حول مصير أحد موظفيها بمكتب منطقة التحرير الفلسطينية ببلغراد باسم عيسى بغدادي أو محمد عبروق العلمي.
وبعد فترة من الزمن، كانت المفاجأة السارة الأولى، حيث تلقى المجلس الاستشاري لحقوق الانسان جوابا من وزارة الشؤون الخارجية والتعاون، تعلن فيه أنه حسب التحريات التي قامت به مصالح البعثة المغربية ببلغراد، فإن السيد عبروق العلمي اشتغل بعد انضمامه لمنظمة التحرير الفلسطينية بمكتبها الاعلامي بدولة يوغسلافيا السابقة وتدرج في مراتبها الدبلوماسية إلى أن أحيل على التقاعد مؤخرا برتبة مستشار، وأكدت أيضا أنه غير مسجل لدى المصالح القنصلية المغربية، وأنه يحمل وثيقة فلسطينية تحت اسم عيسى بغدادي.
كما تلقى المجلس الاستشاري رسالة من منظمة التحرير الفلسطينية تؤكد فيها أن السيد عيسى البغدادي اشتغل لدى مكتبها في مدينة بلغراد وأنه أحيل على التقاعد سنة 2007. وتم تدعيم الجواب برقم هاتفه الشخصي.
ومع هذا الخبر السار الذي وصل شهر شتنبر 2010، قررت لجنة متابعة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة بالمجلس الاستشاري ألا تبلغ أسرته بهذا النبأ إلا بعد التأكد ما إن كان لايزال على قيد الحياة أم لا، خصوصا بعد تقاعده عن العمل، وقد أجريت عدة محاولات للاتصال به، ولكن هاتفه ظل يرن بدون جواب.
بادر بودرقة بالاتصال به من رقم هاتفه الفرنسي المحمول في محاولة لقطع اليأس، ما دامت هناك معلومات موثوق بها بشأنه، وبالفعل ردت زوجته على الهاتف، ثم حولت السماعة إلى عيسى وعرفه بنفسه وذكره بآخر لقاء في طرابلس الغرب سنة 1976 مع الفقيه البصري وإخوان آخرين.
وكانت المفاجأة الثانية تواصله وكأنه ودع بودرقة بالأمس، وبدأ بأسئلته حول عديد من رفاقه محمد البصري عبد الفتاح سباطة، عبد الرحيم بوعبيد، باهي، محمد البارودي. وكان الرد، أن هؤلاء انتقلوا إلى رحمة الله. ثم سأل عن مجموعة أخرى لا تزال على قيد الحياة من بينهم الاستاذ عبد الرحمان اليوسفي ومولاي عبد السلام الجبلي، محمد بنسعيد آيت إيدر. وسأل بودرقة كيف حصل على هاتفه. أجابه بالمثل المغربي “»اللي عندو لسانو مايتلف”أي« من يسأل لا يتيه، ثم ودعه على أن يعيد الاتصال به مرة ثانية من باريس، وذلك بعد أربعة أيام من أجل أن يترك لمفاجأة هذه المكالمة الهاتفية غير المتوقعة بالنسبة إليه ما يلزم من الوقت لتهدئة النفس والاستعداد للمكالمة التالية التي ستكون غنية بالتفاصيل والمعلومات.
عاود بودرقة الاتصال من باريس. وكانت مكالمة شملت كل التفاصيل من تأسيس هيئة الانصاف والمصالحة مرورا بإلحاح ابنته فاطمة الزهراء وابنه أبو بكر على وضع طلب الكشف عن مصيره، وصولا إلى انتهاء مهمة الهيئة ومتابعة المجلس الاستشاري للملفات العالقة من مجهولي المصير والتي تعد حالته ضمنها.
وأضاف بودرقة أن بإمكانه العودة إلى المغرب معززا ومكرما، وأن الأبواب مفتوحة أمامه متى رغب في ذلك. وطلب عبروق بعد طول إنصات، أن يأخذ فترة للتفكير في الأمر الذي لم يكن واردا من قبل في مستشاريه في ما تبقى من العمر بعد التقاعد.
وبعد عشرة أيام، غادر بودرقة الاتصال به من جديد، وأعلن له عبروق عما اعتبره موقفه النهائي الذي يوصل إليه والقاضي بأنه أمام واقع أسسه منذ خمسة عقود، وهو الآن متقاعد من الصعب عليه أن يحاول تغييره أو حتى التفكير في حياة أخرى،لهذا يرغب في عدم الإزعاج، وترك الحالة على ماهي عليه، وأضاف أنه في الشهر المقبل سوف يغير مسكنه الحالي، وبالتالي سوف يتغير معه رقم هاتفه أيضا.
وحتى لا يعود ذلك مبررا في عدم التواصل ولتأكيد رغبته في بقاء العلاقة مع بودرقة، سلمه رقم هاتفه الجديد معبرا عن سعادته في أن يسمع صوته من حين لآخر.وبعد مرور شهر، أعيد الاتصال به من جديد. وبعد السؤال عن أحواله، تم إخباره أن لجنة المتابعة بالمجلس الاستشاري، وبعد أن تأكدت من أنه لا يزال على قيد الحياة، خصصت له تعويضا ماديا كباقي ضحايا الانتهاكات، وهو رهن إشارته. ومادام عبر في عدم رغبته في التنقل وتغيير وضعه الحالي، فإن بإمكانه إصدار وكالة لأي شخص من العائلة لتسلم هذا المبلغ، شريطة المصادقة عليها في القنصلية المغربية ببلغراد، إلا أنه، وبالرغم من هذه المحاولات، اعتذر عن تسلم المبلغ، وترك الحال على ماهي عليه. استمرت الاتصالات وتواصلت معه من حين لآخر، إلى أن أعطى موافقته بأن تتقاسم ابنته فاطمة الزهراء وابنه أبو بكر المبغل المخصص لتعويضه.
وينفتح أفق العودة…
ذات يوم اتصل السيد الحسين الكافوني ببودرقة وأخبره أن أختيْ محمد عبروق ترغبان في اللقاء به. وبعد الاتصال المجرى، أبدتا رغبتهما بإلحاح للاتصال بأخيهما. فأخبرهما أنه سيبلغ هذه الرغبة للسيد عبروق، وسيبعث إليه برقم هاتفيهما قصد الاتصال إذا رغب في ذلك، وقد أخبر بودرقة عبروق بهذا الاتصال، وأكد له أنه حفظا للامانة لم يسلم الاختين رقم هاتفه الخاص.
وبعد اتصالات متعددة، قرر أخيرا بعد اقتناع، ربط الاتصال بأختيه، واستمرت الاتصالات وتوطدت إلى أن تحولت إلى اتخاذ قرار الدخول إلى المغرب. وتلبية لرغبته في العودة إلى أرض الوطن راسل المجلس الوطني لحقوق الانسان ووزارة الشؤون الخارجية والتعاون، من أجل تسهيل عودة السيد عبروق محمد العلمي الذي غادر المغرب منذ حوالي 51 سنة، على أساس جنسيته المغربية علما بأنه يحمل حاليا جوازا دبلوماسيا فلسطينيا مع مطالبة وزارة الشؤون الخارجية والتعاون بمراسلة البعثة القنصلية المغربية لتسهيل منحه تأشيرة الدخول إلى أرض الوطن ريثما تتم تسوية أوضاعه للحصول على البطاقة الوطنية وجواز السفر المغربيين.
واستجابت الوزارة لهذا الطلب، وتم تقديم كل الشهادات المطلوبة للحصول على التأشيرة، ورافق السفير المغربي السيد عبد الله زاكور السيد عبروق محمد (عيسى بغدادي) إلى مطار بلغراد للإشراف مباشرة على توديعه شخصيا يوم 17 ماي 2013 في رحلة العودة إلى الوطن بعد إحدى وخمسين سنة من الغربة.
ووصل في الطائرة إلى مطار الرباط على الساعة العاشرة مساء، وكان في مقدمة مستقبليه ابنته فاطمة الزهراء وابنه أبو بكر وباقي أفراد عائلته والأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الانسان الأستاذ محمد الصبار بالإضافة إلى الدكتور مصطفى الكثيري المندوب السامي لقدماء المقاومين رفقة العديد من المقاومين والأستاذ محمد اليازغي وبوعيش مسعود عن المنظمة المغربية لحقوق الإنسان وبعض الشخصيات السياسية.
وتصر العدالة الانتقالية على بلوغ مراميها ما أمكن.
تقدم حالة عبروق نموذجا للجهود التي تبذلها العدالة الانتقالية بغاية الوصول إلى مراميها ما أمكن ذلك. وهكذا انطلاقا من فتح الملف مع بداية عمل هيئة الانصاف والمصالحة في يناير 2004، عندما قدمت ابنته فاطمة الزهراء وأخوها أبو بكر طلبا للهيئة للبحث عن أبيهما الذي غادر المغرب سنة 1963، وبعد انقطاع أخباره بصفة نهائية لأزيد من ثلاثين سنة، ورغم تصنيف الهيئة لحالته ضمن الحالات العالقة، ستصل لجنة متابعة توصيات الهيئة بالمجلس الاستشاري لحقوق الانسان إلى أنه لا يزال حيا يرزق إلى غاية سنة 2010 وسيتحقق حلم ابنته فاطمة الزهراء بعودته إلى أرض الوطن في عهد المجلس الوطني لحقوق الانسان سنة 2013.
وبمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، وشح جلالة الملك يوم 20 غشت 2016 السيد محمد عبروق بوسام المكافأة الوطنية بدرجة قائد.
وفي منتصف شهر أكتوبر 2016، اتصلت السيدة فاطمة الزهراء لتنعي رحيل والدتها إلى دار البقاء. عجيب أمره هذه العدالة الانتقالية التي تمكنت من أن تحفظ ذاكرة المرحوم عبروق بعد قضائه خمسين سنة مفصولا عن جذوره.
حفظ أسطورة شيخ العرب
شيخ العرب، علامة أو وصف أو عبارة أو تسمية تداولتها الألسن على نطاق واسع في السنوات الأولى من العقد الستيني من القرن المنصرم في البيضاء والحواضر الكبرى، وكانت صورته وصور مجموعته معلقة بصيغة »”مطلوب للعدالة”« في كل النقط والمراكز الإدارية، وتحول إلى أسطورة يحكيها الكبار للصغار في المنازل والمقاهي، كما كانت إعلانات البحث عنه تختتم بها تقديمات النشرات الإخبارية بقاعات السينما. وكان الكل يسمع عنه دون أن يعرف قصته.
قدمت زوجة أحمد فوزي المعروف بـ “شيخ العرب” إلى الهيئة المستقلة للتعويض بطلب لجبر الأضرار التي لحقت بالعائلة، جراء ما تعرضت له من انتهاكات في الستينيات، فيما عرف بقضية “شيخ العرب”. وقد أصدرت الهيئة المستقلة مقررا يقضي بتعويض العائلة ماديا دون أن تتمكن من تحديد مكان دفنه بسبب عدم اختصاصها. وقد واصلت هيئة الانصاف والمصالحة التحريات الضرورية في هذا الملف لتحديد قبور شيخ العرب ورفاقه.
فمن هو أحمد فوزي شيخ العرب أحمد اكوليز؟
ولد سنة 1927 بقرية أكوليز بطاطا (جنوب المغرب) وفي يوم 11 يناير 1944 يوم توقيع عريضة المطالبة بالاستقلال قاد مظاهرة للتجار والصناع في مدينة الرباط، لتأييدها وكان نشاطه السياسي من داخل حزب الاستقلال اعتقلته السلطات الفرنسية سنة 1951 وقررت نفيه من العاصمة الرباط إلى مسقط رأسه بطاطا (بقرية اكوليز) مكبلا بالسلاسل مشيا على الاقدام على مسافة تزيد عن 1000 كلم، ليكون بذلك عبرة للآخرين.
وعندما نفت السلطات الفرنسية المغفور له محمد الخامس سنة 1953 انتفض شيخ العرب ضد السلطات الفرنسية وعملائها المحليين وقام بعمليات هجومية ضدهم. وفي نفس السنة التحق بخلايا المقاومة وأشرف على توفير الاسلحة والذخيرة كما نفذ العديد من العمليات ضد عملاء الاستعمار في مدينة الرباط، واستطاع الافلات عدة مرات من الكمائن التي نصبتها له القوات الاستعمارية لاعتقاله.
وخلال عام 1954 تمكنت السلطات الاستعمارية من اعتقال شيخ العرب وعناصر من مجموعته ونقلتهم إلى السجن المركزي بمدينة القنيطرة وتم إطلاق سراح العديد من المقاومين والوطنيين بعد عودة محمد الخامس من المنفى بتاريخ 16 نونبر 1955 كما أطلق سراح كافة المعتقلين السياسيين بعد توقيع وثيقة الاستقلال في 2 مارس 1956 باستثناء شيخ العرب ورفاقه، حيث ظلوا رهن الاعتقال إلى غاية 4 ماي 1956.
وبمجرد خروج شيخ العرب من السجن، التحق بصفوف جيش التحرير بجنوب المغرب وساهم في تصفية بعض القواد الذين تعاملوا مع الاستعمار ليصدر في حقه تبعا لذلك حكم بالاعدام غيابيا صيف 1958.
شنت أجهزة وزارة الداخلية حملة اعتقالات في صفوف المقاومة وجيش التحرير في نهاية الخمسينات وبداية الستينيات من القرن الماضي، مستهدفة على الخصوص المجموعات المسلحة ومن بينها التي لها صلة بشيخ العرب، وعندما طوقت قوات الأمن تحت إشراف الكولونيل أوفقير مقر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بتاريخ 16 يوليوز 1963 بمدينة الدار البيضاء، تم اعتقال كافة أعضاء اللجنة المركزية الذين حضروا الاجتماع في اطار القضية التي اصطلح على تسميتها بالمؤامرة وشملت الاعتقالات العديد من مجموعة شيخ العرب ولم تسلم منها أسرته المكونة من زوجته وابنته نادية ذات الخمس سنوات وابنه توفيق ذي الأربع سنوات والتي قضت أزيد من سنة بدار المقري التي تعد أحد مراكز الاحتجاز غير النظامية الأكثر شهرة في الستينيات بالرباط. أما شيخ العرب فقد تمكن من أن يفلت من الحملة ويعبر إلى الجزائر التي حصلت على استقلالها يوم 5 يوليوز 1962 ضامنا بذلك ملجأ كما هو الشأن بالنسبة للعديد من السياسيين الفارين.
تحريات الهيئة وإعادة تركيب صورة ما جرى
اكتسى اللبس ملف شيخ العرب، بسبب تداخل حالته مع عدة مجموعات مما أفضى بفريق تحريات هيئة الانصاف والمصالحة إلى اعادة تركيب المعلومات المتعلق بمجموعاته التي شملت.
المقاوم الحاج أحمد أو شويض الذي اعتقل يوم 10 نونبر 1963 بدوار تاوريت إيرغ بقبيلة إداوا نضيف باقليم شتوكة أتي باها ضواحي اكادير.
المقاوم عبد الله كجاج المدعو “بوزاليم” الذي اعتقد في شهر اكتوبر 1963 بمنزله في مدينة الدار البيضاء.
المقاوم عبد الله بنسي الذي اعتقل يوم 13 أكتوبر 1963 بمدينة مراكش.
المقاوم عبد الله كاكار الذي اعتقل في شهر أكتوبر 1963 أول مرة بمقر عمله بميناء الدار البيضاء تم أطلق سراحه ليعتقل مرة أخرى بمنزله بعد أيام من إطلاق سراحه.
وفي 14 مارس 1964 أصدرت المحكمة الاقليمية بالرباط، التي كانت تبت فيما عرف بقضية المؤامرة ضد النظام والتي اعتقل فيها العديد من قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أحد عشر حكما بالاعدام منها ثلاثة أحكام حضوريا في حق محمد البصري وعمر بن جلون ومومن الديوري وسيصدر عفو ملكي لاحقا لفائدتهم بتاريخ 5 غشت 1965، كما أصدرت ثمانية أحكام بالاعدام غيابيا من ضمنها شيخ العرب الموجود في الجزائر. ومن غرابة الأوضاع صدور حكم بالاعدام غيابيا في حق عبد الله كجاج (بوزاليم) وآخر أيضا غيابيا في حق الحاج احمد أو شويض بالسجن لمدة خمس سنوات وكلاهما يوجدان في أحد مراكز الاحتجاز دون تقديمها إلى المحكمة.
وظل شيخ العرب في الجزائر مدة .وفي بداية سنة 1964 دخل في خلافات مع رفاق دربه من المقاومين الذين لجأوا إلى الجزائر إذ كان يؤاخذهم على استسلامهم للراحة وعزوفهم عن الاستمرار في مقاومة النظام.
فقرر شيخ العرب في الاخير العودة إلى المغرب عبر الحدود الجزائرية قاصدا مدينة الدار البيضاء حاملا معه كمية من الاسلحة والعتاد، ومباشرة بعد دخوله ظلت السلطات العمومية تتعقبه وتوزع على نطاق واسع منشورات وملصقات تحمل صورته بغاية البحث عنه وتحذر كذلك المواطنين منه باعتباره مجرما خطيرا وتدعوهم للتبليغ عنه بمجرد التعرف عليه. وفي يوم 7 يونيو 1964 حاصرته القوات العمومية في أحد المنازل بحي لارميتاج بمدينة الدار البيضاء، ودارت مواجهة مسلحة بين الطرفين، أسفرت عن مقتل ثلاثة من رجال الشرطة، وتمكن شيخ العرب من الافلات من الحصار.
مطاردة شيخ العرب والانتقام من رفاقه
وغداة هذا اليوم أي الثامن من يونيو 1964 صدر بيان لوزارة الأنباء بالمغرب يحمل شيخ العرب مسؤوليته تصفية رجال الشرطة الثلاثة. وقامت السلطات بإخراج أربعة من رفاقه، في نفس اليوم من أماكن الاحتجاز غير النظامية وهم الحاج احمد أوشويض وعبد الله كجاج بوزاليم وعبد الله كاكاروعبد الله بنسي وقامت بتصفيتهم خارج نطاق القانون ورمي جثمانهم في أنحاء مختلفة من مدينة الدار البيضاء .وصدر بلاغ صحفي يعلن أن هؤلاء تمت تصفيتهم بعيارات نارية من نفس السلاح الذي قتل به شيخ العرب رجال الشرطة الثلاثة في محاولة لإيهام الرأي العام أن شيخ العرب من كان وراء اغتيالهم.
وتمكنت القوات العمومية من تطويق بيت أحمد ازناك في حي سيدي عثمان بمدينة الدار البيضاء يوم 7 غشت 1964 حيث يوجد شيخ العرب بعد وشاية من أحد معارف صاحب البيت، وبعد رفضهما الاستسلام انطلقت مواجهة مسلحة بين الجانبين، انتهت بمقتل شيخ العرب ورفيقه أحمد ازناك.
مواصلة الهيئة للتحريات بغاية معرفة أماكن الدفن
تطلب البحث عن مكان دفن شيخ العرب وأماكن دفن رفاقه إجراء عدة أبحاث وتحريات، إذ قامت هيئة الانصاف والمصالحة بفريق يضم صلاح الوديع ومصدق، بالعديد من الزيارات الميدانية والاطلاع على السجلات في المستشفيات وسجلات مصالح حفظ الموتى وسجلات المقابر والاستماع إلى العديد من الشهود من قدماء المعتقلين وحفاري القبور ورجال السلطة من الذين أحيلوا على التقاعد والقلة التي مازالت تمارس مهامها منهم.
وأفضت التحريات إلى أن جثمان شيخ العرب تم نقله في نفس اليوم أي 7 غشت 1964 إلى مصلحة حفظ الموتى بالدار البيضاء على الساعة الحادية عشرة و35 دقيقة ،وسجل تحت رقم L295 على أساس أنه مصاب برصاصة في صدره، وبنفس المصلحة تم إيداع جثمان احمد ازناك مسجل تحت رقم L296 بداعي الإصابة برصاصة في رأسه.
كما اطلع فريق التحريات لهيئة الانصاف والمصالحة على نفس السجل في المصلحة ليوم 8 يونير 1964 أي غداة تصفية رفاق شيخ العرب الاربعة، وتبين أنهم نقلوا إلى المصلحة على الساعة الثامنة صباحا و45 دقيقة، وتم تسجيل عبد الله بنسي تحت رقم L217 وعبد الله كجاج بوزاليم تحت رقم L218 والحاج أحمد اشويض تحت رقم L219 وعبد الله كاكاز تحت رقم L220.
وتأكد من خلال تتبع مسار نقل هذه الجثامين أن الدفن تم في جناح الغرباء بمقبرة سباتة بالدار البيضاء. وبعد تحديد المقابر قررت الهيئة إخبار العائلات، وكلف المرحوم بنزكري بودرقة بمهمة إخبار عائلة شيخ العرب المقيمة في فرنسا.
وأخيرا اختارت العائلة التواصل مع العدالة الانتقالية…
كان أول اتصال هاتفي لبودرقة مع ابنة شيخ العرب نادية فوزي، وكانت آنذاك بأحد المستشفيات، وطلبت من مخاطبها الاتصال بأخيها توفيق وأعطته رقم هاتفه.
وبالفعل، اتصل بودرقة بابن شيخ العرب توفيق فوزي، وبعد تعريفه بنفسه وشخصه والتعريف بهيئة الإنصاف والمصالحة، أوضح له الغرض من المكالمة، فشك ابن شيخ العرب في الأمر، وسأل بودرقة عن صلته بالسفارة أو أجهزة الاستعلامات المغربية، قبل ان يخاطبه قائلا “»لقد طوينا هذا الملف الذي عانينا منه كثيرا، واستطعنا ان نبني أسرتنا من جديد، محاولين نسيان الماضي، وعدم فتح الجراح من جديد فأرجوكم الا تفتحوا معنا هذا الملف مرة أخرى«.
فأخبره بودرقة، بأنه ليس من السفارة ولا من الاجهزة، ولا حتى موظفا في الدولة، وإنما هو عضو مستقل فيما يطلق عليه عالميا آلية العدالة الانتقالية، والتي اطلق عليها في المغرب، اسم »هيئة الانصاف والمصالحة«، والتي هدفها الكشف عن الانتهاكات الجسيمة التي عاشتها البلاد منذ 1956 إلى غاية 1999، ومن ضمنها ملف والده. وان والدته سبق وان قدمت طلبا إلى الهيئة المستقلة للتعويض لجبر الضرر المادي، وان هيئة الانصاف، تتابع التحريات لتحديد مكان قبر والده. وأضاف بودرقة قائلا: »نحن نحترم موقفكم، ونقدر تخوفاتكم من فتح الجراح من جديد، وليس هدفنا هو ازعاج عائلتكم، بقدر ما نرغب في ابلاغكم بنتائج التحريات التي توصلنا اليها فيما يخص الجانب المجهول من مصير والدكم، وسأغادر فرنسا بعد ستة ايام وسأكون رهن اشارتكم لتزويدكم بتوضيحات اكثر، أو الرد على استفساراتكم، وخط هاتفي مفتوح على مدار 24 ساعة وهذا اسمي ورقم هاتفي واسم الهيئة التي انتمي اليها وهذا عنوانها الالكتروني«، كان هذا الاتصال مساء يوم 5نونبر 2005، وبالضبط في خمسة وعشرين يوما قبل انتهاء مهام هيئة الإنصاف والمصالحة.
وفي يوم 7 نونبر 2005، اتصل توفيق فوزي بودرقة وطلب لقاء مباشرا، واقترح موعدا في اليوم الموالي، اي 8 نونبر 2005، بأحد مقاهي باريس في الدائرة الخامسة عشرة. التقى به بودرقة في المكان والموعد، فوجده شابا وسيما، انيقا، مهذبا ولبقا. واستحضر بقوة كون هذا الشاب كان محتجزا لأكثر من سنة وهو طفل لا يتجاوز عمره أربع سنوات بدار المقري.
ودار الحديث بينهما حول الأوضاع في المغرب والظروف التي أدت إلى إنشاء هيئة الانصاف والمصالحة، وتركيبتها وأهدافها ومهامها للكشف عن حقيقة الانتهاكات التي وقعت في الماضي وجبر اضرار الضحايا ووضع خطة لعدم تكرارها مستقبلا. ثم اوضح له بودرقة كيف أمكن للهيئة ان تصل إلى تحديد قبر والده، وأنها منفتحة للجواب على كل اسئلة الضحايا وعائلاتهم، كما أعلمه أن الهيئة بصدد استكمال تقريرها الختامي، والذي سترفعه إلى جلالة الملك في نهاية الشهر (نونبر) وسيرى بالتأكيد النور وسيطلع عليه كافة المغاربة.
استمر الحوار، وكان بودرقة يجيب عن تساؤلات توفيق فيما يخص قضية والده، وكان يمده بتفاصيل دقيقة، ودام اللقاء حوالي ساعتين. وعند الوداع طرح توفيق سؤالا على بودرقة، هل لديك ابناء، اجابه نعم لدي اثنان زينب وكريم. وقال توفيق: انا استاذ للرياضيات وإني على استعداد لاعطائهما دروس تقوية في مادة الرياضيات بشكل تطوعي. فشكره بودرقة على مبادرته وحسن اهتمامه. وأخبره ان ابناءه على أبواب الجامعة، علما بأن بودريقة حرص في هذا اللقاء على عدم احراجه باي سؤال يخص حياته الخاصة او العائلية، مراعاة منه، للطريقة التي تجاوب معه بها خلال المكالمة الهاتفية الاولى بينهما لا سيما عبارته المتسائلة »هل انت من السفارة ام من الأجهزة؟«.
وبعد هذا اللقاء بعشرة أيام، اي يوم 18 نونبر 2005، ارسلت عائلة شيخ العرب، »الزوجة امينة وكريم ونادية وتوفيق« رسالة مضمونة لكل عضو من اعضاء هيئة الانصاف والمصالحة، رسالة تقول كل شيء. وفيما يلي نص ترجمتها إلى العربية.
*هيئة الإنصاف والمصالحة – المملكة المغربية
الموضوع: جواب عن اتصال بمبادرة هيئة الإنصاف والمصالحة مع عائلة شيخ العرب (حرمه السيدة أمينة وكريم وأبناؤه السيدة نادية والسيد توفيق فوزي).
السيدة والسادة أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة
اتصلت بنا هيئة الانصاف والمصالحة بواسطة عضوها السيد امبارك بودرقة، يوم السبت 5 نونبر 2005، وقد تم إجراء اتصالين هاتفيين بيننا خلال يوم: 7 و 8 نونبر كما التقينا مباشرة في باريس يوم 8 نونبر.
لقد أخبرنا السيد بودرقة باكتشاف مكان دفن زوجنا ووالدنا، واذا تأكد ان القبر الذي اكتشف يعود فعلا لشيخ العرب فإن اسرتنا تلقت الخبر بارتياح كبير. ونتقدم بالشكر الجزيل لكل من ساهم في هذا الإنجاز ولكافة اعضاء هيئتكم.
كما ان السيد بودرقة، اقترح علينا التقدم بملف طلب جبر للضرر امام هيئتكم، وكما أشرنا لذلك، خلال الاتصال الهاتفي وخلال اللقاء المباشر الذي تم مع السيد توفيق فوزي، يوم الثلاثاء 8 نونبر 2005، فإننا نعبر عن تحفظنا وعن احتياطنا الكبير صوب هذه المبادرة.
ويتلخص موقفنا في النقاط الآتية:
1- ينبغي للدولة المغربية ان تحدد لنا موقع قبر زوجنا ووالدنا وأن تضمن لنا رسميا صحة ذلك.
2 – لا ننوي اتخاذ اي خطوة ضد الدولة المغربية، بل اننا نعتبرها مدينة لنا،وننتظرمنذ 41 سنة، ان تقدم لنا اسفها واعتذارها لما تحملناه بسببها، ونحن مستعدون لقبول ذلك الاعتذار متى أمكن القيام بذلك.
3 – فيما يتعلق بجبر الضرر المادي، فإن الدولة مدينة لنا من مسؤوليتها أن تقدم لنا مقترحات، وسننتظر رد الدولة المغربية الذي سنقوم بدراسته بعناية كبيرة.
4 – انه من الصعب التسرع في اتخاذ موقف تجاه موضوع شديد الخطورة والحساسية.
5 – لا يمكن حل مشكل دام 41 سنة خلال 3 أسابيع.
وفي الختام، نحن في انتظار التوصل بموقف الدولة المغربية بصدد النقاط التي ذكرناها، ونظرا لغياب عناصر أكثر دقة، لا نرغب في الوقت الحالي، الالتزام اكثر من هذا.
إن فخر عائلتنا تمثل في إعادة بناء أسرتنا وتكويننا رغم المحن والأحداث، وإننا نحرص على حماية سكينتنا وطمأنينتنا وخصوصياتنا وحياتنا الخاصة. لقد أيقظ اتصالكم بنا ذكريات مؤلمة لا نود أن نراها تعالج بدون تفكير.
اننا نقدر عملكم والمجهودات التي بذلتموها من أجل استعادة ذاكرة شيخ العرب، وإعادة فتح صفحة طبعت تاريخ المغرب لفترة طويلة، اننا نشكركم على ذلك.
وتفضلوا، أيتها السيدة أيها السادة، بقبول عبارات مشاعرنا المتميزة.
باريس في 18 نونبر 2005
التوقيع: »السيدة أمينة وكريم – السيدة نادية فوزي -ا لسيد توفيق فوزي.”
حالة ابي فادي والتصدي التلقائي في إطار العدالة الانتقالية
أبو فادي، حالة خاصة من حالات الاختفاء القسري التي عالجتها هيئة الإنصاف والمصالحة، وأنهتها لجنة متابعة تنفيذ توصياتها. وتمثل وضعا »فريدا« يعكس عبثية الأعمال التي ارتكبت في إطار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، كما تعكس حالة من حالات التعقيد التي تعترض الكشف عن الحقيقة في إطار العدالة الانتقالية. وكثيرا ما يرد في إطار هذه الأخيرة، وصف الغموض او اللبس، وينطبق على حالة أبو فادي من كل الجوانب.
يجسد التعاطي مع حالة أبي فادي نوعية من إجراءات العدالة الانتقالية التي تتصدى تلقائيا لما يعرض عليها في إطار الاختصاص النوعي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالاختفاء القسري بوصفه انتهاكا مركبا، تتصل به انتهاكات أخرى.
وهكذا تفاعلت هيئة الانصاف مع حالته، دون ان تتلقى بشأنه اي طلب، سواء من طرف العائلة او ذوي الحقوق او جمعية من جمعيات حقوق الانسان.
أبو فادي اسم تتداوله أجيال الضحايا
شخصية أبي فادي، تداولتها شهادات كل من عايشوه في مراكز الاحتجاز التعسفي، في كل من »الكومبليكس« بالرباط، ودرب مولاي الشريف بالدار البيضاء وأكدز وقلعة مكونة بورزازات. كان هذا المعتقل يتكلم اللهجة اللبنانية، حيث إن الجميع كان يناديه بأبي فادي أو اللبناني أو المراكشي.
لاحظ فريق التحريات بالهيئة، أن اسمه لم يرد في اللوائح النهائية للضحايا، أو لوائح الذين تم إطلاق سراحهم، أو ضمن لوائح الذين لقوا حتفهم اثناء فترة الاحتجاز. ورغم ان الهيئة لم تتلق أي طلب بشأن معرفة مصيره، فإن الواجب الإنساني وخطورة الانتهاك الجسيم حتما عليها أن تتخذ قرار عرض ملفه على السلطات المختصة.
قررت الهيئة التصدي التلقائي لهذا الملف، لأن الهدف الاساس هو الكشف عن حقيقة ومصير أبي فادي المختفي قسريا، بغض النظر عن جنسية الضحية.
وأكدت السيدة لطيفة الجبابدي، عضو هيئة الإنصاف والمصالحة، عندما كانت معتقلة بدرب مولاي الشريف بالدار البيضاء، أنها تتذكر هذا الشاب الذي يتكلم باللهجة اللبنانية، حيث اقتيد إلى نفس المعتقل خلال سنة 1977 .
تحريات الهيئة والإفادات المتوصل إليها
إثر الزيارات الميدانية التي قامت بها الهيئة إلى كل من مركزي الاحتجاز بقلعة مكونة وأكدز، استمعت إلى العديد من الشهود من قدماء المحتجزين المفرج عنهم، وإلى عدد من الحراس وموظفي الادارات المحلية وحفار القبور وغيرهم. كما اطلعت على العديد من السجلات والوثائق التي تؤكد ان ابا فادي، هو امحمد بن احمد عباس المراكشي، وانه نقل إلى مركز اكدز بتاريخ 22 دجنبر 1978، وتم ترحيله، بعد ذلك إلى قلعة مكونة سنة 1981، حيث ظل في هذا المعتقل صحبة العديد من المحتجزين إلى غاية نهاية 1991، وهو التاريخ الذي تم فيه إفراغ المعتقلات السرية من نزلائها.
واكتشفت الهيئة، بعد الاطلاع على لوائح المفرج عنهم، من مختلف المعتقلات السرية، انها لم تضم اسم أبي فادي، كما تأكدت، من خلال الاستماع إلى الشهود وزيارات المستشفيات ومراكز حفظ الموتى والمقابر الموجودة بالمنطقة، من أنها لم تعثر على أي أثر من شأنه أن يؤكد وفاته، فاسمه غير موجود بلائحة الاثنى والثلاثين الذين فارقوا الحياة بمحتجز اكدز، ولا ضمن الستة عشر الذين قضوا نحبهم بقلعة مكونة.
وبتاريخ 13 ابريل 2005 طرحت هيئة الإنصاف والمصالحة ملف أبي فادي على السلطات المركزية بوزارة الداخلية، وتأكد من خلال هذا اللقاء انه تم اعتقال ابي فادي بدون اي تهمة واضحة خلال سنة 1976 باحد الفنادق بالرباط، وتم تنقيله بين العديد من مراكز الاحتجاز، إلى أن وافته المنية بسد المنصور الذهبي ودفن بجوار السد.
وبعد ثلاثة ايام، من هذا الاجتماع الذي عقد مع السلطات المركزية، انتقل يوم 16 ابريل 2005، وفد من هيئة الاتصال والمصالحة، يتكون من السيدة لطيفة الجبابدي، عضو الهيئة والسيد عبد الحق مصدق عن الإدارة المركزية، للقيام بمعاينة ميدانية لسد المنصور الذهبي الموجود بضواحي ورزازات، وذلك بهدف الوقوف على قبر أبي فادي، كان ذلك على الساعة السادسة والنصف مساء، رفقة السيد رئيس الشؤون العامة لعمالة ورزازات، والسيد القائد الاقليمي للقوات المساعدة لعمالة ورزازات.
وبعد الوصول إلى المكان المعلوم، استمع الوفد في عين المكان، إلى السيد الحدادي امبارك وهو أحد حراس السد الذي كان مكلفا بأبي فادي إلى أن فارق الحياة وأشرف على عملية دفنه، بعد ذلك تمت عملية معاينة القبر الذي كان يبعد عن السد بحوالي 100 متر، بكامل معالمه البارزة والواضحة في منطقة جرداء خالية من اي بنايات.