يشهد العالم اليوم مرحلة من التحول الجذري، على الصعيد الاقتصادي/ الاجتماعي كما على الصعيد العلمي، لا نبالغ إذا قلنا إنه أشبه -إن لم يكن أعمق من- ذلك التحول الذي عرفته أوربا والعالم أجمع في مثل هذا الوقت من القرن الماضي. وغير خاف أن ما شهده هذا القرن، العشرون، منذ عقوده الأولى، سواء على صعيد الكشوف العلمية أو على صعيد التحولات الاجتماعية/الاقتصادية والسياسية، إنما كان نتيجة للتطورات الجذرية التي عرفتها نهاية القرن الماضي.

إن الكشوف العلمية التي فتحت في بداية هذا القرن آفاقا جديدة تماما على صعيد البحث العلمي وتطبيقاته، مثل نظرية النسبية ونظرية الكوانتا، والتي توجت بغزو الذرة وصنع القنبلة الذرية وتفجيرها من جهة، وبغزو الفضاء والصعود إلى القمر وارتياد مجاهيل كونية أخرى من جهة ثانية، إن هذه الكشوف والتطبيقات العلمية الهائلة التي شهدها هذا القرن العشرون  كانت امتدادا مباشرا لذلك التحول الذي عرفته العلوم، وبكيفية خاصة الرياضيات والفيزياء، في مثل هذا الوقت من القرن الماضي.

أما التحولات الاقتصادية والاجتماعية والأحداث السياسية والتاريخية التي شهدها هذا القرن نفسه، ابتداء بالحرب العالمية الأولى وقيام الثورة الروسية من جهة، إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية وقيام الكتلة الشيوعية ثم الحرب الباردة من جهة ثانية، إلى انتصار حركات التحرر الوطني وظهور ما سمي بالعالم الثالث من جهة ثالثة، كل هذه الأحداث والتطورات التي ميزت هذا القرن العشرين لم تحدث مصادفة واتفاقا، بل جاءت امتدادا ونتيجة لما عرفته العقود الأخيرة من القرن الماضي من حملات استعمارية ومنافسات دولية وصراعات اجتماعية انبثقت عنها إيديولوجيات متضاربة كان لها الأثر الكبير فيما رافق الأحداث المذكورة من تعبئة نفسية وفكرية واجتماعية وقومية.

وفي خضم ذلك كله كان شعار رئيس يتردد في أوربا وخارجها، شعار: “الاشتراكية هي الحل “. الاشتراكية هي الحل للمسألة الاجتماعية التي تتمثل في الاستغلال الطبقي والطغيان الرأسمالي. والاشتراكية هي الحل للمسألة القومية والظاهرة الاستعمارية والتنافس الدولي الإمبريالي. كانت الاشتراكية تعني على الصعيد الأول، صعيد المسألة الاجتماعية، نقل الملكية الخاصة إلى الدولة، بينما كانت تعني على الصعيد الثاني انتظام العمال في جميع أنحاء العالم فيما كان يسمى بـ”الأممية البروليتارية”. وبعبارة قصيرة، كان طريق الإنقاذ منذ أواخر القرن الماضي إلى العقود الأخيرة من هذا القرن يتلخص في شعارين اثنين: التأميم، والأممية البروليتارية.

وها نحن اليوم، نحن الذين عشنا هذا القرن العشرين -على تفاوت في أعمارنا- وشعارا التأميم والأممية يقرعان أسماعنا ومخايلنا في كل لحظة، ها نحن نشاهد الأمور وقد انقلبت رأسا على عقب. لقد فشل التطبيق الاشتراكي الشيوعي في كل مكان، وصارت “الأممية البروليتارية” في خبر كان. وفي الحين حل محل شعار “التأميم” شعار “الخوصصة”، ومحل شعار “الأممية البروليتارية” شعار “العولمة”. ومرة أخرى يرفع شعار واحد للإنقاذ وترتفع أصوات تنادي بـ“الليبرالية هي الحل”.

وما دمنا قد سلكنا سبيل المقارنة كمدخل لهذا الحديث  فلنضف مقارنة أخرى هي أقرب إلى موضوعنا.

 كان الناس في أواخر القرن الماضي ومعظم هذا القرن يرون أن الوسيلة الوحيدة للتعجيل بالحل الاشتراكي العادل للمسألة الاجتماعية هو تأجيج الصراع الطبقي قطريا ودوليا، ناظرين إلى “العمل الإنساني” الذي تقوم به بعض الجمعيات الخيرية نظرة ملؤها الشك والازدراء، معتبرين هذا النوع من “العمل الخيري”، الذي تمتد جذوره في أعماق التاريخ، مجرد جرعات لا تسمن ولا تغني من جوع. أما اليوم فقد توارت نظرية الصراع الطبقي بعد أن فشلت التطبيقات التي أجريت باسمها، وبالمقابل برزت المنظمات الأهلية (= التطوعية، غير الحكومية)، مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمة أطباء بلاحدود، وكثير غيرها من المنظمات التطوعية الخيرية الإقليمية والدولية، كالمنظمات الأهلية العربية التي عقدت مؤتمرها الثاني في شهر مايو الأخير بالقاهرة الخ… أقول برزت هذه المنظمات غير الحكومية لتقدم نفسها كـ”قطاع ثالث” بين الدولة والسوق، قطاع يأخذ على عاتقه مهمة التخفيف من وقع الاستبداد السياسي  والظلم الاجتماعي على الطبقات المستضعفة،  إضافة إلى التخفيف من وقع الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية. وهناك اليوم اتجاه يطمح إلى جعل هذا “القطاع الثالث” يساهم بجد في عملية التنمية، على الصعيد العالمي، وذلك بالارتفاع بنشاطاته ‎‎‎‎‎‎التطوعية من المستوى القطري والإقليمي إلى “المستوى الأممي”: منظمة “التحالف العالمي لمشاركة المواطنين” (سيفيكوس)، مثلا.

  أنا هنا لا أدعو إلى استنتاج نتائج معينة من هذه المقارنات. فالمقارنة ليست برهانا ولا ينبغي لها أن تقوم مقام التجربة والبرهان، بل هي مجرد وسيلة للتوضيح. ومع ذلك فالمقارنات السابقة مفيدة لتأطير القضية التي يطرحها عنوان هذا الحديث، قضية “الشأن الإنساني” في عصر الخوصصة والعولمة. وبعبارة أخرى إن الغاية من المقارنات السابقة ليست التمهيد لجواب معين، بل لقد كان الهدف منها ينحصر فقط في طرح دور المنظمات الأهلية في ظروف الخوصصة والعولمة طرحا إشكاليا يتوخى تعميق الوعي بأبعاد المشكل المطروح. وبما أن دور المنظمات الأهلية (أو التطوعية، أو غير الحكومية،) دور إنساني بالأساس فإن من المهام الملحة، التي تطرحها اليوم ظروف الخوصصة والعولمة، كما سنرى، مهمة القيام بإعادة تحديد وتعريف “الشأن الإنساني” وإعادة الاعتبار له:

كيف يمكن التمييز اليوم بين ما هو اجتماعي اقتصادي، وبالتالي سياسي، وبين ما هو “إنساني”؟

كيف يمكن انتشال “الشأن الإنساني” من لاإنسانية الشأن الاقتصادي/ السياسي الذي تحكمه اليوم أكثر من أي وقت مضى قوانين السوق، قوانين الربح والمنافسة؟

إن هذا السؤال هو،  فيما أعتقد، سؤال أساسي ومحوري في الوقت الراهن. وسنرى أن النتائج السلبية المباشرة لكل من الخوصصة والعولمة تفرض طرحه بإلحاح، تماما مثلما أن التطبيقات التي تجري اليوم في مجال الطب والبيولوجيا، مجال البحث في المورثات خاصة، أصبحت تطرح بحدة نفس السؤال. إن عملية استنساخ الحيوانات والإنسان لم تعد اليوم مجرد إمكانية نظرية أو فرضية علمية، بل لقد باتت حقيقة علمية تتصادم على طول الخط مع ما تعارف عليه الناس منذ فجر التاريخ من أخلاق وشرائع وأعراف. إن التقدم العلمي يشق طريقه، ولا أحد يستطيع الوقوف في وجهه. هذا هو درس التاريخ. غير أن نتائج البحث العلمي تصطدم اليوم بـ “الشأن الإنساني” بصورة لم يشهد التاريخ لها مثيلا من قبل. وإذن فما هو مطروح اليوم، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين، هو بالذات  “الشأن الإنساني” الذي لم يعد يوضع، كما كان الأمر من قبل، فوق كل شأن آخر، اقتصاديا كان أو اجتماعيا أو سياسيا أو علميا.

ولكي نتبين عمق الإشكال المطروح من زاوية النظر هذه، سنستعرض بإيجاز الجوانب السلبية المباشرة لكل من الخوصصة والعولمة، أعني التي تمس مسا مباشرا الشأن الإنساني. إننا هنا لا ننكر مسبقا ما قد يكون للخوصصة اليوم أو غدا من نتائج إيجابية قد ينعكس أثرها على الشأن الإنساني، على المدى القريب أو البعيد، كما أننا لا ننكر ما قد تحمله العولمة بين طياتها من إيجابيات، خصوصا على صعيد تكنولوجيا الاتصال والإعلام ونشر المعرفة، كما على صعيد ما قد يكون هناك من ضغط عالمي لفائدة الديمقراطية وحقوق الإنسان. إن هذه الإيجابيات،  ما كان منها حقيقيا وما كان مجرد آمال وتطلعات، أمور لا نريد أن نصرف الأنظار عنها بل بالعكس، نأمل أن تصبح في يوم من الأيام واقعا ملموسا. ومع ذلك فهذا لا يتعارض قط مع إبراز السلبيات والأخطار التي تمس من قريب أو بعيد الشأن الإنساني، في “لنظام العالمي الجديد” هذا: نظام الخوصصة والعولمة.

لنلق إذن نظرة سريعة على بعض جوانب هذه السلبيات والأخطار،  ولنركز على وطأتها على الوضع العربي خاصة، منطلقين من التذكير بأصولها وفصولها.

إن من المظاهر الرئيسية في الدولة العربية الحديثة أنها ورثت دولة المستعمر أو قامت على غرارها، مستنسخة هياكلها ووظائفها: دولة مركزية تنصب نفسها وصية على المجتمع ككل، تراقبه وتسيره بل وتبتلعه ابتلاعا. وكما أن الاستعمار الأوربي  قد ميز في المنطقة العربية، منذ أول أمره، بين البلدان التي له فيها منافع اقتصادية واستراتيجية، فحط رحاله فيها وغرس بنيات دولته بين جنباتها، وبين البلدان التي لا منافع له فيها  ولا أهمية استراتيجية فتركها وشأنها مكتفيا بمراقبتها وحصارها من خارج حدودها، فكذلك فعل في القطر الواحد. لقد اهتم بالمدن الشاطئية والمراكز المنجمية والأراضي الخصبة والعواصم الإدارية فنصب فيها بنيات دولته الحديثة،الإدارية منها والاقتصادية والإعلامية والتعليمية،بالقدر الذي يخدم مصالحه الاستعمارية والاقتصاديةوالاستراتيجية.أما الأرياف والقرى والبوادي والأطراف التي لا منفعة له فيها فقد تركها وشأنها تجتر فقرها وخشونة الحياة فيها.

والنتيجة التي أسفرت عنها هذه السياسة الاستعمارية في الوطن العربي هي ذلك التفاوت الهائل الذي بقي يتسع ويتعمق على مستوى التحديث والنمو، داخل الأقطار العربية ككيانات ودول من جهة، وبين بعضها بالمقارنة مع بعض من جهة أخرى. ويمكن للمرء أن يستحضر في ذهنه مدى هذا التفاوت الذي أقامته الظاهرة الاستعمارية في المنطقة العربية، إذا هو تذكر الحالة التي كانت عليها -عند نهاية الحرب العالمية الثانية وبدايات الاستقلالات الوطنية- كل من مصر وسوريا ولبنان والعراق من جهة، واليمن والسعودية وإمارات الخليج من جهة أخرى، في المشرق العربي، وكل من المغرب والجزائر وتونس من جهة وموريتانيا وليبيا من جهة أخرى في المغرب العربي. كما يمكن للمرء أن يدرك عمق التفاوت داخل كل قطر من هذه الأقطار إذا هو استحضر تلك الفوارق العميقة التي كانت تقوم آنذاك بين الإسكندرية والقاهرة وبين صعيد مصر، أو بين بغداد والبصرة  وبين المناطق العراقية الأخرى، أو بين بيروت ودمشق وحلب وبين بادية الشام وشرق الأردن، أو بين مثلث الدار البيضاء/القنيطرة/فاس بالمغرب وبقية الجهات الأخرى، جنوبا وشمالا وشرقا الخ…

ولم يكن هذا التفاوت يخص النواحي الاقتصادية والإدارية والعمرانية وحدها، بل كان يشمل أيضا الجوانب الثقافية والفكرية والسلوكية. وهكذا تكرست ثنائية صميمة في الوطن العربي ككل كما في كل قطر من أقطاره، ثنائية القطاع العصري والقطاع التقليدي، والنخبة العصرية والنخبة التقليدية. وترتب عن هذه الثنائية انشطار عميق في الوعي والسلوك يعم الكبار والصغار، والرجال والنساء، سواء بسواء. وعندما استقلت الأقطار العربية ورثت هذه الوضعية أو استوردتها، وأصبحت دولة الاستقلال -سواء دولة القبيلة أو دولة الحزب الوحيد أو دولة التعددية الطائفية أو دولة الديموقراطية المشوهة- مطبوعة بهذه الظاهرة، ظاهرة الازدواجية والانشطار إلى ما هو عصري وما هو تقليدي، في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والفكر.

 وإذا كانت الحكومات العربية قد عملت على تعميم مظاهر التحديث، بهذه الدرجة أو تلك، بإقرار بعض التجهيزات الأساسية على مستوى النقل والإدارة وتوفير الخدمات المجانية على صعيد التعليم والصحة، وإذا كان بعضها قد قطع أشواطا في برامج التنمية فإن الظاهرة التي بقيت سائدة هي تلك الازدواجية المتنامية المتغلغلة في جسم المجتمع والتي تعيد إنتاج نفسها باستمرار، ازدواجية زاد من خطورتها تفاقم الفوارق الاجتماعية والثقافية إلى درجة أصبح معها المجتمع العربي يحتضن عالمين: عالم الحداثة التي تحاكي وتنافس مثيلتها في أوربا وأمريكا، وعالم الموروث الاجتماعي الاقتصادي الثقافي الفكري الذي ينتمي بمجمله إلى القرون الوسطى، بل إلى المظاهر الجامدة المتزمتة في تاريخنا. وغير خاف أن كثيرا من مظاهر التطرف وأعمال العنف التي ترتكب باسم الدين أو غيره تجد دوافعها الاجتماعية الاقتصادية في هذا الظلم الاجتماعي الذي يستشري في جسم المجتمعات العربية بصورة يزيدها غياب الديمقراطية وسياسة الإقصاء والتهميش استفحالا وعمقا.

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن، بعد التذكير بهذه المعطيات، هو التالي:

هل ستساعد كل من الخوصصة والعولمة على التخفيف من وقع هذه الازدواجية والانشطار والتفاوت العريض بين الفئات والنخب -وهذا ما أصبح يشكل قوام التخلف في المجتمعات العربية- أم أنهما ستزيدان هذا النوع الجديد من التخلف استشراء وتجذرا؟

وسواء كان الجواب بالإيجاب أو بالنفي فإن طرح دور مكونات المجتمع المدني، ومن ضمنها المنظمات الأهلية -في إطار هذا السؤال وتحت إلحاحه- سيبقى أمرا مبررا ومشروعا.

سنترك جانبا دور المنظمات غير الحكومية، في حالة افتراض أن الخوصصة والعولمة ستسفران عن نتائج إيجابية لصالح التنمية والتضييق من الفوارق،  فدورها في هذه الحالة لن يختلف كثيرا عن دورها الإسعافي “التقليدي”، وبالتالي سنركز اهتمامنا هنا على الافتراض الثاني، وهو المرجح -في المدى المنظور على الأقل- أعني أن تزيد الخوصصة والعولمة وضعية الازدواجية والانشطار واتساع الفوارق، التي تحدثنا عنها، تفاقما واستفحالا. 

لنلق، إذن، نظرة خاطفة على النتائج السلبية المنتظرة لكل من الخوصصة والعولمة.

1- فيما يتعلق بالخوصصة، التي تعني تصفية القطاع العام لصالح القطاع الخاص بإلغاء  التأميمات ونزع ملكية الدولة الخ… فإن المسألة الأساسية بالنسبة لموضوعنا ليست مسألة اختيار إيديولوجي بل مسألة النتائج العملية.  إنه لا أحد يستطيع أن يجادل في فشل التجارب الاشتراكية التي عرفتها بلدان ما كان يسمى بالكتلة الشيوعية واستنسختها، بصورة أو بأخرى، أقطار عديدة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ولا أحد كذلك يستطيع أن يجادل في التقدم الذي أحرزته النظم الليبرالية في أوربا وأمريكا الشمالي، سواء على المستوى الاقتصادي أو التكنولوجي أو الحضاري العام. غير أن المسألة التي يجب أن لا تغيب عن أنظارنا واهتمامنا  هي أن فشل تجارب اشتراكية معينة لا يعني أن المشاكل الاجتماعية التي قامت الاشتراكية لالتماس حلول عادلة لها قد وجدت حلها في هذه النظم الليبرالية “الناجحة”، ولا أن تلك المشاكل آخذة في التقلص والانحسار.

فعلا، لقد تمكنت النظم الرأسمالية الليبرالية في كثير من الأقطار الغربية من التخفيف من حدة الأزمة التي كانت تهدد الرأسمالية بالانفجار في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، تمكنت من ذلك بفضل كفاحات الطبقة العاملة من جهة وتكيف الدول الليبرالية الديمقراطية مع الأزمة، من جهة أخرى، وذلك بتقديم تنازلات هامة: رفعت من الأجور وربطتها بالأسعار، وأقرت خدمات اجتماعية عميقة واسعة، سواء على مستوى التعليم والصحة والتقاعد أو على مستوى التعويض عن البطالة وتخفيض ساعات العمل الخ… غير أن هذه المكاسب والإنجازات التي تحققت في أوربا قد جرى إنجازها في إطار الدولة القومية: الدولة/الأمة: فالرأسمال رأسمال وطني والمنافسة وطنية، والعلاقات مع الخارج كانت تتم عبر الحماية الجمركية وخدمة المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في “ما وراء البحار”. هذا فضلا عن استغلال المستعمرات ونقل فائض القيمة فيها إلى “المتروبول”: مركز الدولة المستعمرة.

أما في أقطار العالم الثالث، وفي مقدمتها العالم العربي، فإن فشل التجارب الاشتراكية  فيها، ولنقل فشل القطاع العام، سواء على مستوى التسيير أو على مستوى تحقيق الأهداف، فشل محقق وأكيد. ولا أحد يشك في هذا. ومع ذلك فإن الشيء الذي يجب أن لا يغيب عن أذهاننا هو أن القطاع العام ولنقل الدولة الوطنية، في العالم  غير الرأسمالي عموما وفي العالم العربي كذلك، قد سلكت سياسة اجتماعية شبيهة بتلك التي سلكتها الدولة الليبرالية القومية في أوربا، وإن بصورة ارتجالية ومتخلفة. فمن خلال القطاع العام استطاعت الدولة الوطنية في كثير من الأقطار العربية التخفيف من وطأة البطالة وتقديم خدمات اجتماعية هامة، مثل توسيع نطاق التعليم وإقرار مجانيته وتوفير العلاج والخدمات الصحية مجانا وتوفير الدواء بأسعار مدعومة بصورة ما، فضلا عن التجهيزات الكبرى على مستوى الطرق والمعادن والفلاحة والصناعة، وإنشاء مشاريع وطنية كان من جملة أهدافها استيعاب أكثر ما يمكن من اليد العاملة.

صحيح أنه قد نتج عن ذلك تضخم هائل في عدد الموظفين والعمال مما أدى إلى ضعف المردودية والجودة الخ،وصحيح كذلك أن القطاع الخاص كان أحسن حالا في هذا المجال،مجال المردودية والجودة في بعض الحالات على الأقل. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه سؤال عميق وذو شقين: فمن جهة،ما مصير مئات الآلاف من العمال والموظفين الذين يصبحون فائضين عن الحاجة مع تصفية القطاع العام ونقل أملاكه ومؤسساته إلى القطاع الخاص؟ ومن جهة أخرى،ما مصير الخدمات الاجتماعية العامة التي كانت توفرها الدولة الوطنية صاحبة القطاع العام لجميع المواطنين،مثل تعميم التعليم ومجانيته وخدمات الصناديق الاجتماعية ودعم كثير من المواد؟

جواب واحد يتراءى في الأفق وتؤكده يوميا عملية الخوصصة نفسها: تسريح العمال بالآلاف وتقليص أو إلغاء مجالات المجانية في التعليم والصحة وغيرهما.

 هل يمكن أن نعقد الأمل على المستقبل؟ الأمل في أن تتمكن الخوصصة، والاستثمارات الأجنبية المأمول فيها، من التخفيف بشكل جدي من وقع الأزمة الاجتماعية التي نشاهدها تتفاقم وتتفاحش؟ هل  يمكن أن ننتظر من الخوصصة التخفيف من الازدواجية والانشطار اللذين يعاني منهما جسم المجتمع العربي، فتقضي ولو تدريجيا على تلك الثنائية الحادة بين العصري والتقليدي في مجتمعاتنا؟  ثم هل لنا أن نأمل في أن تعمل الخوصصة على تجسير الفجوة العميقة العريضة بين الفقراء والأغنياء في المجتمع العربي؟

 إن الجواب الذي تقدمه المعطيات العملية الراهنة هو على العكس من ذلك تماما. إنه لا يبدو أنه سيكون في مستطاع الخوصصة -في المدى المنظور على الأقل- أن تنجح فيما  فشلت فيه “الاشتراكية العربية” المزعومة. ليس في مستطاع القطاع الخاص في الأقطار العربية -على الأقل  في المدى المنظور- إيجاد حلول حقيقية ناجحة للمشاكل الاجتماعية التي فشل القطاع العام في حلها حلا جذريا. والسبب هو أن القطاع الخاص في الأقطار المسماة نامية قطاع غير متجذر، قطاع تابع لمراكز الهيمنة العالمية، فهو لا يستطيع أن ينخرط بفعالية في المنافسة الدولية، ولا يستطيع أن يقوم بذات الدور الذي قامت به الرأسمالية في أوربا. ذلك لأنه يفتقر إلى الاستقلال وإلى الدولة القومية الحامية المعينة وإلى الموارد الخارجية المساعدة الخ، وتلك هي الأسس التي قام عليها النظام الاقتصادي الليبرالي في أوربا. أما ما يقال عن بعض الجزر والدول في شرق آسيا التي تعرف اليوم قفزة في مجال “النمو” فهو أمر يحتاج إلى فحص وتدقيق: أي نوع من “النمو” هو؟ ما هي عوامله؟ وهل يمكن أن يتكرر بالصورة نفسها في جهات أخرى كالعالم العربي؟ وقبل ذلك وبعده: أي مكانة يحظى بها الشأن الإنساني في  ذلك النوع من “النمو”، الذي يبدو أنه ربيب العولمة وباكورتها؟  

2 – هنا ترتبط سلبيات الخوصصة بسلبيات العولمة بالنسبة للبلدان المسماة نامية. ومهما بالغ المرء في التفاؤل والتمسك بما قد يكون هناك من آثار إيجابية للعولمة على صعيد الاتصال والمعلومات، أو على صعيد الاستثمار والتبادل التجاري، فإنه لا يمكن أن يغض الطرف عن طبيعة العولمة وآلياتها وما تريد تحقيقه من أهداف. إن العولمة  نظام اقتصادي يقوده فاعلون اقتصاديون من نوع جديد.  لقد كان المهيمنون على الاقتصاد الحديث، منذ النهضة الأوربية إلى أواسط هذا القرن، هم أساسا مالكو رؤوس الأموال من تجار وصناعيين وغيرهم،  وقد كان نشاطهم محدودا بحدود الدولة القومية التي ينتمون إليها. أما خارج تلك الحدود فلقد كانت الدولة نفسها تتولى نيابة عنهم أو بواسطتهم التعامل التجاري مع باقي العالم. وبعبارة أخرى كان الاقتصاد محكوما بمنطق الدولة القومية، منطق “الداخل” و”الخارج”.

 أما اليوم، فإن ما يميز العولمة هو أن الفاعلية الاقتصادية فيها تقوم بها المقاولات والمجموعات المالية والصناعية الحرة -مع مساعدة دولها- وذلك عبر شركات ومؤسسات متعددة الجنسية. والغاية التي تجري إليها هي القفز على حدود “الداخل” و”الخارج” والسيطرة بالتالي على المجال الاقتصادي والمالي عالميا… وبما أن عملية التنافس والاندماج التي تحكم هذا النوع من النشاط الاقتصادي تعمل على التركيز والتقليص من عدد الفاعلين أو “اللاعبين” فإن النتيجة الحتمية هي تركز الثروة العالمية في أيدي أقلية يتناقص عدد أفرادها باستمرار. وفي هذا المجال يقدر الباحثون المختصون أن ما لا يزيد عن 15 شبكة عالمية مندمجة بهذا القدر أو ذاك هي التي تشكل الفاعل الحقيقي في مجال السيطرة على السوق العالمية، وأن أصحاب هذه الشبكة هم “السادة الفعليون” للعالم الجديد، عالم “العولمة”.

وإذن فإن أول مظاهر العولمة هو تركيز النشاط الاقتصادي على الصعيد العالمي في يد مجموعات قليلة العدد، وبالتالي تهميش الباقي أو إقصاؤه بالمرة. ومن هنا ظاهرة “التفاوت” الملازمة لظاهرة التركيز التي من هذا النوع، التفاوت بين الدول، والتفاوت داخل الدولة الواحدة.  ومن الأمثلة التي يوردها الاختصاصيون في هذا المجال لتوضيح هذه الظاهرة نقتبس ما يلي:

إن خمس دول، هي الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، تتوزع فيما بينها 172 شركة من أصل 200 من أكبر الشركات العالمية. وهذه الشركات المائتين العملاقة هي التي تسيطر عمليا على الاقتصاد العالمي، وهي ماضية في إحكام سيطرتها عليه، إذ ارتفعت استثماراتها في جميع أنحاء العالم وفي المدة ما بين 1983-1992 بوتائر سريعة جدا:  أربع مرات في مجال الإنتاج وثلاث مرات في مجال المبادلات العالمية. وفي تقرير للأمم المتحدة أن حجم مصادر الثروة النقدية لـ 358 شخصا من كبار الأثرياء في العالم يساوي حجم المصادر التي يعيش منها ملياران وثلاثمائة مليون شخص من فقراء العالم. وبعبارة أخرى إن عشرين في المائة من كبار أغنياء العالم يقتسمون فيما بينهم ثمانين في المائة من الناتج المحلي الخام على الصعيد العالمي، وأن الغنى والثروة ارتفعا بنسبة ستين في المائة في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1975-1995، غير أن المستفيدين من هذا الارتفاع الكبير في الغنى والثروة لا يتجاوز عددهم نسبة واحد في المائة من الشعب الأمريكي.

والنتيجة الاجتماعية لهذا التركيز المفرط للثروة هي تعميق الهوة بين الدول، وبين شرائح المجتمع الواحد، ليس فقط بين الطبقات بل أيضا بين الفئات داخل الطبقة الواحدة وبين الفصائل والأفراد داخل الفئة الواحدة. وهكذا -وعلى سبيل المثال فقط- فإن حاملي نفس الشهادة العلمية لا يحصلون على نفس الراتب ولا على نفس الدخل. وكذلك الشأن  بالنسبة للمنتمين إلى قطاع واحد أو عمر زمني واحد. فقد يحصل، وهذا حاصل بكثرة، أن يساوي دخل فردين أو ثلاثة من رؤساء مؤسسة بنكية مثلا ما يعادل دخل نصف العاملين  في تلك المؤسسة من الموظفين الصغار والمتوسطين. وإذا كانت هذه الظاهرة، ظاهرة اتساع الفوارق بهذه الصورة قد اعتبرت من قبل خاصية من خاصيات “التخلف” الذي تعاني منه ما يسمى بـ”البلدان النامية”، بل العالم الثالث كله، فإن الظاهرة نفسها بدأت تظهر وبحدة في البلدان المتقدمة نفسها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية لاحظ باحث أمريكي أن الطبقة المتوسطة الصغيرة هناك آخذة في التدهور إلى وضعية تجعل منها طبقة منتمية إلى “العالم الثالث”، كما أن الأغنياء الكبار، هناك، يشبهون  -بالمقارنة مع الطبقة المتوسطة تلك-   أغنياء العالم الثالث.  وهذا النوع من التفاوت الكبير،  بين الأغنياء والفقراء،  هو ما يميز “التخلف” الذي توصم به بلدان العالم الثالث إن لم يكن هو أحد أسبابه… وهذا ما ينزلق إليه الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية، حسب رأي الباحث المذكور.

ونفس الظاهرة تستشري اليوم، وبسرعة، في أوربا حيث يفرض نظام العولمة عليها، بما يقتضيه من منافسة حادة، التخفيض من التعويضات والخدمات الاجتماعية. وهذا تدبير سيعمق الفوارق الاجتماعية بصورة رهيبة، وهي فوارق قائمة أصلا وبشكل واسع. ففي فرنسا مثلا تفيد الإحصائيات أن عشرين في المائة من الفرنسيين الذين يتبوءون قمة السلم الاجتماعي يتصرفون في 43% من الدخل الوطني، بينما أن 20% من الفرنسيين المصنفين في أسفل السلم المذكور (أي الفقراء) لاينالون من الدخل الوطني سوى نسبة 6%.

 وإذن فمن النتائج المباشرة للعولمة تركيز الثروة في أيد قليلة على صعيد البلد الواحد كما على الصعيد الدولي. ومع تركيز الثروة بهذا الشكل يأتي تعميق التفاوت كنتيجة حتمية. إن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي:إنتاج أكثر ما يمكن من السلع والمصنوعات بأقل ما يمكن من العمال.إنه منطق المنافسة في إطار العولمة والخوصصة،المنطق الذي يفرض تسريح العمال والموظفين والتقليص من مناصب الشغل إلى أقصى حد ممكن.وفي هذا الصدد تطلعنا الإحصائيات على حقائق مهولة.

منها أنه في السنين العشرة الماضية عملت 500 شركة من أكبر الشركات العالمية على تسريح 400 ألف مأجور في المتوسط كل سنة، بالرغم من ارتفاع أرباحها بصورة هائلة، وذلك إلى درجة أن إحدى تلك الشركات منحت للمساهمين فيها مبلغ خمسة ملايين دولار لكل منهم، كمنحة مصدرها في الغالب تسريح العمال. وبالمثل ارتفعت أسهم إحدى الشركات بتسعة في المائة  بمجرد ما أعلنت عن قرارها بتسريح عشرة آلاف عامل.

والنتيجة التي يستخلصها الباحثون والمختصون في هذا المجال هي التالية: إذا كان النمو الاقتصادي في الماضي يخلق مناصب الشغل فإن النمو الاقتصادي في إطار العولمة والليبرالية المتوحشة يؤدي -ويتوقف على- تخفيض عدد مناصب الشغل. إن بعض القطاعات في مجال الإلكترونيات والإعلاميات والاتصال، وهي من القطاعات الأكثر رواجا في العالم،  لا تحتاج إلا إلى عدد قليل من العمال. إن التقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمة والخوصصة إلى ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتما إلى أزمات سياسية. وإذا كان هذا هو الحال في البلدان المتقدمة فإنه من المستبعد تماما أن تؤدي الخوصصة والعولمة إلى نتائج مغايرة في البلدان الأخرى المسماة “نامية”.

واضح، إذن، أن الخلاصة التي يمكن الخروج بها من المعطيات السابقة هي أن الخوصصة والعولمة ليس من شأنهما -على المدى المنظور على الأقل- تحقيق تنمية حقيقية ثابتة متجذرة، ولا التخفيف من التفاوت بين الطبقات والنخب والفئات، بل بالعكس إنهما تعملان على “تنمية التخلف”، وذلك بتوسيع وتعميق الهوة بين الفقراء والأغنياء: الفقراء يزدادون فقرا ومتوسطو الحال يعانون محنة التفقير بينما الأغنياء يزدادون غنى. والنتائج الاجتماعية السياسية والفكرية ظاهرة للعيان: إن ما يسمى في أوربا بـ “عودة الديني”، وفي العالم العربي بـ”الأصولية”،  مثلها مثل الحركات الإثنية الانفصالية، ظواهر لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا إذا أخذ في الحسبان كونها، في جانب منها على الأقل، رد فعل ضد استفحال الفوارق الاجتماعية الاقتصادية. إن ظاهرة العودة إلى الحجاب مثلا، بغض النظر عن الجانب الديني فيها، هي نوع من الاحتجاج ضد واقع اجتماعي حضاري يتطلب من الفتاة أن تستجيب لمظاهر الزينة والموضة التي أصبحت جزء لا يتجزأ من مظاهر العولمة، سواء على صعيد الاستهلاك أو على صعيد قولبة السلوك، وهي مظاهر تتطلب مبالغ مالية لا تتوافر إلا لأقلية محدودة العدد.. إن اللجوء إلى الحجاب في هذه الحالة هو نوع من “التجاوز” لمنافسة فوق الطاقة.

لنترك الحجاب الذي لاشك أن العامل الديني يقوم فيه بدور، ولننظر إلى حال الطفولة في عالم اليوم. وهنا أستسمح القارئ بأن أنقل إليه  فقرات من مقال للكاتب إدواردو غاليانو Edwardo Galiano   نشره في جريدة “لومند ديبلوماتيك” (أغسطس 1996) يصف فيه حال أطفال العالم اليوم، بأسلوب هو أقرب إلى الرثاء منه إلى أي شيء آخر! إنه يصنفهم إلى ثلاث فئات: أطفال الأغنياء، وأطفال الفقراء، وأطفال الطبقة المتوسطة.

فعن أطفال الأغنياء يقول: “في عصر العولمة يعيش أطفال الأغنياء في وضعية اللا إنتماء. يكبرون بدون جذور، لا يحملون أية هوية وطنية. وبدلا من شعورهم بالانتماء الاجتماعي تراهم ينساقون مع الاعتقاد الجازم بأن الواقع يشكل تهديدا لهم. إن وطنهم هو المنتجات والسلع ذات العلامات (أو الماركات) الرفيعة المشهورة. أما لغتهم فهي الرموز العالمية. إن الأطفال الأغنياء في المدن، التي يختلف بعضها عن بعض أكبر اختلاف، يتشابهون في عاداتهم، كما تتشابه في جميع أنحاء العالم المطارات والمراكز التجارية الكبرى المشيدة خارج الزمان والمكان. وبما أنهم يربون في عالم خيالي افتراضي فإنهم يظلون على جهل تام بالواقع الحقيقي المعيش الذي  تنحصر هويته الوجودية بالنسبة لهم في كونه إما شئ مخيف وإما سلعة تشترى، لا غير. إنهم يدربون منذ ميلادهم على الاستهلاك ويقضون طفولتهم في التأكد من أن الماكينات هي أجدر بالثقة من الأشخاص: أكلات سريعة، سيارات سريعة،حياة سريعة fast food; fast cars: fast life   (في الأصل بالإنجليزية). وعندما يبلغون السن التي ينتظرون فيها الساعة التي تُهدَى لهم فيها سيارتهم الأولى من نوع جاكوار أو ميرسديس يكونون قد تدربوا على السياقة في الطرق السيارة السبرنيتية، حيث يلعبون بأقصى السرعات على الشاشات الالكترونية، ويلتهمون بأقصى السرعات كذلك السلع التي يشترونها من المراكز التجارية..”

“وقبل أن يكف أطفال الأغنياء عن أن يكونوا أطفالا ويكتشفون المخدرات الباهظة الثمن التي تخدر وحدتهم وتستر خوفهم يكون أطفال الفقراء قد شرعوا في استنشاق “اللصقة”. وبينما يلعب الأطفال الأغنياء لعبة الحرب بواسطة قذائف أشعة الليزر،  تكون طلقات الرصاص قد اخترقت أجساد الأطفال الفقراء في الشوارع[…] وحسب الإحصائيات هناك 70 مليون طفل في حالة فقر مطلق،وعددهم يرتفع باستمرار. إن الأطفال هم أكثر رهائن “النظام” (الاقتصادي الاجتماعي السياسي) تعرضا لسوء المعاملة. إن المجتمع يقهرهم، يراقبهم ويعاقبهم، وأحيانا يقتلهم، ونادرا ما يستمع إليهم، وإذا فعل فهو لا يفهمهم. إنهم يولدون وجذورهم في الهواء. كثير منهم هم أبناء فلاحين انتزعوا انتزاعا بعنف وقسوة من الأرض ليأتوا إلى المدن حيث يهيمون غير مندمجين. إن الجوع والرصاص يختصران لهم المسافة بين المهد واللحد. من بين كل طفلين اثنين واحد يشتغل، ينهك نفسه للحصول على لقمة عيش. إنهم يبيعون أي شئ في الشوارع، ويقدمون يدا رخيصة للمصانع فيتقاضون أدنى الأجور في معامل المنتوجات الاستهلاكية كالأقمشة والأحذية التي تُصدَّرٌ إلى المتاجر الكبرى في العالم. ومع ذلك فمن بين طفلين فقيرين  نجد واحدا منهما فائضا لا حاجة للسوق به، وبالتالي لا مردودية له ولا يمكن أن تكون له في يوم من الأيام. والذي لا مردودية له لا حق له في الحياة. إن نفس النظام الاجتماعي، الذي يكره الشيوخ ويتضايق منهم، يضيق ذرعا بالأطفال. إنه ينفيهم ويخافهم. الشيخوخة، من منظور النظام الاجتماعي السائد، فشل وعجز، أما الطفولة فهي تهديد. لقد عملت هيمنة السوق في بلدان عديدة  على كسر روابط التضامن وتمزيق الانسجام الاجتماعي.  فأي مستقبل لأولئك الذين لا يملكون شيئا في دول يشكل فيها حق الملكية الحق المقدس الوحيد. إن الأطفال الفقراء يعانون بقسوة من التناقض بين ثقافة تطلب منهم أن يستهلكوا وواقع يمنعهم من ذلك. إن الجوع يجبرهم على السرقة أو على العهارة، ويكرههم في ذات الوقت على الاستهلاك. المجتمع يلعنهم، إذ يفرض عليهم ما يمنعه عنهم، فينتقمون بالهجوم عليه”. 

“وبين الذين يعيشون من لا شئ والذين يعيشون في الغنى والرفاه هناك أطفال لديهم أكثر قليلا من لا شئ وأقل كثيرا من كل شئ. إن أطفال الطبقات المتوسطة هؤلاء يحرمون من حريتهم أكثر فأكثر. إن المجتمع الذي يقدس النظام، وفي نفس الوقت يحرض على الفوضى ويغذيها، يصادر حرياتهم يوما بعد يوم. وفي هذا الزمن الذي يتميز بعدم الاستقرار الاجتماعي وبتمركز الثروة وانتشار الفقر واستفحاله، كيف يمكن للمرء أن لا يشعر بأن الأرض تفلت من تحت رجليه؟ إن الطبقة المتوسطة تعيش في جو كله تضليل وتمويه.  إنها تتظاهر بأن لديها أكثر مما عندها، وهي تعاني أكثر من أي وقت مضى في إخفاء حاجاتها وستر حالها.  إنها تعاني من الشلل الذي يتسبب فيه الرعب: الرعب من فقدان العمل، من فقدان السيارة والمنزل والأشياء الشخصية،  والرعب من عدم التمكن من الحصول على ما يجب الحصول عليه  من أجل العيش والبقاء على قيد الحياة  […] هي  تدافع عن النظام القائم كما لو كان نظامها هي، بينما هي أسيرة له. إنها تعيش في هلع، ترتعد من عدم تمكنها من أداء الكراء. وفي هذا الهلع، الهلع من الحياة والهلع من الفقر، ينشأ أبناؤها. إن أطفال الطبقة المتوسطة المأسورين في شراك الهلع محكوم عليهم أكثر فأكثر بالعيش في هوان السجن الدائم. وفي مدينة المستقبل سينظر الأطفال-المراقبون عن بعد ، بواسطة بالممرضات الإلكترونية، سينظرون من أعلى الشرفات والنوافذ إلى الشارع الممنوع النزول إليه بسبب العنف أو خوفا من العنف، الشارع الذي يجري فيه، كل يوم، مشهد الحياة الخطير دوما، المدهش أحيانا”.

لقد تعمدت الاستشهاد بهذا النص، على طوله، ليس فقط لأنه يفتح أعيننا على واقع مريض يتورم ويستفحل أمامنا دون أن نوليه ما يستحق من الاهتمام لكونه أصبح من المألوف اليومي، بل أيضا لأن هذا النص أشبه ما يكون بقصيدة شعرية نابعة من أعماق “إنسانية” الإنسان، قصيدة ترثي هذه “الإنسانية”، أعني البعد الإنساني في حياتنا المعاصرة.

على أن هذا الوصف الدرامي للهوة التي تفصل أطفال الأغنياء عن أطفال الفقراء والتي ينزلق إليها أطفال الطبقات المتوسطة، يفقد مفعوله الوجداني أمام التحدي “العقلاني” الذي وُوجِهت به قضية تشغيل الأطفال في المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية الذي انعقد  بسنغافورة في ديسمبر الماضي 1996. لقد رفضت معظم الدول المسماة “نامية” وكثير من الدول الأوربية  مناقشة قضية تشغيل 250 مليون طفل في العالم، معظمهم ما بين السادسة والرابعة عشرة. وتتلخص حجج الرافضين وهم الأغلبية العظمى، في القول: إن قضية تشغيل الأطفال من اختصاص منظمة العمل الدولية وليس من اختصاص منظمة التجارة العالمية، وإن اتخاذ إجراءات حمائية ضد تشغيل الأطفال “سيحرم الدول النامية من الميزة التجارية التي تتمتع بها وهي العمالة الرخيصة”. ومن هنا خلصوا إلى المناداة بضرورة “الفصل بين التجارة والسوق وبين معايير العمل والقيم الثقافية والاجتماعية”.

واضح أننا هنا إزاء اتجاه خطير في التفكير وفي السلوك، اتجاه يعتبر تشغيل الأطفال “ميزة تجارية” وبالتالي يكرس نظاما للعبودية جديدا، عبودية الأطفال. إن الأبحاث والتحقيقات التي أجريت في السنوات الأخيرة حول عمالة الأطفال كشفت عن حقائق مذهلة: فالأطفال لا يُشغَّلون كيد عاملة رخيصة وحسب، بل يعاملون في كثير من الجهات معاملة أقسى وأفظع من المعاملة التي كانت تميز نظام العبودية في أثينا وروما قبل خمسة وعشرين قرنا.

وإذا سارت الأمور في هذا الاتجاه وفق منطق “الفصل بين التجارة ومعايير العمل”، فإن العالم سيجد نفسه قريبا أمام أمر واقع قد اكتسب قوة العرف والقانون: أمر واقع يعطي الأولوية لمعايير التجارة ومنطق الربح على المعايير الأخلاقية والقيم الثقافية الاجتماعية، وبالتالي فلن يكون من المستبعد قط أن تُستغَل الكشوف العلمية في ميدان البيولوجيا و‎المورِّثات  للحصول على يد عاملة مكيفة بيولوجيا حسب حاجات منطق الربح والتجارة. وقد لا يتردد المنساقون وراء هذا المنطق التجاري المحض في السعي للحصول، بكيفية أخرى، على أطفال مستنسخين مزودين بالخصائص المطلوبة، جسميا وعقليا ونفسيا، أطفال روبوات، أو روبوات بشرية فاقدة لجميع أنواع الفعل ورد الفعل التي يتشكل منها ما نسميه بـ”البعد الإنساني”: في البشر.

 

لنقف عند هذه النقطة. ولنعد أدراجنا لإبراز النتائج الراهنة الملموسة لنظام الخوصصة والعولمة، أو النظام العالمي الجديد. إنها ثلاث رئيسية، سلبية تماما، تطبع هذا النظام في الوقت الحاضر على الأقل:

1- اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء اتساعا متزايدا يجعل الحياة المعاصرة في كل بلد مطبوعة بالازدواجية والانشطار اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.

2- اتساع الهوة بين أطفال الأغنياء وأطفال الفقراء وظهور جيل منقسم إلى قسمين لكل منهما عالمه الخاص، مما يجعل التواصل داخل الجيل الواحد أصعب من التواصل بين الأجيال المتعاقبة.

3- إقصاء وتغييب البعد الإنساني في النشاط التجاري والتنموي، وتكريس مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، مع جعل الربح هو الغاية الوحيدة والقيمة الأسمى.

تلك باختصار هي المعالم الرئيسية التي تفرض نفسها اليوم كسمات للنظام العالمي الجديد، نظام الخوصصة والعولمة. قد تكون هناك سمات أخرى ذات مظهر إيجابي في هذا النظام، غير أن هذا لا يعفي من العمل بكل جد وقوة ضد استشراء هذه الجوانب السلبية التي تطبع الواقع المأساوي الذي تعيشه الإنسانية اليوم وأخذت، مع الأسف، تعتاده وتألفه كما يعتاد الإنسان ويألف الأشياء اليومية المكرورة. والحق أن هذا الواقع المأساوي الذي يمس مسا خطيرا، ليس حقوق الإنسان وحسب، بل إنسانية الإنسان نفسها،  يطرح على المنظمات الأهلية ضرورة وضع نفسها موضع السؤال: ضرورة إعادة تعريف نفسها وتحديد دورها ورسم أهدافها وصياغة وسائل عملها.

لقد كان الشأن الإنساني الذي تخدمه الجمعيات الخيرية والمنظمات الأهلية من قبل، وإلى حد الآن، هو تلك الظواهر من الحياة البشرية التي تشكل استثناء : المعوقون واليتامى وضحايا الحروب والكوارث الطبيعية  الخ… أما اليوم فالأمر يختلف، فلم يعد الفقر ولا البطالة ولا الفوارق الاجتماعية ولا الطفولة المشردة ظواهر فردية أو حالات ظرفية.  كلا، إن الأمر يتعلق اليوم باتجاه عام يتغلغل في جسم المجتمع في كل مكان ويطبع نظاما عالميا بأكمله، وبالتالي فمقاومته تتطلب أكثر كثيرا من مجرد العمل على استجداء الضمائر وتحريك عواطف الشفقة والرحمة والبذل والإحسان الخ… وهي الوسيلة التي تعتمدها المنظمات الأهلية عادة.   إن مواجهة الوضع الذي أبرزنا معالمه الرئيسية تتطلب تجنيدا عاما للمجتمع المدني  للقيام بحملة واسعة من أجل ميثاق أخلاقي تعبأ كل الوسائل لإقراره وإضفاء طابع الإلزام عليه.

ونحن نعتقد أن المنظمات الأهلية (أو التطوعية أو غير الحكومية) هي المؤهلة أكثر من غيرها لقيادة هذه الحملة. إن منظمات المجتمع المدني الأخرى تخدم المجتمع من خلال خدمة مصالحها هي، ولكنها لا تستطيع، وليس من واجبها، إعطاء الأولوية للجانب الإنساني المتعالي على الجوانب المهنية والاجتماعية والسياسية التي قامت أصلا من أجلها. وحدها المنظمات الأهلية تخدم المجتمع ككل وتجعل هدفها خدمة البعد الإنساني في الحياة البشرية، دون أن تكون لها مصالح خاصة. ولذلك فهي وحدها مؤهلة لتجنيد منظمات المجتمع المدني الأخرى، قطريا ودوليا، من أجل الوقوف في وجه ذلك الاتجاه اللاإنساني الذي يطبع نظام الخوصصة والعولمة في الوقت الراهن.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فبما أن الأمر يتعلق بنظام عالمي يفرض نفسه بكل قوة السوق ووسائل الإعلام والاتصال، التي تخترق الحياة البشرية في كل مكان، فإن الوقوف ضده ومواجهته من خارجه عملية لا أظن أنها ستكون مجدية بالقدر المطلوب. ولذلك أرى أنه من الضروري العمل داخل هذا النظام نفسه واستعمال وسائله وأدواته للتأثير على مساره واتجاهه. ذلك لأنه كما تعمل العولمة على تكريس الفوارق وتعميم الفقر وتشغيل الأطفال وإعطاء الأولوية لمنطق السوق علـى معـايير العمل الخ… فإنها تتيح إلى جانب ذلك، بطبيعة منطقها ذاتها، إمكانية العمل على نطاق عالمي ضد هذه الظواهر السلبية مما يجعل في الإمكان التأثير في مسار العولمة واتجاهها. إن الأمر يتعلق بنظام (أو نسق). والنظام لا يواجه إلا بنظام آخر أقوى منه أو على الأقل مكافئ له.وعند غياب النظام المضاد  المكافئ  يصبح العمل من الداخل، ضد النظام الوحيد القائم، هو الوسيلة الوحيدة للتأثير فيه وتعديله أو تغييره.

ومن هذا المنطلق نرى أنه أصبح من الضروري اليوم إقرار إعلان عالمي لأخلاقيات العولمة والتنمية -على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان- يكون المحور الأساسي فيه حماية البعد الإنساني في كل نشاط من نشاطات العولمة، الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية والسياسية، وذلك بإقرار أولوية القيم الثقافية والحضارية على منطق التجارة والسوق في مجالات الاقتصاد والإعلام والاتصال مع جعل النزوع نحو التضييق من الفوارق وإقرار العدالة الاجتماعية من أخلاقيات النشاط الاقتصادي البشري قطريا ودوليا. وأعتقد أن من جملة المهام المستعجلة التي ينبغي أن تتجند لها كل القوى والهيئات المهتمة بالشأن تكوين لجنة دولية، من مختلف الديانات والمذاهب الفكرية، لوضع ميثاق أخلاقي عالمي تلتمس له قوة الإلزام من المنظمات الدولية الحكومية ويكون للنظام العالمي الجديد بمثابة الكابح الأخلاقي الملزم. وإذا تعزز هذا الكابح الأخلاقي بوقوف جميع منظمات المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم وراءه، وقوفا نضاليا لفرض احترامه في جميع المجالات، فإن عهدا جديدا حقا يمكن أن ينبثق من داخل نظام العولمة نفسه،   أعني من توظيف إيجابياته وآلياته للتأثير على مساره واتجاهه، وطبع غاياته وأهدافه بطابع إنساني أخلاقي ملزم.

 

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …