يشكل خطاب الوداع الذي ألقاه الرئيس الأمريكي، باراك حسين أوباما، بمدينته الأصلية شيكاغو، مادة مثالية للتأمل المعرفي في معنى السياسة بالولايات المتحدة الأمريكية. تلك المتأسسة، على “روح البطولة”، التي تعتبر السماد الدائم للوعي الأمريكي، كتجربة تنظيمية، سياسية، أخلاقية، ضمن “نظام المدينة” كما بلورته الحضارة الغربية. ولعل أهم رسالة متضمنة في ذلك الخطاب، أنها رسالة أخلاقية، مضمونها القلق على “النموذج الأمريكي” وعلى “روح الديمقراطية الأمريكية”.

الحقيقة، لابد أن نسجل بداية، على أن أوباما، قد بنى دوما استراتيجية حكمه على اعتبار “الخطاب” أداة حكم. وهو نفس الأمر الذي نجده عند عدد من قادة العالم خلال القرن 20، لعل أهمهم ويلي برانت الألماني، شارل دوغول الفرنسي، فيديل كاسترو (بتطرف أكبر) في كوبا. وفي عالمنا العربي، نجد الملك الراحل الحسن الثاني، مثالا عاليا ضمن تلك الإستراتيجية التواصلية للحكم عبر “الخطاب”. بالتالي، فإن الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، بكل ما سجل عليها من سلبيات كثيرة، وبإيجابياتها القليلة، قد عمل على الوفاء لذات استراتيجيته في الحكم، وهي مغادرة المشهد الأول العمومي بأمريكا، وبالعالم، من خلال ترك بصمة خطاب عاطفي مؤثر، بتوابل إثارة مسنودة ب “روح البطولة” التي تشكل هوية المعتقد الأمريكي.

عمليا، يعتبر الرئيس الديمقراطي أوباما، واحدا من أكثر الرؤساء الأمريكيين، الذي أخلف نسبة كبيرة من برنامج وعوده الانتخابية (ملف حقوق الإنسان داخل أمريكا، من خلال فشله في إغلاق معتقل غوانتانامو الذي هو معزل بمنطق القرون الغابرة وليس مؤسسة محكومة بروح قوانين ويلسون الشهيرة. وأيضا ارتفاع نسبة الإعتداءات العنصرية ضد السود والأقليات في فترة حكمه./ وأيضا فشل دور حكومته في العراق وسورية وفي إعادة ترتيب علاقات بلاده الإستراتيجية، أمنيا وتجاريا وماليا، مع الصين وروسيا./ دون إغفال فشله الكامل في ملف القضية الفلسطينية). لكنه، رغم كل ذلك، ظل حريصا على نسج صورة تواصلية إيجابية مع الرأي العام لبلده، معتمدا على تقنيات الخطاب وأيضا تقنيات الصورة، وغير قليل من العفوية المفكر فيها، وأيضا “الصدق العاطفي” الذي جعل منه الرئيس الأمريكي الأكثر بكاء أمام كاميرات العالم (والبكاء هنا أداة تواصلية سياسية).

إن تلك التقنية التواصلية، عبر الخطاب، المعتمدة من قبل الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، قد يفهم منها أنها متأسسة على منظومة مبادئ سامية، تسمح بترسيم المطلب الهائل لجعل السياسة مجالا لممارسة تدبير الشأن العام بقيم أخلاقية لازمة، تهب للفعل السياسي كتطوع بعدا حضاريا. لكن الحقيقة غير ذلك، مع أوباما. ولربما هنا قد يحترم المرء رئيسا جديدا مثل دونالد ترامب، لأنه على الأقل هو واضح في صلافته السياسية، ويذهب رأسا لترجمة الخطاب إلى ممارسة، رغم كل الرفض الذي قد تستثيره تلك الممارسة. وفي حالات مماثلة، فإن الإلتباس الأخلاقي الذي تخلقه ممارسة سياسية مثل التي راكمها أوباما، يجعل التحليل يذهب في اتجاه تأكيد أن النموذج الأمريكي ضمن قيم “نظام المدينة”، قائم على تابث راسخ هو مبدأ “الإثارة” و “روح البطولة”، أي يقين “المنقذ”.

إن خطاب الوداع، الأوبامي، كنص، هو مثال عن ذلك. وهنا تكمن الروح القلقة التي سكنته من أوله إلى آخره. لكنها روح أمريكية بامتياز. بدليل أن جزء مركزيا من تيمات ذلك الخطاب، قد تأسست على سؤال العنصرية، وعلى سؤال الإثنيات والأعراق (البيض/ السود/ الصينيون/ المسلمون)، وليس على سؤال صراع طبقي بين قوى الإنتاج ضمن منظومة اجتماعية لها لحمتها الحضارية. بل إنه حتى حين تحدث عن معنى لسؤال الطبقة المتوسطة، فإنه قد ربطه بما أسماه “طبقة البيض” التقليدية ضمن منظومة الإنتاج الصناعي بأمريكا. ها هنا، واضح، أن ذات القلق الهوياتي الذي تأسس عليه أصلا المجتمع الأمريكي، كمجتمع هجرات متعددة الأصول الحضارية، منذ 300 سنة، لا يزال قائما وحاضرا وقويا. والظاهر أن المجتمع الأمريكي، لم يستطع أبدا التحول إلى “هوية حضارية” بذات المعنى الذي تحقق مع تجارب إنسانية ومجتمعية في تاريخ البشرية، مثل الإغريق والرومان والفرس والعرب، حتى الآن. وروح خطاب أوباما، يقدم واحدة من الأدلة على ذلك.

إن أخطر ما يمكن أن يخلقه واقع تواصلي مماثل، هو ترسيم وترسيخ عدم الثقة في كل خطاب أمريكي، لأنه يكون خطاب لحظة استهلاكية (شو). وأنه يرسخ أيضا أمرا آخر أخطر، هو عدم الثقة في كل منظومة القيم الأخلاقية التي يعلنها ذلك الخطاب وتكذبها الممارسة. هنا يصبح فعل السياسة عنوانا للنفاق العمومي، وهذا قيميا جد خطير. بدليل أن ما سيبقى يذكره التاريخ، ليس فقط محاولة الرئيس أوباما اجتراح منظومة صحية أكثر إنصافا بأمريكا، غير إقصائية وغير تجارية وإنسانية أكثر، بل أساسا أنه قائد ليس فمه على قد ذراعه. وأكبر الأمثلة التي ستبقى شاهدة على ذلك، أنه ركب “الخطاب” مرة أخرى كآلية حكم وتواصل ذات حساب جيوستراتيجي بمنطقة الشرق الأوسط، مصرحا بخصوص المأساة السورية: “إن استعمال الأسلحة الكيماوية خط أحمر”، واستعملت تلك الأسلحة، واصطفت جتث أطفال طويلة أمام ضمير العالم، بينما بقيت جملة الرئيس أوباما مجرد خطاب. مثلما ظل مضمون خطابه الأول في برلين مجرد خطاب، وسيبقى مضمون خطابه الأخير في شيكاغو مجرد خطاب وكلمات (شو).

 

الاثنين 16 يناير 2017.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…