قدرنا في زمن التيه هذا، وانقلاب الهرم الذي نعيش تفاصيله المتردّية يوما عن يوم، زمن تتكاثر فيه النكرات وتنتشر كما الفطر العشوائي لتحاول أن تغطي على المشهد العام، وتصبح حديث المجالس، بعد خلوّ الساحة نتيجة لعفة العقلاء في السياسة، والإعلام، والثقافة، وباقي المجالات، الذين آثروا الارتكان إلى الوراء لمتابعة فصول الامتهان وعناوين النذالة و “الرذالة” بكل ألم، حتى لاتستباح مساهماتهم وكتاباتهم وإرثهم، فتوضع في نفس سلّة البيض “الخاسر”، قدرنا في ظل كل هذه العتمة التي نفقد القدرة فيها على الإبصار، أمام مشاهد البشاعة المتعددة، أن تزكم أنوفنا أيضا “جمل” مرتجلة من قاموس “الواد الحار”، حروفها “مخطوطة” بمداد الصرف الصحي، هلوسات تستحيي اللغة أن تُدثّرها بغطائها وأن تنظر إليها بعين النحو، فهي مجرد لغو وحشو قد يكون مصدرها “المصران الأعور” في شقّه البكتيري غير الصحي، بعيدا عن كل ما هو إيجابي هضميا، بعد أن يتعفّن ويصبح مصدرا للكوليرا والإسهال، لهذا لاعجب أن يكون هذا الكلام متعفّنا، نتنا، كما يمكن أن يكون برائحة الطمث ولون النجاسة وغيرهما، مادام هو لايصدر عن لبّ أصيل يمكن تقبّله حتى وإن كان هناك اختلاف مع مضامينه!
زمن اختلط فيه الإرجاع بالكلام، وأضحى بإمكان هؤلاء النكرات التفوّه، خلافا لوقت سابق كان البعض لايستطيع في صمت حتى مجرد أن يتأوه، فإذا بنا نجد بين ظهرانينا اليوم من له الصفاقة والوقاحة ليطالعنا بدون خجل بشطحاته، خربشاته، وتفاهاته هنا وهناك، محاولا من خلالها البحث عن نجومية في زمن الكسوف، فلا يدّخر جهدا للتطاول على التاريخ بعظمته، وعلى أهراماته، نساء ورجالا، ويسعى لتسفيه نضالات من أعطوا من أرواحهم وحياة أسرهم، ثمن هذا المنسوب الديمقراطي الذي نتوفّر عليه اليوم، الذي سمح للصالح والطالح أن يكونا على قدر المساواة في التعبير، وأن يمنحهما نفس الفضاء الديمقراطي للكلام، الذي أنتج لنا الفكرة، وسمح لنا أن نلامس الجدّية والالتزام في التعاطي مع قضايا الوطن والمواطنين، بالقدر الذي مكّننا بالمقابل من التمييز بين النهيق والفحيح، ضامنا حق الأفاعي والبعير والخنازير، في اللدغ ونشر الروث والتمرغ في الوحل، باسم حرية التعبير!
إنه المستنقع النتن الذي تخرّج من مدرسته عبّاد اللقمة، الذين يطبقون ما يأمرون به في إطار السخرة، فتراهم يتكلّمون تارة بالوطنية، وتارة أخرى بالديمقراطية، أو تحت مسمى الملّة، وهم لايبتغون مقابل ذلك إلا الاستفادة مما وُعدوا به من “غلّة”، هؤلاء الذين ظلوا على الدوام، باختلاف الكراكيز المستعملة، يحاولون محاربة غصّة الاتحاد الاشتراكي الكبير، كبر تاريخه ونسائه ورجاله، في وقت كانت الخرقة ملوية على كثير من هؤلاء “السنافر” إن هم وجدوا حينها، الذين وبعد استنفاذ كل أشكال الإرهاب المادي باعتماد الرصاص والقنابل والسكاكين، انتقلوا إلى التشويش بنسج الأكاذيب والأباطيل، فاختلقوا القصص والروايات للإساءة إلى مشاركة الحزب في حكومة التناوب، ثم شحذوا أسلحتهم الداعمة للانقلاب على الشرعية والمنهجية الديمقراطية، واليوم وبعد أن حفروا الحفر ولغّموا الطريق ووضعوا المتاريس سعيا لسقوط الاتحاد الاشتراكي، وبعد أن خاب مسعاهم، أصابهم السعار وهم يحاولون بأنيابهم ومخالبهم نهش الوردة التي يردونها ذابلة، بينما هي تزداد فواحا ونضارة بدماء مناضليها الزكيّة العطرة التي سُقيت بها، وبإرادة وحكمة مناضلاتها ومناضليها، وعزيمة شاباتها وشبانها، فنفثوا سمومهم أملا في ألا يشارك الاتحاد الاشتراكي في الحكومة، ونصّبوا أنفسهم حكّاما لكي لايترأس الغرفة الأولى، ودبّجوا لوائح الكبائر وحتى صكوك الاتهام بل والإدانة لكي لايتحقّق ذلك صاغوها؟
إنهم الجلادون الجدد، للدماء مصّاصون، لأقنعة الإعلام والسياسة والعمل الجمعوي والحقوقي والرأي يحملون، في صورهم يبتسمون، في كلامهم وكتاباتهم يعظون وينصحون، وقد يتبنون خطاب المظلومية ويتباكون. إنهم المنافقون والضالون، إنهم المنبوذون والتائهون، إنهم “إفرازات” المياه العادمة في انتظار أن يعالجون!