هذه ليست فزُّورة أو “حجَّاية” وليس لعبا أو تلاعبا بالكلمات، وإنما هو تقرير لواقع سياسي بئيس، ساهمت في إنتاجه عدة عوامل، منها ما هو آني ومنها ما هو منتم للماضي.
شخصيا، تحاشيت الخوض في أمور المشاورات الحكومية منذ التعيين الملكي لـ”بنكيران” إلى اليوم؛ وذلك لاعتبارات ذاتية وموضوعية. فمن جهة، لم أرد إقحام نفسي فيما لا يعنيني ولا الدخول إلى مجال له فرسانه وله أسراره ومفاتحه، وأنا بعيد عنه كل البعد؛ ومن جهة أخرى، لم تعد تستهويني الكتابة على “بنكيران”، ليس مللا فقط لكثرة ما كتبت عنه وعن زلاته التي لا تنتهي؛ بل وأيضا، لاعتقادي أنه يوجد في الموقع الخطأ، ولا أمل في إصلاح هذا الخطأ.
ويكفي أن نستحضر كيف يتحدث عن خصومه السياسيين(شرائط الفيديو متوفرة في اليوتوب) وكيف يخاطبهم وما نوع اللغة التي يستعملها والإشارات والحكايات والنكت التي تصاحبها، لندرك أن الرجل ربما أساء الاختيار وأخطأ الطريق. فربما كان مهرجان الضحك بمراكش، هو المجال الأنسب لقدراته التعبيرية، إلى جانب “جمال الدبوز” و”جاد المالح” و”عبد القادر السكتور” وغيرهم.
ومن خلال حديثه عن خصومه، نكتشف أن السياسة تنحصر عنده في ثنائية الصداقة والعداوة: “إذا لم تكن معي فأنت ضدي”، أي عدوي. وهذا “منطق” يتعارض والسلوك الديمقراطي وينزل بالسياسة إلى الحضيض ويجعل العلاقات الإنسانية تكاد تنعدم. ولم تسعفه، من أجل التأدب مع خصومه، لا أصوله الفاسية، المنسوب إليها المثل الشائع “العْدَاوة ثابتة والصْوَاب يكون”، ولا تربيته الدينية التي تحث على المعاملة الحسنة.
وبلاغ “انتهى الكلام” (الذي أقفل به باب المشاورات في وجه الأحزاب التي أعلنت عن استعدادها، بل ورغبتها، للمشاركة في الحكومة، لكن وفق تعاقد ملزم وبرنامج واضح وأغلبية قوية) يؤكد هذه الحقيقة. وهذا، بالذات، ما استفزني وجعلني أغيِّر من موقفي في شأن الكتابة على “بنكيران”؛ لكن ليس على طريقته المتناقضة التي قد تضفي على خصم الأمس(الذي تمت شيطنته) كل الصفات الملائكية إذا انتقل إلى صفه. شاهدوا، مثلا، ما قاله في حق “صلاح الدين مزوار” قبل أن يلتحق بالحكومة السابقة وما قاله عنه بعد التحاقه بها؛ وتابعوا كيف تحول “حميد شباط “من “هبيل فاس” (الذي كال له كل أصناف التهم والشتائم) إلى مثال للرجولة والشهامة، بعد أن أعلن “التوبة” والعودة إلى صفه.
وأشير إلى أن تغير موقفي من الكتابة عن “بنكيران”، لا ينبع من مآل المشاورات التي لم أعر لها كبير اهتمام؛ بل من الشعور الذي انتابني بعد بلاغ “انتهى الكلام”؛ وهو شعور ممزوج بالانشراح والألم. أما الانشراح، فمرده إلى الأنانية والرضا على النفس؛ وذلك لسبب بسيط، هو أن السيد “بنكيران” يؤكد لي، مرة أخرى، صحة ما ذهبت إليه – في مقال يعود لسنة 2013، كتبته على هامش لقاء تلفزيوني خاص- من كونه ليس رجل دولة (انظر” على هامش اللقاء الخاص مع رئيس الحكومة : حقا إن فاقد الشيء لا يعطيه “، جريدة ” الاتحاد الاشتراكي” يوم 22 – 10- 2013).
وبعد ذلك، أتت مناسبات عدة، فرض فيها هذا المعطى (غياب مواصفات رجل الدولة) نفسه حتى أصبح عندي من المسلمات، وأُذكِّر به في كل مناسبة أتحدث فيها عن “بنكيران”. وقد ختمت هذه الرحلة “الاستكتشافية” حول رئيس الحكومة المنتهية ولايته، بمقال تحت عنوان “في رئاسة الحكومة، لن يكون هناك أسوأ من بنكيران” (“خنيفرة أون لاين”، 10 أكتوبر 2016). ولن أغير رأيي فيه؛ بل، بالعكس، لقد زاد يقيني، مع بلاغ “انتهى الكلام”، بصواب حكمي عليه.
أما الشعور بالألم، فمرده إلى أشياء كثيرة؛ وليس أقلها الشعور بالعجز أمام وضع غير طبيعي وغير سليم، ترى فيه الديمقراطية تفقد معناها وتتحول إلى مجرد وسيلة وترى السياسة يتم تشويهها والتضحيات الجسام يتم تبخيسها والآمال يتم تحجيمها والمصالح الضيقة يتم تضخيمها والمصلحة العليا للوطن يتم تأجيلها…وكل ذلك، بسبب ضيق الأفق والفهم الخاطئ للديمقراطية وللعمل السياسي.
كنا نعتقد أن دستور فاتح يليوز 2011، المتقدم جدا مقارنة مع الدساتير السابقة، قد وضع حدا للكثير من أعطاب بنائنا الديمقراطي الهش. لكن التجربة أثبتت أن الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين، أي إلى رجال ونساء يضعون مصلحة الوطن ومصلحة الشعب فوق المصالح الحزبية والمصالح الشخصية الضيقة. وقد تبين أنهم قلة. فالمعضلة تكمن، إذن، في الثقافة السياسية التي أصبحت سائدة.
السيد “بنكيران” مغرور بالنتائج التي حصل عليها حزبه في الانتخابات الأخيرة ويتحكم فيه وفي حزبه منطق الغنيمة؛ وهو منطق تحكمه الانتهازية والنظرة الضيقة للديمقراطية. وينسى “بنكيران” أو يتناسى أن ولايته السابقة طبعتها، ليس فقط التراجعات على كل المستويات، بل وأيضا قرارات غير محسوبة العواقب، أثرت سلبا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي وخلقت صعوبات للبلاد. وقد سبق للاتحاد الاشتراكي أن دق ناقوس الخطر وأشار إلى أن الأمور في البلاد تسير نحو المجهول.
ونظرا لخطورة الاستمرار في نفس التدبير ونفس التصور الذي ساد في الولاية السابقة، كان لا بد من جرس إنذار؛ وهو ما فعله رئيس الدولة حين تنبيهه لرئيس الحكومة المعين وتوجيهه لما يجب فعله، تفاديا للمزيد من تدهور الأوضاع. ويعكس التنبيه الملكي لـ”بنكيران”، من خلال خطاب دكار، وعيا حادا بما يتهدد البلاد من أخطار؛ ولذلك، كان التنبيه صارما ومحددا في ضرورة تكوين حكومة ببرنامج واضح وأولويات محددة للقضايا الداخلية والخارجية؛ حكومة بكفاءات عالية قادرة على تجاوز الصعوبات التي خلفتها السنوات الماضية.
لكن، سلوك “بنكيران” وتعامله مع الفرقاء السياسيين لم يتغير إلى الأفضل؛ بل ظل يحكمه هاجس المصلحة الحزبية ومنطق الغنيمة؛ وظلت النظرة المتعالية والآمرة للحلفاء المحتملين، هي السائدة. وهو ما يدفع إلى التساؤل حول الدوافع الحقيقية لهذا السلوك. فهل هو تجاهل للتنبيه الملكي وتمسك بحرفية المنهجية الديمقراطية؟ أم هو قصور في الاستيعاب والإدراك؟ أم هي رغبة في تأزيم الوضع لحسابات ما؟…؟
وعلى كل، فتوقيفه المشاورات – ببلاغ “انتهى الكلام”، الموقع باسم الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، السيد “عبد الإله بنكيران”، والذي يترك كل المؤسسات الدستورية معطلة ومصالح البلاد والعباد مؤجلة ومعرضة للضياع- يطرح أكثر من سؤال. فهل يريد جر الملك إلى التحكيم، بعد أن تسبب لنفسه في الفشل في تشكيل الأغلبية الحكومية أم هناك أسرار أخرى؟…
ولن أترك هذه الفرصة تمر، دون أن أسجل على “بنكيران” غياب الصدق في أقواله وغياب المصداقية في أفعاله. لقد كذب على الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، الأستاذ “إدريس لشكر”، حين ادعى أنه لم يكن واضحا في موقفه من المشاركة في الحكومة أو عدمها؛ ونحن تتبعنا تصريحات الكاتب عقب اللقاءات التشاورية، وكانت أوضح من الوضوح، ما عدا إن كان السيد “بنكيران” يقصد أن “لشكر” لم يأت إليه مهرولا، مثل ما فعل البعض؛ وهذا شيء آخر؛ وما كان له حتى أن يفكر في ذلك، إن كان يعرف الاتحاديين بالفعل.
أما فيما يخص المصداقية، فسلوكه يدل على انعدامها؛ إذ كيف يسمح “بنكيران” لنفسه بالهجوم على “لشكر” والتهجم عليه، في محفل حزبي، ثم يبعث إليه السيد “نبيل بن عبد الله” للتوسط عنده من أجل الالتحاق بتحالف العدالة والتنمية والاستقلال والتقدم والاشتراكية.
وقد تلقى الجواب الذي استحقه هو ومبعوثه. لقد رفض “لشكر” استقبال “بن عبد الله” الذي عاد أدراجه. لكن الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي لم يخرج لا بتسجيل ولا بتصريح يرد فيه على “بنكيران” ويكيل له التهم، كما يفعل هو. وهنا يبرز الفرق ليس فقط بين الأشخاص، بل وأيضا بين المدارس السياسية.
الواقع، أن “بنكيران” يوجد في وضع لا يحسد عليه. لكن، لا أدري إن كان بمقدوره أن يستوعب الدرس من الورطة التي وضع نفسه فيها، وكان في غنى عنها.
الاحد 15 يناير 2017.