كيف ساهم عبد الرحيم بوعبيد في وضع معالم الاقتصاد الوطني؟
إذا كان الفقيد عبد الرحيم بوعبيد يعتبر واحدا من رواد الحركة الوطنية وواحدا من الذين جسدوا النضال من أجل الاستقلال السياسي، وأحد رموز النضال الديمقراطي والتقدمي· فإن عطاءه في المجال الاقتصادي متنوع وغني· إن كل المتتبعين لتطورات الاقتصاد المغربي منذ استقلال البلاد يعرفون أن عبد الرحيم بوعبيد مرجع لا يمكن تخطيه· فاسمه ارتبط بميلاد الدرهم المغربي وبإدخال تقنية التخطيط الاقتصادي ببلادنا وبإحداث أدوات تدخل الدولة في السياسة الاقتصادية، كما أنه يعتبر مؤسس القطاع العمومي والاقتصاد المختلط بالمغرب من أجل تمكين البلاد من أدوات السياسة الاقتصادية في مجال التنمية والضبط الاقتصاديين ويتعلق الأمر بأربع مؤسسات أساسية ظهرت كلها سنتي 1958 و1959:صندوق الإيداع والتدبير ـ البنك المغربي للتجارة الخارجية ـ البنك الوطني للإنماء الاقتصادي ـ مكتب الدراسات والمساهمات الصناعية الذي أداره محمد الحبابي..
في العشرين (20) من ماي، تم إعفاء الحكومة التي يرأسها عبد الله ابراهيم بدون مبرر مقبول. وكان التفسير الوحيد المقدم لذلك الإعفاء هو أن هذه الحكومة طال بقاؤها أكثر مما كان قد قدَّره خصومها سلفاً. وكان الفريق الحكومي، الملغم من الداخل بوزراء متواطئين مع المعارضة، من قبيل يوسف بلعباس، قد استطاع البقاء بالرغم من العديد من التقلبات والحيثيات والظروف ودام بقاؤه أزيد من 15 شهراً، وهو ما يعد رقماً قياسياً بالمقارنة مع الفرق السابقة له منذ 1956. فقد هاجمت البورجوازية المنتسبة إلى الاستقلال وثارت ثائرتها ضد الاجراءات المطبقة على مستوى الصناعة والتجارة الخارجية والعملة والقرض. كما هاجمت بورجوازية أخرى، بورجوازية الفلاحين الكبار، على غرار الاتحاد المغربي للفلاحة، الحليفة بدورها للاستقلال أو لتيارات أخرى غيره، ذلك لأن أهدافها كانت تتمثل في امتلاكها، بأي وسيلة من الوسائل، لأفضل الضيعات التي بحوزة المعمرين الأجانب. فتم تقديم الاصلاح الزراعي، الذي تبناه المخطط الخماسي 1965-1960، بالرغم من اعتداله ودقته، كما لو أنه عمل يحول الفلاحة المغربية الى نموذج سوفياتي (أو سفيتتها) بما يعني ذلك من كولخوزات وسوفخوزات. وكانت هذه البورجوازية أو تلك، مسخرة ومستخدمة من طرف الشركات الرأسمالية الفرنسية بطريقة واضحة للعيان. فكانت صحافة الاستقلال، صحافة البورجوازية الحضرية أو القروية لا تني، أحياناً بدون تمييز تردد على طول أعمدتها نفس الحجج ونفس الانتقادات التي تبلورها الصحافة الفرنسية خدمة للمصالح الرأسمالية الأجنبية. وخلاصة القول في ذلك، أن البلاد متجهة نحو الكارثة والمغرب يسير نحو إقرار نظام قريب من الشيوعية بهذا القدر أو ذاك، متنكراً بذلك لتقاليده الدينية والثقافية. وحزب الاستقلال، الذي لم يكن قد بلور لنفسه مذهباً بعدُ (إذ كان عليه انتظار 11 يناير 1962 لفعل ذلك) كان هو رأس الحربة في عملية النسف هاته، أما الحركة المسماة بالشعبية، فلن تكن أكثر من خليط من الأعيان، بلا انسجام ولا إيديولوجية، تدعي أنها تتحدث باسم العالم القروي. حتى المسكين البكاي نفسه، الذي كنت شخصياً أحترم فيه نوعاً من النزاهة، انجر إلى الدخول في جمهرة الصارخين.
وأخيراً، قامت صحيفة» لي فار»، الذي كان مديرها الظاهر هو رضى اكديرة، بتنظيم كل هذا وتنسيقه، ذلك لأنها في الواقع كانت تدار من طرف مساعدين تقنيين فرنسيين متخصصين في السجال والتدليس والتشهير. لم يكن ولي العهد، مولاي الحسن بدوره يتردد في استعمال السلطة المرتبطة باسمه وبمكانته للعمل بشكل مباشر ضد الحكومة الشرعية التي نصبها والده نفسه. فقد صرح أزيد من مرة أنه أول معارض. وكان تصرفه تصرفاً سياسوياً، بدون تحفظ, ولا أعتقد أنني أبالغ إذا ما ذكرت بأنني كنت ومساعدي هدفاً لكل هذه المعارضات، والعدو اللذوذ الذي يجب القضاء عليه. وتكفي قراءة صحافة تلك الفترة، ابتداء من 1956 وإلى حدود ماي 1960 للتأكد من ذلك. ويحق علي أن أشير إلى الموقف الموضوعي والرصين لمحمد الخامس طوال هذه الفترة. فغالبا ما كانت الفرصة تسنح لي لكي أطلب تحكيمه، بل كانت هناك مجالس للوزراء يرأسها هو تطرح فيها القضايا الخلافية. وبعد توضيح من هذا الطرف وذاك، يحسم الملك لصالح وجهة النظر التي كنت أدافع عنها، بل ويكون ولي العهد نفسه حاضراً.
لاشك أن حصيلة العمل الحكومي، طوال الفترة ما بين 1956-1959 مازال مطروحاً إنجازها، والانكباب عليها، لمصلحة ولفائدة التاريخ المعاصر لبلادنا.
بيد أن معالم الاستقلال الاقتصادي للمغرب كان قد تم وضعها في ماي 1960 أو كان يتعين استكمالها وتطويرها على ضوء العبر المستخلصة من التجربة. ففي القطاع الصناعي، تم إنشاء قطاع عمومي يلعب دور المحرك وقوة الدفع: المركب الكيماوي بآسفي، معمل الصلب والحديد بالناظور، إنشاء وحدات صناعية من أجل تركيب وصناعة الشاحنات (اتفاقية المغرب ـ بيرلي) وتركيب الجرارات وصناعتها (اتفاق لابوريي)، إنشاء وحدة صناعة العجلات (اتفاقية جنرال طاير) صناعة مركب للوحدات النسيجية (منها وحدة كوفيطس بفاس) إنشاء محطة لتكرير النفط بالمحمدية (سامير)، والتي كانت ربما أول محطة للتكرير في بلد من العالم الثالث (اتفاقية ماطيي) اتفاقية في طور الإعداد لتركيب وصناعة السيارات (سوماكا)، إصدار ظهير منظم للبحث واستغلال باطن الأرض، تأميم مناجم جرادة، تأميم الشركة الشريفة للبترول إلخ. وكان مكتب الدراسات والمساهمات الصناعية هو الذي تكلف بالدراسات والسهر على التنفيذ المادي، ولاسيما ما يخص التمويل وتكوين الأطر المغربية. في القطاع التجاري: تنويع الصادرات والتراجع الواضح لتبعيتنا إزاء سوق منطقة الفرنك (انتقلنا من 80% إلى 40%)، تأميم استيراد الشاي والسكر (المكتب الوطني للشاي والسكر) بدء العمل بتعريفة جمركية جديدة مع التوجه نحو حماية منتوجاتنا الوطنية. في قطاع القروض والعملة: تأميم ـ بدون تعويض ـ لمؤسسة الإصدار (بنك المغرب) إنشاء بنك وطني للتنمية الاقتصادية مخصص لتمويل المشاريع الصناعية الواردة في المخطط الخماسي، إنشاء بنك للتجارة الخارجية من أجل تشجيع صادراتنا والسهر على تنفيذ تنويع صادراتنا نحو أسواق جديدة، خروج المغرب من منطقة الفرنك وإنشاء العملة الوطنية الجديدة (الدرهم)، حيث أن احتياطتنا الخاصة من العملة الأجنبية كانت تسمح لنا، في سنة 1960 بالصمود لمدة ستة أشهر. إنشاء الصندوق الوطني للإيداع والتدبير المخصص لجلب جزء كبير من الادخار وتوجيه ما تراكم نحو القطاعات المنتجة المنصوص عليها في المخطط الخماسي. في قطاع الإنتاج الفلاحي: الاصلاح الزراعي عبر استعادة أراضي المعمرين (مليون هكتار) وأراضي الملك العقاري والحبوس (حوالي مليون هكتار) وخلق وحدات التعاون والإنتاج، انطلاقاً من الأراضي الجماعية بمساعدة مالية وتقنية من الدولة، تطوير القطاعات المسقية بهدف الوصول الى مليون هكتار مسقية (المكتب الوطني للسقي). ولأول مرة، ثبت أن الشمندر مادة ذات مردودية، ومن هنا جاء مشروع إنشاء وحدات للتكرير والتصفية. ومن أجل وضع حد للمضاربات المحمومة حول أراضي المعمرين، تم إصدار ظهير يمنع، في غياب ترخيص مسبق من الحكومة أي عملية عقارية بين شخص مغربي وشريك متعاقد أجنبي. إعداد المخطط الخماسي لسنة 1965/1960، بعد سنتين من الدراسات في مختلف اللجن التي تضم ممثلين عن الأجراء (الاتحاد المغربي للشغل) والفلاحين وغرف الصناعة والتجارة. وقد اتخذت التوجهات الكبرى بأهداف محددة لكل قطاع من القطاعات. أما على مستوى التربية، فقد حددت نسبة مائوية دنيا للتمدرس سنوياً، تفضي بعد 5 سنوات إلى تمدرس 60% من الأطفال.. إلخ.
مقتطف من الدفتر الثالث لمذكرات عبد الرحيم بوعبيد
كيف ردع عبد الرحيم بوعبيد نفوذ الفرنسيين في المكتب الشريف للفوسفاط
عبد الرحيم كان المهندس لإصلاحات حكومة المرحوم عبد الله ابراهيم. هذه الاصلاحات التي عاش المغرب عليها لمدة طويلة، بل إنه لا يزال يعيش على بعض تلك المنجزات إلى اليوم وهو ما جعل تلك الحكومة ورغم قصر مدتها تعتبر في نظر المتتبعين للشأن المغربي من أنجح الحكومات المغربية (قبلها وبعدها) بل ومن أنجح الحكومات في تلك المرحلة على المستوى العربي والافريقي والعالم الثالث بصفة عامة. فلو تمكن عبد الرحيم وأصدقاؤه من انجاز التصميم الخماسي الذي شرعوا في تطبيقه ، لكان للمغرب وجه آخر غير ذلك الوجه الذي عبر عنه المرحوم الحسن الثاني قبل حكومة التناوب 1998، بمغرب (السكتة القلبية).
عبد الرحيم قاد هذه الحركة، معركة الاصلاح تلك، وسط مقاومات متعددة داخلية (تحالف الاقطاع، الرجعية، عملاء الاستعمار وأبناؤهم) والاستعمار الجديد. وأقف على مثل واحد له دلالته، ويتعلق بالمكتب الشريف للفوسفاط، هذه المؤسسة التي كانت كل أطرها وتقنييها من الاجانب (الفرنسيون) حيث حاول هؤلاء محاربة السياسة التحررية التي قادها المرحوم السي عبد الرحيم بوعبيد، خصوصا ما يتعلق منها بإخراج المغرب من دائرة نفوذ الفرنك الفرنسي. وللوقوف على ما كان يجري بهذه المؤسسة الاقتصادية (كما حكى لي الأخ محمد الحبابي) أرسل وزير الاقتصاد أحد أعضاء ديوانه ويتعلق الامر بالسيد كريم العمراني (الشاب الحامل لشهادة الباكالوريا آنذاك والذي كان يتقاضي راتبا لا يتجاوز 150,000 فرنك أي ما يعادل 1500 درهم، والذي كان يتوفر كما قال لي السي محمد الحبابي، على كل مؤهلات رجل الأعمال)، الذي بعد أن قضى فترة بمؤسسة الفوسفاط، رجع بتقرير شامل حول ما يجري هناك. درس وزير الاقتصاد ومساعدوه التقرير فتأكدوا أن هناك عملية «سابوطاج» حقيقية يقوم بها هؤلاء الاجانب، فكان القرار الحاسم، والذي يتضمن: 1 – الاستغناء عن خدمات هؤلاء المهندسين والتقنيين والاطر الفرنسية. 2 – تعليق عمل الانتاج بهذه المؤسسة لمدة شهرين 3 – اللجوء إلى أوربا الشرقية للاستعانة بأطرها وتقنييها في انتظار تأهيل أطر مغربية.
هذا الموقف الحازم جعل أعضاء السفارة الفرنسية، وعلى رأسهم السفير يقودون حملة من الاعتذارات عما صدر عن التقنيين الفرنسيين بالمكتب الشريف للفوسفاط ويلتزمون بعدم تكرار ذلك. إن قرار اقالة حكومة عبد الله ابراهيم رغم منجزاتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية الكبيرة، جعل السي عبد الرحيم يعطي الاسبقية للاصلاحات السياسية والدستورية ..