لم يخطر في بال عبد الرحمن الكواكبي حين كتب “طبائع الاستبداد ومصارع العباد” أن مدينته حلب ستشهد، بعد مائة عام ونيف من وفاته، ما تشهده اليوم، وأن نساءها وأطفالها سيموتون تحت الأنقاض دون مغيث، وأن العالم كله، المتحضر منه والمتخلف، سيلتزم الصمت أمام دمارها وموت أهلها.
لكن ما وضعه الكواكبي في كتابه هو بمثابة قواعد، لا تخص مستبدا بعينه، بل تنطبق على الاستبداد أينما حل، وهو وإن لم يتنبأ بمأساة سوريا بشكل عام، لكنه وصّف بدقة ما يجره الاستبداد من أهوال على مجتمعه، حتى أن القارىء يشتبه بكون الكواكبي يعيش بيننا اليوم ويراقب عن كثب ما يحدث ويسجل ملاحظاته، وإن أردنا الإنصاف نقول وكأنه كان وما زال بيننا منذ العصر الأموي وحتى اليوم، إذا اعتبرنا أن العصر الراشدي كان بداية عودة التاريخ إلى خط سيره الطبيعي، بعد الطفرة التي أحدثتها نبوة محمد (ص)، إذ بدأت محاولة الاستفراد بالحكم منذ سقيفة بني ساعدة، وصولاً إلى العصر العباسي حيث تبلور الإسلام الذي نراه اليوم، الذي يكرس مفهوم الراعي والرعية، ووصل بنا إلى ما نحن عليه، حتى ما زال بعضنا يصفق للراعي والمستعمر الذي استعان به، والبعض الآخر يصفق لراع آخر يرعاه باسم الله فيقاتل تحت رايته زوراً، وتنفذ الأمم لعبتها في ديارنا فوق أجساد من لا حول لهم ولا قوة، فما نراه هو نتيجة طبيعية لعصور من الخنوع، استكانت الشعوب خلالها للظلم والاستعباد، وفي الحالة السورية ما إن حاول الشعب بناء دولة مدنية بعد خروج المستعمر الفرنسي، حتى عاد ليستكين للطغيان مرة أخرى، إلى أن انفجر مرة واحدة، كبركان تحرق حممه كل ما حوله.
ولا يجحف الكواكبي حين يقول “الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني، ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله، ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد، تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ”، فالثقافة الإسلامية الموروثة لم تكتف بأن فرضت على الفرد ديناً مشوهاً، وقدمت إلهاً مزاجياً يعد على الناس عثراتهم، ولا يمكن إرضائه، ويكره الإناث حتى أنه سيملأ جهنم منهم ، إضافة لكرهه للموسيقى والغناء والرسم والنحت، بل فرضت أيضاً طاعة أولي الأمر طاعة عمياء، أحياء كانوا أم أموات، وطاعة هاماناتهم المفوضين من الله والموقعين باسمه، وقسمت الناس إلى مسلمين وهم قلة لا يشكلون أكثر من عشرين بالمائة من سكان الأرض، في أفضل الأحوال، وكافرين سيذهبون إلى جهنم مهما فعلوا، ومن المسلمين هناك فرقة واحدة من بين ثلاث وسبعين هي الفرقة الناجية فقط، لذلك تجدنا نحن كمسلمين، بالمعنى المتعارف عليه، وقد ذهبت ريحنا على مر العصور، لقمة سائغة في يد كل من يريد أن يستبد بنا.
والأنكى من ذلك أن اعتماد إسلام العصر العباسي بدلاً من إسلام التنزيل الحكيم، جعلنا نبعد جانباً العقل النقدي لصالح العقل التراثي المعتمد على النقل والعنعنة، وبدلاً من “قال تعالى”، اعتمدنا على “قال فلان عن فلان”، مما أنتج ثقافة إسلامية مكررة، تحتاج لنموذج تقيس عليه، ولا يمكنها الخروج عنه، وبالتالي أصبحت العلوم بالنسبة لنا هي العلوم الدينية، وانحدر الاهتمام بباقي العلوم حتى كاد أن ينعدم، وأصبحنا ندور في حلقة مفرغة، الجهل يولد الاستبداد، والاستبداد يغذي الجهل، ولا عجب إن لم نجد في عالمنا العربي عالماً واحداً، بينما يبرز المتميزون منا في بيئات أخرى مغايرة لتلك التي نشأوا فيها، وهذا ما قال عنه الكواكبي: “ما انتشر نور العلم في أمةٍ قطّ إلا وتكسَّرت فيها قيود الأسر، وساء مصير المستبدّين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين”.
قد يقول قائل: “وهل الإسلام مسؤول عن دمار حلب؟” أقول معركة حلب ومعركة سورية كلها أصبحت مسؤولية الدول العظمى، وهذه الدول وصغرى غيرها كلها تبحث عن مصالحها في دمار بلدنا، وتصفي حساباتها، دون أي رحمة، سيما وأن اللاعب الأكبر هو من يحمل إيديولوجية الاتحاد السوفيتي القائمة على مبدأ “بإمكانك فعل كل شيء في سبيل السلطة”، لكن ما يجري هو نتيجة لمقدمات عديدة، وما يحز في النفس أن هذه الأجيال تدفع ثمن أغلاطنا وأغلاط من سبقونا، وإن كان لا بد من كل هذه التضحيات، فلتكن مقابل تغيير شامل، لا لتكرس الاستبداد إلى الأبد، ولا لتستبدله بآخر يشبهه بلبوس ديني، مهما اختلفت التسمية والراية، سواء “لبيك يا حسين” أم داعش أم نصرة أم فتح الشام أم جيش الفتح، بل لتكون مداداً لعقد اجتماعي يوضح العلاقة بين الوطن والمواطنة، ويحدد الحقوق والواجبات، في وطن يفترض أن يتساوى فيه جميع أفراده، على اختلاف مللهم ومعتقداتهم وألوانهم وجنسهم، في ظل دولة مدنية تعتمد القيم الإنسانية كمرجعية أخلاقية، هذه القيم التي يتفق عليها كل أهل الأرض، وتمثل الإسلام بطابعه الشامل للناس جميعاً، مع إمكانية ممارستهم لشعائرهم بكل حرية واحترام، دون أن يتدخل أحد بعلاقتهم الخاصة مع الله، فهو وحده من يتولى الحساب يوم القيامة، وهو وحده من بيده مفاتيح الجنة، وسنته في الحياة هي الاختلاف، وكما قال الكواكبي: “يا قوم: وأريد بكم شباب اليوم؛ رجال الغد، شباب الفكر؛ رجال الجد، أُعيذكم من الخزي والخذلان بتفرقة الأديان، وأُعيذكم من الجهل، جهل أنَّ الدينونة لله، وهو سبحانه وليُّ السرائر والضمائر {ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمّةً واحدة}“.
وإذا كنا نريد الخروج من القوقعة التي نحن فيها، علينا العيش في هذا العصر، لا في العصر الثامن الميلادي، فأزمة العقل العربي هي أزمة نص، والتنزيل الحكيم هو هذا النص، وهو من حي لأحياء، لا يمكن أن يخاطب الناس بمنطق ألف وأربعمائة عام إلى الوراء، وإن كان غيرنا قد تفاعل مع هذا النص وفق أرضيته المعرفية، علينا أيضاً أن نتفاعل معه بعيون العصر، آخذين بالاعتبار أن كل ما عداه، باستثناء ما يخص الشعائر والأخلاق، تنطبق عليه قاعدة “تتغير الأحكام بتغير الأزمان”، فأزمتنا لم تكن يوماً أزمة إقامة صلاة أو صوم رمضان، بل هي أزمة فكرية وأخلاقية قبل غيرها، بدلت الأولويات، وعوضاً عن وعي أن الحرية في التنزيل الحكيم هي القيمة العليا وهي كلمة الله التي سبقت لكل أهل الأرض، تغنينا بقيم المجتمع العربي كالكرم والشرف والمرؤة، وهي على سموها مصطلحات محلية، فالشرف عندنا محصور بنساء العائلة، فيما شرف الياباني في مدى التزامه بعمله، وقزّمنا الإسلام من دين كوني {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (الرعد 15) إلى دين محلي القيمة العليا فيه لحجاب المرأة.
قد يكون الدرب طويلاً، لكن حلب التي دمرت مرات عدة في تاريخها الموغل في القدم، قامت في كل مرة واستعادت ألقها، ولا يسعني إلا أن أستشهد أخيراً بقول ابنها الكواكبي: “إنَّ الوسيلة الوحيدة الفعّالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقّي الأمَّة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. ثمَّ إنَّ اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفه، لا يتأتّى إلا في زمنٍ طويل”.