في مناسبات عديدة، قلنا أشياء وأمور كثيرة عن أبو الوليد ابن رشد، بطريقة تريح ذواتنا، تشعرنا بالانتماء إليه، شيء منا يبحث على إثبات انه موجود ومهم كلما دار الحديث عن ابن رشد.
نحاور ونواجه الشرق العربي بكون ابن رشد من المغرب العربي أو الإسلامي، نفتخر به كفيلسوف ونابغة فكرية، كمسلم مجتهد، فهو فقيه وفيلسوف وطبيب…
يزيد فخرنا كلما ذكره مفكر أو فيلسوف غربي، أوربيا كان أو أمريكيا.
لكن، اليوم هل يحق لنا أن ننسبه إلينا كمغاربة؟
فكريا طبعا، هل ابن رشد اليوم، هو إنسان مغربي؟
بمعنى آخر، لو افترضنا أن أبا الوليد، بعث للحياة وسطنا، فهل سينسب نفسه إلينا.
المقصود بالسؤال، هو استحضار ما كان عليه الرجل ومقارنته بما نحن عليه اليوم.
لا نجد، فيلسوفا او مفكرا أو فقيها عايش الرجل وذكره بسوء أو كتب عنه بطريقة سلبية لا أحد.الذين تكلموا عنه او ترجموا له إنما يذكرونه بالخير أو يرفضون بعض من مواقفه في إطار رفضهم للحكمة، لعلوم الاوائل بالجملة لكن مع الاحترام التام للرجل.
كان الرجل محترما من خصومه قبل أصدقائه لسبب بسيط، وهو أنه كان صاحب سلوك مقبول عند الجميع.
لقد جعل الجميع يحترمه، كان فيلسوفا حقيقة: ” الفضيلة علم والرذيلة جهل” في شخصه اقترن العلم بالفضيلة، ليكون العلم حكمة وهو حكيما بالفعل لا بالقوة. عاش الرجل في بلاط الخلفاء والأمراء منذ مراحل شبابه الأولى، لكنه بقي إنسان رجلاه على الأرض كما يقولون.
كان من المقدمين في حاشية أبي يعقوب يوسف وكذلك يعقوب المنصور، يجمع الكل على ان الرجل لم يجمع مالا ولا ضيعات ولا بساتين وكان يعنى بشؤون بلده أكثر من عنايته بشؤونه الخاصة.
لنتصور رجلا كان قاضيا وطبيبا للخليفة وقاضي قضاته ولم يجمع مالا ولا أراضي بل قيل عنه بأنه كان “رث الثياب” طبعا هذا الوصف “رث” كان في غير محله، القصد منه هو جرح الرجل، كان شخصا عاديا، لا يهتم بالزينة والتباهي باللباس. كثيرا ما قال الفقهاء وآخرون، بأنه كان يروم التوفيق بين الدين والفلسفة وهذا غير صحيح، إن ابن رشد يمكن اعتباره بحق مكتشف أو مدشن الاكسيوماتيك في تاريخ البشرية والدليل هو ان الرجل كان يعتبر الشريعة بناء والطبيعة أو الفلسفة بناء آخر، لا يجوز ولا يمكن الحديث على ما يخص هذا من داخل ذلك وعكس صحيح.
بناءان منفردان قائمان بذاتهما، أين هو إذا التقريب أو التوفيق؟ هذه النظرة هي مواصلة والترسيخ ما جاء به ابن طفيل في رائعته الفلسفية حي بن يقضان.
كان لا يتكلم أو يناقش أمرا إلا وضعه داخل البنيان الذي ينتمي إليه مستعملا أدواته ومفاهيمه الخاصة به.
الاكسيوماتيك ينتمي الى علم الرياضيات وهذا ليس بغريب على ابن رشد صاحب المدرسة العقلية، الإفحامبالحجة والدليل أو الدليل المضاد كانت هي عين طريقته، لقد رد على الفقهاء الذين كانوا يمنعون الناس من النظر والاهتمام بكتب الفلسفة بقوله : ” قد يشرق الإنسان بالماء فيموت، فهل نمنع الماء عن الناس جميعا” وبالمقابل كان يطلب من الذي يريد النظر في كتب الفلسفة، خمسة خصال وشروط:
1-ان يكون فائق الفطرة
2-أن يتعلم على ترتيب (الرياضيات ثم المنطق ثم الطبيعيات ثم ما وراء الطبيعة وأخيرا الإلهيات)
3-العدالة الشرعية (أي الأمانة العلمية)
4-صاحب فضيلة علمية
5-صاحب فضيلة خلقية
هذه الخصال تعطي معنى حقيقي للحكمة، معرفة الأسباب ليس الفاعلة فقط بل والغائية فالحكمة عنده هي كل ما له معنى عقلي ويصدر عن قصد أخلاقي.
ولهذا كان يضع ابن رشد قواعد للحوار مطلوب الالتزام بها من أجل تحقيق الحد الأدنى من التواصل والتفاهم، هذه القواعد هي:
1-تجنب التشويش على رأي الآخر من أجل التشويش. فالغزالي حينما قال في كتابه : ” تهافت الفلاسفة ” إنما غرضنا أن نشوش عليهم أي الفلاسفة وقد حصل رد عليه ابن رشد بوضوح شديد ” لا يليق هذا الغرض به –أي الغزالي- وهي هفوة من هفوات العلماء ، فإن العالم بما هو عالم إنما قصده طلب الحق لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول”.
2-الاجتهاد في فهم آراء الخصم ضمن مرجعتيها والتزام العدل والنزاهة.
3-عدم التنكر لما يستفيد الإنسان من الآراء الأخرى.
4-الخطأ من طبيعة البشر والإنسان غير معصوم.
5-التزام الأمانة العلمية.
أين نحن من هذه الأخلاق في حواراتنا وحياتنا؟
اليوم نرى زعماء متعطشين إلى جمع المال ثم المال يرخصون للأجيال الصاعدة بالتهافت على جمعه والاهتمام فقط بالشؤون الشخصية، زعماء ليست لهم الشجاعة الأدبية للاعتراف بأخطائهم وعيوبهم لا ينصتون لأحد، إذا كان هذا حال زعماء فما بالك بالآخرين.