«الفلسفة أس السفه والإنحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة. ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالبراهين. ومن تلبس بها قارنه الخدلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان وأظلم قلبه عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم».. هذا الكلام، موجود في كتاب للتربية الإسلامية (الصفحة 83)، ليس بمدينة الموصل العراقية، بل إنه بالمغرب، وتحديدا بالمقرر الرسمي للتربية الإسلامية «منار» الخاص بالسنة أولى باكالوريا. وهو المقرر الذي تأخر كثيرا، مما خلق مشكلا تربويا في تلك المادة عند التلاميذ، كونهم تأخروا كثيرا في تلقي دروسها، هم المطالبون بالإمتحان فيها في نهاية السنة كمادة أساسية.
هذا النص خطير جدا، لأنه يعود إلى واحدة من أشد مراحل التخلف الفكري في العالم العربي، الذي لا تزال تحييه عدد من المذاهب المشرقية الخليجية. وهو في الأصل فتوى حول المنطق والفلسفة، أطلقها إسم مغمور في مجال الدراسات الفقهية بالعالم العربي، ينحدر من مدينة الموصل بالعراق، إسمه «تقي الدين الموصلي ابن الصلاح»، شافعي المذهب، وعاش في القرن 13 الميلادي ودفن بدمشق. وهو ينهي فتواه، التي تحرج من ألف كتاب «منار للتربية الإسلامية» من إتمامها في النص الموضوع بالصفحة 83، بالقول «فالواجب على السلطان أعزه الله، أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم ويخرجهم من المدارس ويبعدهم».
إن المقلق أكثر في النص، كما جاء في سياق المقرر الدراسي، أنه لا يقدم ضمن أفق نقدي تحليلي، بل إنه يقدم ضمن خانة التبني، وخانة الحقيقة التربوية العلمية. وهذا أمر خطير جدا، يسائل الجهات المسؤولة عن المسارات التربوية بوزارة التربية والتعليم، كيف سمحت لرؤية تربوية مماثلة أن تتسلل إلى مقرر مدرسي تربوي هام مماثل، موجه لفئة من التلاميذ، بلغوا مرحلة من العمر تتميز بتفتح ملكات السؤال المعرفي والوجودي والقيمي، عندهم، بشكل ناضج.
وأنها واحدة من أشد وأصعب مراحل التكوين عمريا، التي تبنى فيها شخصية الإنسان قيميا ورؤيويا. وأنه تأسيسا على ذلك، ليس اعتباطيا اختيار نص مماثل في ذلك المقرر بالضبط، ليقدم كحقيقة مطلقة وكحكم نهائي ناجز حول الفلسفة والفكر والمنطق وكل تحليل عقلاني. وأنه لا يقدم ضمن أفق تحليلي نقدي لنص فتوى أفرزها واقع عربي في مرحلة من المراحل، كان لها أسباب تبلور ذلك التوجه الفكري ضمن سياقات تاريخية خاصة. بل إنه يقدم كموقف سياسي في نهاية المطاف تربويا. وهنا مسؤولية الدولة المغربية كاملة، عبر وزارة التربية الوطنية، في فتح باب للإنغلاق الفكري تربويا، تخاصم حتى التوجه المذهبي الرسمي للدولة المغربية، الذي هو توجه مالكي أشعري على طريقة الجنيد.
إن سحب هذا المقرر المدرسي أمر مستعجل، انتصارا للأمن الروحي والمعرفي للشبيبة المغربية. لأنه نص يقدم بدون أية محاذير تحليلية نقدية، تفسر سياقات النص والفتوى، وتناقشها بمنطق القرن 21، وتضعها تحليليا ضمن سياقاتها الإجتماعية التي أفرزتها في القرن 13، مما يعزز من قدرة التلاميذ والناشئة المغربية، على تمثل تاريخهم المعرفي والفقهي، كصيرورة تاريخية، وليس كحقيقة مطلقة ناجزة تصدر الأحكام الإطلاقية، وتلغي العقل وتفتح الباب للإنغلاقية والتطرف والتشدد. إن الغاية، هي أن نعلم أبناءنا أن لا يخافوا من ذاكرتهم وماضيهم وتراثهم، بل أن ينفتحوا عليه ويدرسوه ويناقشوه ويتمثلوا حقيقته كمنجز إنساني في التاريخ. وأن لا يقدسوه كشئ نهائي لا يقبل المساءلة والتحليل، واجتهاد فقيه مغمور مثل ابن الصلاح، ليس نصا تراثيا مقدسا.
إن الغاية من مقاربة مماثلة، نقدية لنصوص فقهية مماثلة، هي جعلها أداة تربوية لتسليح التلاميذ المغاربة، بالقدرة على التحليل والقراءة المحللة الناقدة. تلك التي تقوي من ممكنات امتلاك الشخصية العلمية العقلانية، المنسبة للحقائق، من خلال امتلاك مكرمة وضع كل المواقف ضمن سياقاتها التاريخية والمصالحية وغاياتها التربوية. أما الشكل الذي أنجزه أصحاب مقرر «منار للتربية الإسلامية» فهو للأسف غير تربوي ولا بيداغوجي، بل هو يحركه أكثر منطق سياسوي ضيق آني، ويخشى أن لا يكون محكوما سوى بهاجس تجاري محض، يحاول الركوب على موجة خطاب سياسي ديني، لتحقيق أرباح عابرة على حساب هوية شبيبتنا المغربية الروحية والمعرفية.
إن المدرسة الفقهية المغربية في خطر من نص مماثل ومن مقرر مدرسي مماثل. لأنه يفرخ عبر القفز على مبحث أكاديمي رصين مثل الفلسفة، ممكنات انسلاخ هوياتي، غايته تحقيق اختراق على المدى البعيد لوحدة المذهب المغربية المتأصلة، التي ظلت تعتبر السند الصلب الذي حمى دوما الخصوصية المغربية سياسيا واجتماعيا وحضاريا. فالفلسفة ليست أبدا أسا للسفه والإنحلال، بل هي مجال معرفي للإجتهاد والتحليل، لا أقل ولا أكثر. ميزتها أنها جدالية عقلانية متأسسة على تراتبية منطقية للأسباب والنتائج، وأنها أداة بيداغوجية لشحذ الرؤية النقدية في الفرد، في مجمل وجوده ككائن حي عاقل. وأنها ليست أكثر من باب معرفية متصالحة مع روح النص القرآني الممجد للعقل، الذي كرم به الله بني الإنسان بين باقي الكائنات الحية.
على الدولة، وليس فقط وزارة التربية الوطنية، أن تتدخل لمعالجة هذه الزلة المعرفية التربوية، لأن هذا المقرر المدرسي يهدم واحدا من أسس الدولة المغربية الراسخة، المتأسسة على وحدة المذهب المالكي الوسطي. فالأمر ليس مجرد هجوم بئيس على الفلسفة، بل إنه اختراق سياسي مشرقي ليس هناك مجال أبدا ليخلق له مكانا في تربتنا المغربية.