تأرجح علاقة السياسي بالديني بين التوظيف والمحاربة.

هدف هذه المقالة ليس إعطاء القارئ نظرة عن سبينوزا وفلسفته، بل التفكير من جهة في الكيفية التي استطاع بها هذا الشاب النحيف الاعزل أن يفكك بل قال أن  يفجر من الأساس تلك الأسفار التي يتخذها العبرانيون كحقيقة مقدسة نزلت من عند إله ” يهوه” والتي لا تسمح أبدا لأي كان ان يوظف عقله خارج حقائق التوراة.

ومن جهة أخرى، لنرى ما هو حكم تراكمات علوم الأنثروبولوجياوالاركيولوجية وأيضا نتائج جل المحاولات التي استهدفت ايجاد الاصول التاريخية للشعب الاسرائيلي، هذه النتائج العلمية والمعاصرة سنتخذها كوثائق مؤسسة لملف المرافعة التي سنقوم بها من أجل احباط الحكر الابتدائي الذي أصدر جورا وتطرفا على سبينوزافي محنته ومحاكمته من طرف المجلس الملي اليهودي، سنقوم بهذا ونحن على بعد زنمي يقارب أويربونيفا على ثلاثة قرون ونصف القرن على أحداث هذه القضية.

لنتعرف بادئ ذي بدء على الضحية ” باروخسبينوزا” : ولد باستردام من أسرة يهودية سنة 1632، وأراد والده أن يصير سبينوزا حاخاما، فتلقى  اللغة العبرية والتوراة والتلمود والفلسفة اليهودية للعصر الوسيط وصناعة صقل زجاج النظارات لما كان مقررا من أن يتعلم الحاخام صناعة يدوية.

كان سبينوزا شابا هادئا جدا، ولكن كان في نفسه هما وكربا واستدعي أمام كبار رجال الكنيس اليهودي سنة 1656 بتهمة الهرطقة أو الضلال الديني.

ولم يكن لكبار رجال الكنيس اليهودي أن يحاكموا ويضايقوا ثم يحاولوا اغتيال شاب في الرابعة والعشرين من العمر لو لم يكن لهذا الأخير حجج دامغة تجعل أسفار العهد القديم تهوي كبنيان من ورق.

 لا ندري ما هي الأسئلة التي طرحت على سبينوزا  ولا أجوبته ولكن يمكن التخمين على أنها كانت من نوع:

* أصحيح ما تقول، أن التوراة القديمة تأليف وتلفيق؟

وحسب الطريقة المتبعة في الحرمان من الكنيس، كان يسمع أثناء قراءة اللعنة صوت بوق كبير يرسل نغمات نائحة من وقت لآخر، وكانت الأضواء ترى قوية ناصعة مع بدء المحاكمة ثم تخبوا الواحدة تلو الأخرى كلما تقدمت المحاكمة إلى أن خبت كلها من الضوء إشارة إلى انطفاء الحياة الروحية في شخص سبينوزا، وبعد ذلك خرج أعضاء الكنيس وأعلن رؤساء  المجلس الملي اليهودي باسم التوراة والملائكة والإله ” يهوه” قرار إنزال اللعنة والحرمان على المدعو “سبينوزا “وفصله عن شعب اسرائيل، لنتوقف عند هذا الحد مع الطرف الاول.

أما الطرف الثاني، فهي حقائق التوراة وخاصة العهد القديم.

حسب حقائق المرويات التوراتية، للإسرائيليين جميعا أصل واحد هو يعقوب الملقب بإسرائيل لصراعه مع الله، ويعقوب هو ابن اسحاق بن ابراهيم المدعو خليل الله، من نسل سام بن نوح المتسلسل من آدم الانسان الاول.

وينقسم تاريخ الإسرائيليين حسب هذه المرويات التوراتية دائما الى :

المرحلة البطريركية، عهد الآباء، إبراهيم، اسحاق ويعقوب عهد العبودية في مصر.

*عهد العبودية في مصر الفراعنة.

الخروج من مصر بقيادة موسى و تيه في صحراء سناء ( 1299– 1200 ق م)

غزو أرض كنعان واستيطانها وتقسيمها على أسباط اسرائيل الاثني عشر

* عهد القضاة: ويمتد من موت يوشع ( خليفة موسى) إلى صموئيل النبي الذي نصب شاول أول ملك على اسرائيل.

*عهد الملكية الموحدة: شاو داود وسليمان ( 1050-950 ق.م)

*عهد  انقسام الملكية: إسرائيل وعاصمتها السامرة في الشمال ومكونة من عشر أسباط  ويهودا في الجنوب وعاصمتها القدس ونظمسبطا يهوذا وبنيامين

دمار مملكة إسرائيل على يد الاشوريين (سركون الثاني 722 ق.م).

دمار مملكة  يهوذا على يد نبوخذ نصر والسبي إلى بابل ( 586 ق.م ).

* العودة من السبي بأمر قورش الفارسي وتجديد العبادة.

هذا فيما يتعلق بالنسب والتاريخ ومن الحقائق العديدة لأسفار التوراة وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك:

  • تأكيد العلاقة المميزة بين الإله ” يهوه” وإسرائيل، وإقرار عقد قطعة يهوه مع إبراهيم وجدده مع إسحاق ويعقوب وتكلم به موسى.
  • يهوه هو الإله الخاص لإسرائيل، وإسرائيل هو الشعب المختار من يهوه والمميز عن باقي الشعوب.
  • ورد في التثنية أن موسى كتب مقدمة هذا السفر.
  • ورد في التثنية 27 يشوع أن سفر موسى نقشر كله على حافة مذبح واحد يتكون من 12 حجرا.
  • ورد في الثنية ( الاصحاح 3): بقي عوج ملك باشان وحده بين العمالقة الآخرين وها هو سريره من حديد.
  • ورد في التكوين والكنعاني حينئذ في الأرض.
  • ورد في التكوين أن جبل موريا سمي جبل الله.
  • إن القول بـ :” يهوه هو الإله الخاص لإسرائيل” يترتب عليه أحد القولين:

أولهما أن الآلهة كثيرة ومسألة التوحيد الذي تنص عليه التوراة في أماكن اخرى،إنما هو نهاية صيرورة وتطور لرؤية العبرانيين لمفهوم الإله، وفي المراحل السابقة واثناء هذا التطور كان العبرانيون يعتقدون بتعدد الآلهة، هذه الرؤية بقي منها ما بقي، كثيرا أو قليلا، ضمن الرواسب الموجودة عندهم.

ثانيهما، إن نحن أقررنا التوحيد فسيترتب عليه أن يكون يهوى منحازا لبعض خلقه دون سواهم، أي ان يكون يهوه غير عادل وهذا يتناقض مع صفات  الله ولا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى.

وفي الواقع، هذان القولان إنما تفرضهما قراءة العبرانيين للكتاب المقدس ومواقفهم اتجاهالآخرين، ذلك أن كل انسان نضج وعيه، وهذه حال سبينوزا الذي كان مشروعه الفلسفي قد اكتمل ونضج، يدرك أن العلاقة بين الإله الخالق والإنسان المخلوق لا يؤسسها بالضرورة لا القول الأول ولا القول الثاني.

ما معنى هذا؟ هذا معناه أن كل من ينطلق وينظر لهذه العلاقة في بعدها الانساني، الرباني يدرك حتما بأن هناك عوائق ما، هذه العوائق سببها الرئيسي أن أحد أطراف العلاقة أخذ مكانه ومن ثم التكلم نيابيا عنه، والاختصاص في فهم الكتاب من طرف الخامات وحدهم دون سواهم.

إن احتلال مكان الإله يهوه من طرف الحاخامات، وذلك من خلال عملية شرح الكتاب التي لا تقبل ولا يجوز أن تأتي من أي طرف آخر، أدى بهم إلى كتابة مقاطع وفقرات بكاملها وإعادة كتابتها، ليصبح الكتاب المقدس، عبارة عن نسيج يروم سيطرة أقلية على عباد الله، سيطرة مادية وفكرية، هذه السلطة لا تقبل من الأسئلة ما كان في معنى لماذا؟ كيف؟ متى؟….ومن المفاهيم ما كان من جنس، الحرية والعدالة والمساواة… لأن هذا من شأنه نسق النسيج، أي إلغاء هذه السلطة، ولما كان الجهاز الوحيد أو نعمة  الله الوحيدة القادرة على طرح الأسئلة الغير مرغوب فيها والنبش في المفاهيم الغير محمودة هو العقل، حاربت ولا زالت هذه السلطة تحارب العقل دون هوادة.

لقد أدرك سبينوزا على أن نسق النسيج لا يتم إلا باتباع طريق منطقي واحد وهو فحص المصدر نفسه أي نقد الكتاب وإعادة قراءته من جديد وبأسلوب نقدي بعيد عن كل انحياز لا هوتي، وللقيام بهذا العمل اشترط سبينوزابعد ان عقدالعزم على ان يعيد من جديد فحص الكتاب المقدس “بلا ادعاء وبحرية ذهنية كاملة” ويؤكد سبينوزا على ضرورة الحصول على معرفة تاريخية مضبوطة من أجل تفسير الكتاب وهذا الفحص التاريخي يتطلب:

  • معرفة خصائص اللغة التي دونت بها اسفار الكتب وهي العبرية بالنسبة للعهد القديم.
  • تجميع آيات كل سفر وتصنيفها تحت موضوعات أساسية عددها محدود ثم جمع الآيات المتعارضة والاستدلالات الكتابية لا مبادئ العقل المجرد.
  • يجب ربط الفحص التاريخي بكل الظروف والملابسات المحيطة بالمؤلفين: سيرة مؤلف كل كتاب وأخلاقه والغاية التي كان يرمي إليها، ومن هو وفي أي مناسبة كتب كتابه، وفي أي وقت، ولمن، وباي لغة كتبه كما يجب أن يقدم هذا الفحص الظروف، الخاصة بكل كتاب على حدة، كيف جمع أولا؟ ومن الأشخاص الذين تناولوه؟ وكم نسخة وأخيرا كيف جمعت الكتب في مجموعة واحدة؟

وكان سبينوزا يشدد على أن يأخذ كل واحد قرارا حاسما بالا يسلم بشيء لا يخضع لهذا الفحص أولا يستخلص منه بوضوح تام، وبعد أن طبق سبينوزا هذا المنهج، توصل إلى ذلك الذي كان يخشاه الحاخامات، و من بين الحقائق المتوصل إليها:

  • أن موسى لم يكتب مقدمة التثنية لأنه لم يعبر أبدا نهر الاردن.
  • نقش سفر موسى كله على حافة مذبح واحد يتكون من اثني عشر حجرا، دليل على أن سفر موسى كان في حجمه أقل بكثير من الأسفار الخمسة.
  • عبارة مثل “وقد كتب موسى هذه الثورات (التثنية) يستحيل أن يكون قائلها هو موسى بل قائلها أحد غيره.
  • عبارة مثل “والكنعاني حينئذ في هذه الأرض (التكوين) كتبت حتما بعد خروج الكنعاني من هذه الأرض أي أن هذا السفر كتب في وقت لم يكن الكنعانيون فيه على هذه الأرض، والثابت الذي لا يجادله أحد هو أن العبرانيين دخلوا أرض كنعان بعد موت موسى وتصادموا مع السكان الأصليين أي الكنعانيون ودام هذا الصراع مدة طويلة، قبل أن ينتصر العبرانيون مؤقتا أي خروج الكنعاني.

اللائحة طويلة لما ورد في التوراة من جنس ما يكذبه التاريخ ومن جنس ما لم ينتبه له كتاب التوراة حين تزورهم وتعديلهم، المهم بالنسبة لباروخسبينوزا هو أنه طبق القاعدة المنطقية التي مفادها: ما كان جزء منه كاذب فهو كاذب.

وبعد أن يثبت سينوزا أن الأسفار ليست من تأليف موسى يثبت أنها من نتاج مؤلف واحد ويستخلص ذلك من وجود الخصائص التالية في الأسفار كلها:

  • وحدة الغرض في جميع الأسفار، حيث تبدأ بقصة النشأة الأولى لأمة العبرية، ثم تخبر بالمناسبة والوقت اللذين أحاطا بقيام موسى بدعوته وتنبؤاته العديدة، ثم تحدث عن كيفية الاستيلاء على الأرض الموعودة، ثم كيف تركوا الشرائع وما نتج عن ذلك من مصائب، ثم تبين كيف أرادوا بعد ذلك، اختيار ملوك ارتبط تقدمهم وتأخرهم بمقدار طاعاتهم للشرائع أو عصيانهم لها، ثم الختم بالحديث عن انهيار الدولة كما تنبأ موسى.
  • وحدة طريقة تعليق وربط الأسفار فيها بينها، إن بعد الانتهاء من قصة حياة موسى تبدأ قصة يشوع: ” وحدث بعد موت موسى خادم الله أن قال الله ليشوع…” وبعد الانتهاء من قصة يشوع يبدأ تاريخ القضاة بقوله ” وبعد أن مات يشوع طلب بنو إسرائيل من الله…”… وهكذا.
  • تأليف الأسفار بعد الحوادث المذكورة فيها بقرون.

هذه الخصائص، انتهت بسبينوزا إلى أن يقرر أن الأسفار من نتاج مؤرخ واحد أو من طرف رجل واحد زيادة في الدقة، ويفترض سبينوزا أن يكون هذا الرجل هو عزرا وذلك لأمور كثيرة يذكر منها :

يمتد المؤرخ برواياته حتى تحرير يواكين.

يقر الرواة أنه كان يجلس طيلة حياته على مائدة الملك (سواءا واكين أو قورش الفارسي)ولهذين السببين يتضح أن المؤلف لم يكن سابقا على عزرا.

وإذا أضفنا أن الكتاب يزكي عزرا (سفر عزرا) “فهو كاتب ألم إلماما كاملا بشريعة موسى وقد درسها وعرضها، ويفترض أن هذا السفر هو أول ما كتب ـــ وأيضا أن سفر التثنية هو سفر توراة الله الذي كتبه عزرا وهو يحتوي على عرض الشريعة وشرحها، كذلك المزامير جمعت بعد إعادة بناء المعبد، إذ أن فيلون يقرر أن المزمور الثامن والثمانين قد كتب وكان الملك يواكين في السجن، أما التاسع والثمانين فقد كتب بعد خروجه من السجن، ويؤكد سبينوزا أن الأسفار الأربعة: دانيال – عزرا – استير–نحميا–قد كتبها مؤلف واحد لا عزرا ولا نحميا، إذ ورد في سفر نحميا ما يلي “وكان اللاويون في أيام الياسيبويويادعويوناثانويدوع مكتوبين رؤساء آباء”، وكذلك الكهنة في ملك داريوس الفارسي، ومن غير المعقول أن يكون عزرا أو نحميا عاشا طيلة حكم الملوك الفرس الاربعة عشر.

كانت ملاحظات سبينوزاكثيرة كما كانت كل واحدة تكفيه للتخلي عن النظر للتوراة ككتاب مقدس، وبالرغم من محاكمته ومضايقته فلقد واصل حياته معزولا، مسلوب الحرية دون أن يتخلى عن قناعاته، وإن شئت قل انتصرت حرية الرأي لذا الشخص على ظلامية واستبداد الجماعة ويستمر الصراع بين حقائق البحث العلمي  وعناد اللاهوتيين المؤمنين بتاريخانية وحقائق ما ورد في التوراة.

ومع مرور الوقت، وتراكم الأبحاث النقدية من جهة، والمعطيات الاركيولوجية والتزايد الكبير في الاكتشافات الهامة في الشرق الأدنى القديم من جهة أخرى، أصبح العنصر التاريخي للثورات غير مقبول، وليس هذا وحسب بل أصبح النقد يطال البنية الداخلية لهذه المرويات أيضا.

في أواخر القرن التاسع عشر، يؤكد ويلهاوزن بعض ما قاله سبينوزا باستخلاصه الفرضية الوثائقية، لأصول الاسفار الخمسة الاولى، وهذه الفرضية تشير إلى أن تشكيل هذه الاسفار تم من خلال أربعة مصادر مستقلة عن بعضها في الاصل، هذه المصادر الاربعة للأسفار الخمس الاولى يجب فرضها على أنها وثائق أدبية تم تأليفها وقت كتابتها، ولذلك فهي كمواد مؤلفة تعكس فهم ومعرفة مؤلفيها وعالمهم، وكان لفرضية ويلهاوزن هذه، أثر كبير في الأعمال اللاحقة سواء الدراسات الأكاديمية النقدية أو التفسير التوراتي ذي الدوافع اللاهوتية.

وقد توصل مايير زميل ويلهاوزن إلى أن التراث الذي استمدت منه المصادر الوثائقية كان في الأصل مرويات شفوية ومجموعات من القصص التي تألفت  من الحكايات الشعبية والأساطير والملاحم، ثم يؤكد وينكلر ومعه مدرسة توراة بابل بكاملها  على أن معظم حكايات العهد القديم انعكاس للأدب المسماوي.

أما غريسمان صاحب الفضل في انتشار تأثير المجموعة المعروفة على نطاق واسع باسم مدرسة تاريخ الأديان التي كانت شديدة الاهتمام بسيل المكتشفات الحديثة والنصوص المترجمة مؤخرا عن الشرق الأدنى القديم، ومن أهم نتائج هذه المواد الجديدة التحرر من العقلية اللاهوتية الضيقة، والتوصل إلى فهم جديد لتاريخ إسرائيل  القديم، ولم ينظر غريسمانإلى مؤلفي المصادر اليهودية والإيلوهيمية على أنهم كتاب ومؤرخون لماضي اسرائيل، بل جامعون محررون لأساطير وحكايات شعبية مختلفة متعددة للأصول والتواريخ.

أما فريس فلقد بينت بوضوح سنة 1968م أن المرويات التراثية التي حددت تشكيل الدولة او الملكية الموحدة تحت حكم داود كانت من إنتاج فترة السبي، كما حددت أصول التوحيد اليهودي في فترة السبي أيضا، وأكدت أن الروايات التي تقول بأن أصل إسرائيل من مصر مجرد أساطير، وأن قصص سفر الملوك الثاني بكاملها قد كيفت لتشرح أسباب السبي إلى بابل، ويجب أن تكون قد كتبت بعد السبي لفترة من الوقت.

يؤكد المختصون أن التهجير لم يكن سياسة عقابية بل توظيف، فقد كان الآشوريون والبابليون يجمعون المهجرين ويدعمونهم بالأراضي والاملاك والسلطة ضد السكان المحليين الذين كانوا ينظرون إلى المهجرين كممثلين للسلطة المستبدة الامبريالية.

وكما أعاد نابونيد خادم الإله سين، ديانة إله حاران التي فقدت لمدة طويلة- بإتيانه بشعوب من بابل وسوريا ومصر وجعلهم مواطنين وورثة لتقاليد حران المنسية، واعاد بناء المدينة كما كانت في سابق مجدها وأعاد الآلهة القديمة إلى مواطنها – طابق الاسرائيليون العائدون بين الإله المحلي في دولة اسرائيل والمهمل لمدة طويلة يهوه، مع الإله الروحي السماوي إيلوهيشمايم . وكما أعاد نابونيد بأمر إله السماء معبد ديانة سين القديمة في حران، يرى عزرا ان قورش متصرفا وفق أوامر إله السماء الأعلى، أمر بإعادة بناء ديانة يهوه القديمة في القدس، نقرأ في أشعيا، عن قورش بوصفة مسيح يهوه ومعيد الشعب التقليدي إلى الأرض.

وهكذا يتوصل الباحثون المختصون إلى :

  • أن العائدون كانوا جماعات جديدة لا علاقة لها بإسرائيل.
  • أن عزرا من أكبر المسئولين عن ضياع دعوة موسى وتحويله الثورات إلى مجموعة كتب من الأساطير والخرافات.

هل كان سبينوزا خاطئا حينما توجه بعقله إلى زمن عزرا؟

هلكانسبينوزاخاطئاحينمارفض ما ألفه عزرا بالضبط؟

وعلى ضوء الاكتشافات والنتائج المتوصل إليها يصبح تاريخ شعب العبرانيين، تاريخ يختلف تماما على ما تصوره الثورات الحالية وينخرط في إطار تاريخ البشري

ولكي ننهي هذه المقالة نقول:

خلال مرحلة طويلة من تاريخها لم تعرف المجتمعات الإنسانية أي اختلاف أو تفرقة بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، فقد كان الكهنة أو رجال الدين جزء لا يتجزأ من جهاز الدولة، وكان تقديس الملوك عنصرا جوهريا من عناصر تكوين السلطة وإقامة الدولة.

وهكذا كان الملك الاله هو رمز السلطة المقدسة، ومصدر شرعيتها، إن بروز الديانة اليهودية كديانة توحيدية لا يعني بالضرورة أن العبرانيون لم تكن لهم كباقي الشعوب والقبائل، معتقدات قديمة، ففي الحقبة الأولى، ارتبطت  الدعوة اليهودية بروح التمرد والمقاومة التي أظهرتها قبائل العبرانيين ضد السيطرة التي كان الملوك الآلهة يسعون إلى فرضها على جميع الشعوب لتدجينهم على نظام السلطة والدولة، وفي هذا الإطار كان رحيل القبائل اليهودية لمصر الفرعونية وعبورهم للنهر، لكن هذا الحل لم يكن إلا مؤقتا وسيتحول تاريخ بني إسرائيل إلى تمرد مستمر وإلى سعي واستعداد محبطين للاحتفاظبالاستقلال.

وهكذا لم يفهم بنوا اسرائيل من دعوة موسى بناء ملكوت الروح والنفس، فضاء الحرية والوعي، ولكن فهموا منها احلالهم في السلطة محل من سبقهم أي ترميم الملكوت العبودي وبناء ملك إسرائيل والتمكن في الأرض.

إن الوعد والصراع ضد السكان الأصليين واستباحة ممتلكاتهم وأنفسهم، هو ما يشكل المتن الأساسي للعهد القديم، إن دعوات الأنبياء في العهد القديم تحفل بمسلسل من اللعنات على الأراميين والكنعانيين والموآبينوالآشوريين وغيرهم، كما تحفل هذه الدعوات بانتظار مجيئ ملك مخلص يحرر اليهود ويؤسس لهم مملكة كبيرة تسيطر على كل أمم العالم وتستعبدها، وهكذا بقيت الاختلاطات في اليهودية بين عقيدة القوة والملك، كرمز للقداسة وعقيدة البر والاحسان والعمل الصالح، وبعد أن تكونت المماليك اليهودية، عرفت بسبب هذا الاختلاط أزمات كبيرة وانتهت إلى مفاسد لا توصف ولعل أخطرها من منظور عقدي هو محاولة دمج ديانة اليهودية بالديانة الكنعانية والتقريب بينهما زمن  حكم كل من أشاب وأهاسياس والتي تصد لها الرسول إيليا.

 وكانت إدانة الانحراف هو الموضوع الدائم لدعوة الأنبياء العبرانيين حتى مجيئ الرسول عيسى المسيح.

وبعد دمار الهيكل ثم النفي، دخل الفكر الديني اليهودي في مأزق كبير وتعددت الفرق والمدارس الدينية واشتد الصراع والتناقض فيما بينها، وبين السبي والعودة كان ما كان من ضياع شعب العبرانيين وشريعة موسى.

 

*وجدة : الاحد 1 يناير 2017.

 

 

 

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…