نسمع، دائما، من رجال الدين والقيمين على شؤونه بأنهم يرحبون بالاجتهاد، وبأن بابه مفتوح، غير أن الواقع،واقع الحال، والممارسة الفعلية تكذب ذلك، كلما ظهر اجتهاد ما إلا وحاربوه وأحيانا يسكتون عليه مع ضرب حصار مطبق عليه لكي لا يرى النور.
والمطلوب هو فتح النقاش، هو محاورات صاحب الاجتهاد، تفنيد ما جاء به إن كان مخطئا، لا اجتهاد مع النص، ولا نقاش حينما يكون الاجتهاد مع النص.
لزلت أتذكر كيف تحدى عبد الصابور شاهين الأزهر حينما طلب منه أن يحدث ويدخل بعض التغييرات على كتابه أبي آدم، فرفض، وأجابهم بكل ثقة، إما أن ترخصوا بنشر الكتاب أو ارفضوه، فقبل في الأخير مشايخه الأزهر بنشره، هذا الكتاب جاء بنظرة جديدة في قصة الخلق، من داخل أي القرآن، بل قل جاء برؤية جديدة في قصة الخلق، لكن لم تلقى الاحترام والنقاش الذي تستحقه، هذا النقاش الذي نفتقره كثيرا، أولا مع بعضنا البعض ثم مع الآخر، هو الكفيل بإخراجنا من هذه الدائرة المغلقة التي نتخبط في مدارها منذ سنين عددا، في هذا السياق ومن أجل هذه الغاية سأعطي تلخيصا مركزا لهذه الأطروحة.
قصة الخليقة، كما نعلم جاءت في القرآن على مراحل متعددة بدأت بالإشارة الأولى في قوله تعالى “إقرأبإسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق” ثم ستقفز حسب ترتيب نزول الآيات إلى سورة ” ص” ” إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين” وجاءت بعد ذلك آيات كثيرة تحكي هذه القصة، هذه القصة خضعت لكثير من التأويلات، وأكثرها مأخوذ عن الإسرائليات، وهناك رواية في العهد القديم، حرصت كتب التفسير على ذكر محتواها ومضمونها، وهي رواية تصل بالخلق وأجيال الخليقة منذ آدام إلى أيامها هذه إلى حوالي سبعة او تسعة آلاف سنة، فالحياة كلها منذ آدم حتى الآن تسعة آلاف سنة على أكثر تقدير، هذا التقدير هو وجهة نظر شخصية، فهو لا يطابق الواقع ولا يقول الحقيقة ولكنه يذكر شيئا من أساطير ورثت عن أهل الكتاب، ولذلك فهذه الروايات عندما تذكر في تفسير القرآن تتخذ سبيلا للنيل منه.
في العلوم الحديثة، علم الآثار وعلم الحفريات وعلم الأرض والانثروبلوجيا نجد أن العلماء عثروا على أحافير أي قطع من العظام، رؤوس وأذرع وسيقان وبالطريقة العلمية التحليلية استطاعوا أن يردوا هذه الأحافير إلى تاريخ بعيد جدا، يدل على أن الإنسان على هذه الأرض منذ خمسة ملايين سنة، وبعضهم رد وجود الإنسان على الأرض إلى عشرة ملايين سنة، ما معنى هذا؟ ما معنى هذا الفرق؟ وهذه المسافة؟
الله قال للملائكة إني خالق بشرا، خالق يمكن أن تكون خلقت بشرا من طين، فدلالة اسم الفاعل قد تكون للماضي، وقد تكون للحاضر، وقد تكون للمستقبل، وهي هنا قطعا بمعنى الجملة للماضي، إني خالق، إني خلقت بشرا من طين .كلمة بشر هذه كلمة مذهلة هي تعني في اللغة العربية مخلوقا ظاهرا مع حسن وجمال، فهل ظاهر عكس المخلوقات غير المرئية؟ هذا معنى أو الظهور معناه أنه سيد وظاهر على كل الكائنات في هذه الأرض؟ هذان معنيان
لكن العجيب هو أن هذه الكلمة لا نظير لها في اللغات الأخرى بالفرنسية يستخدم L’Etre humain أو homme وربما استخدموا l’humain وربما mortel بمعنى فان وهالك هذا هو مدى هذه اللغة .في الإنجليزية (مان) أو (مان كاين) أو هيومنبينغhumain أو موتيل mortel ولا شيء أكثر من هذا .كذلك يلاحظ شيء آخر، هو أن البشر لم يخاطبوا في القرآن، لم يأت في القرآن يا أيها البشر، وهي كلمة جامدة أي أنها غير قابل للصرف، فهي لا تأتي من فعل، ولا يخرج منها مشتقات، او صور اشتقاقية كباشر ومبشور، كل ذلك لا يأتي في العربية، وإنما قد تثنى فيقال : “أنومن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون”القرآن ما استخدم أبدا الكلمة إلا مفردة بهذه الصورة، ما معنى هذا؟ معنى هذا أن البشر بداية مشروع لهذا الخلق، سوف يستمر عبر مراحل سوف تأتي “فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”إنهم ليسوا مطالبين بالسجود الآن، ولكنهم مطالبون به عندما تحقق مراحل التسوية والنفخ في الروح، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي، النفخ من روح الله، وملاحظة ينبغي أن نلفت إليها هي أن قوله تعالى إني خالق أي خلقت فقد أصبح البشر مخلوقا يتحرك، فالمراد بالروح هنا ليس الروح التي تتحرك بها الكائنات كالطيور والحشرات وسائر الحيوانات، وإنما الروح هنا شيء آخر هو ” …إذا سويته”بمعنى قومت ظاهره وشكله وهيئته ثم ” نفخت فيه من روحي”بمعنى زودته بالملكات العليا التي بها يتميز الإنسان عن سائر الحيوانات والكائنات المخلوقة على ظهر الأرض، إذا حدث هذا ” فقعوا له ساجدين”وقطعا، الملكات العليا هي العقل واللغة والدين، هذا المخلوق يحتاج إلى ثلاث أدوات : العقل، اللغة، الدين، والعقل من أعظم نعم الله على الإنسان، لكن ما حقيقة هذا العقل؟
نحن ندرك بأن لنا عقول بآثار هذه العقول وليس بالحقيقة، العقل كالكهرباء لا يعرف أحد حقيقتها ولكن تعرف بآثارها عندما تضيء المكان، كذلك العقل، كذلك الروح الإلهي، كذلك النفس هي ملكات إلاهية زود الله بها هذا البشر منذ قال له، أنت مسؤول وسوف تكون مسؤولا، لكنه هيئه لهذه المسؤولية بالعقل.
ثم باللغة، اللغة هذا أمر غريب، لأن اللغة الآن فيما نرى في واقع الحياة الإنسانية عددها لا يقل على ألفي لغة، وألفا لغة تتكون من حروف بعدد محدود، هي طاقات هذا الجهاز النطقي، من أول الشفتين إلى الحنجرة لا أكثر، تخرج عددا في حدود الثلاثين أو الخمسة والثلاثين حرفا هي حروف متفق عليها في كل اللغات، ولكن ألفي لغة تختلف في مفرداتها في تراكيبها، في صورها الاشتقاقية، في كتاباتها، في تراثها وأساليبها : “ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم”فاختلاف الألسنة آية من آيات الله تعدل خلق السماوات والأرض بل إن بعض الفهم لهذه الآية يرى أن اختلاف الألسنة لا يعني فقط اختلاف اللغات بين قبائل البشر وشعوبه، وإنما يعني شيء آخر، هو اختلاف كل فرد فرد في البشرية عن أي فرد آخر، فلا يوجد من يتحدث العربية كمتحدث بها آخر لم يحدث ، ولن يحدث.
لكن كيف تعلم هذا الإنسان؟ وكيف توصل إلى اللغة؟ هذا الأمر يحاول العلماء أن يفهموه، وأن يقدروا له صورة من الصور فهم يرون انه ربما كانت لمواضعات، ربما كان تقليد لأصوات طبيعية، وربما كانت تعبيرا عن أصوات غريزية، وكل ذلك يشارك فعلا في خلق اللغة، لكن المسألة ليست سهلة، لان اصطلاح قوم على صوت معينة يعبر عن رضى او عن الغضب هذا امر قد يقضي مآت الألوف من السنين، المسألة ليست سهلة ولا هينة، البشر لم يكونوا في مدرسة، جلسوا وحفظوا بعض الأصوات ورددوها ثم اصطلحوا عليها وصار لهم لسانا.
إن تفاعل الناس واقترابهم بعضهم من بعض لخلق نوع من العلاقات، لأن اللغة ليست إلا علاقات، ليس إلا اتصالات وإلا ما كان هناك داع للغة.
ثم كان بعد ذلك الدين بعد ان تم للإنسان نوع من التفاهم، لكنه مازال لا يألف الحياة الجماعية، ولا يعيش في شكل أقوام وشعوب، لقد جعل الله ذلك فيما بعد، لكنه مازال، وحان أوان السجود الذي يطلب من الملائكة.
قال الله للملائكة اسجدوا لكن لينفذوا السجود لابد من موقف يقتضينهم ان يسجدوا ويفرض عليهم السجود،:” وإذقالربكللملائكةإنيجاعلفيالأرضخليفةقالواأتجعلفيهامنيفسدفيهاويسفكالدماءونحننسبحبحمدكونقدسلكقالإنيأعلممالاتعلمون”كان البشر آنذاك فعلا يعيشون متقاتلين يفترس بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا، والله عز وجل علم وقدر ما لم تعلمه الملائكة ولذلك عندما تساءلت الملائكة، لا تساءل اعتراض بل طلب فهم قال لهم : “إني أعلم ما لا تعلمون”.
فاصطفى من هذا الوجود البشري آدم، وعلمه أي أوحى إليه، كما علم عز وجل محمدا. فقال له :” وعلمك ما لم تكن تعلم” و ” علم الإنسان ما لم يكن يعلم” و ” علم آدم الأسماء كلها” .
وهذا هو الموقف الذي أصبح فيه آدم أول من تألقت فيه الملكات الإلهية، و القدرات الإنسانية، فكان أول إنسان على هذه الأرض يعتبر طليعة لجيل التكليف، جيل التكليف هو الجيل الذي بدأ بنبوة آدم ثم استمر إلى يوم القيامة، قبل آدم لا تكليف، لأنه لا نبوة ولا شريعة ولا دين ” وعلم آدم الأسماء كلها “. لابد أن نفترض أن الأسماء كلها مأخوذة من اللغة، ولغة مصطلح عليها، ولغة معروفة، فالله علم آدم الأسماء كلها أي ما يتصل برسالته ودينه الذي سيتحمل أمانته بموجب قوله تعالى “إن الله اصطفى آدم”.
وقد اصطفاه وعلمه كل أدوات، والحاجيات والمصطلحات التي تلزمه في خلافته على هذه الأرض ” ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك انت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم”ظهر تفوقه وجدارته بأن توظف الملائكة في خدمته، وهذا هو السجود، ليس السجود في هذا السياق مجرد انحناءة ولمس للجبهة على الأرض، ولكن السجود هنا هو الإخضاع لخدمة هذا المخلوق الجديد، الذي اصطفاه الله.
لقد سجدوا لآدم النبي لأنه سيكلفون بعد ذلك بحيطة هذا المخلوق، سيكلفون بالحفاظ على آدم وذريته ” وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون”. فهؤلاء الملائكة مكلفون بالسجود إلى يوم القيامة، هم ساجدون بمعنى خاضعون لأمر الله عز وجل بالحفاظ على هذا المخلوق، وهدايته للخير، في مقابل تمرد إبليس الذي يدل على الشر، ويحرف مسيرة الإنسان، وبذلك قامت الحياة.
عدوة، مرة اخرى، إلى مسألة اللغة لأنها تثير كثيرا من الأسئلة المقلقة، مثلا عندما يقول إبليس لآدم وحواء ” ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكون ملكين أو تكونا من الخالدين” هذا قول يثير قضية الخلود، هل هناك معنى للخلود إلا إذا قابله معنى الفناء، ثم يكون المعنيان مفهومين لدى المخاطب، لقد رأى آدم أولئك البشر يتفانون ويموتون ويختفون ومن ذهب لا يرجع، فمعنى الخلود هنا معنى لغوي مفهوم لدى المخاطبين، لو كانت المسألة أنهما البداية لتساءلا ما معنى الخلود، وما معنى الملكية لأنها معان جديدة لكنها ليست بجديدة إنها مألوفة بحكم تضمن اللغة التي يعرفانها ” فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”.
إذا هنا هي ظرف لما يستقبل من الزمان، وأنها قد تكون تستقبل للحظة واحدة، ثم تنتهي صلاحيتها الظرفية وقد تستقبل الزمان إلى ما لا نهاية ” وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون” فبمجرد اركعوا لا يركعون انتهى الظرف، لكن “حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس”إذن هنا تمضي إلى نهاية الزمان استخدام القرآن في القصة لأداة التراخي ثم “ولقد خلقناكم ثم صورناكم” هذا هو المدى الزمن، التعبير عن مسافات، ليست مسافات هينة للحظة أو لحظتان وإنما هي مسافات هائلة متراحبة” الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحي”.
ثم هنا هي تعبير عن تراخي الزمن، والزمن الذي مضى لاتستكثروه، إنه زمن أشبه بالخطفة، يعني عندما كان الزمن طفلا في سن مليون سنة تكلم الإنسان بضع كلمات، تكلم البشر بضع كلمات في سن المليون، الزمن هنا في ظلام،، الوجود لا يعني ليلا ونهار وسنين، بل إن هناك معنى من الزمان ساقه لنا القرآن مهم جدا “وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون” .
فإذا قلنا إن آدم جاء إلى هذه الدنيا منذ خمسة عشر ألفا مثلا أو منذ عشرين ألفا من السنين فمعنى ذلك انه مضت عليه عشرون يوما إلهية من أيام الله عز وجل، فإذا قلنا مليون سنة أي ألف يوم من أيام الله عز وجل، والملك عظيم والزمن هائل لكنه مر في غيبوبة ليس هناك حسابات تحسب في الدقيقة والثانية والساعة والشهر، بالعكس ” كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها” .
الزمن في الغيبوبة الجيولوجية القديمة، مضت الملايين وكأنها لحظات ” قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم” مع أنهم ربما لبثوا ملايين السنين “قال إن لبتتم إلا قليلا لو كنتم تعلمون”.
هذا النظر في النصوص القرآنية، لا يجد من يرده، بل إن خامت القرآن، ومادة القرآن تقبل هذا التصرف، وتسمح بهذا الجمع بين الرواية التي تتحدث عن آدم على انه بداية لهذه الخليقة، فاقتصر الخطاب بعد ذلك على بني آدم وامضى الله إرادته فيما سبق.
هذا النوع المتنور من الفهم لآيات الله، الذي يقطع مع كل الإسرائيليات، الفهم النابع من عقل يبحث دائما عن القيام بمهمته المتمثلة في الشرح المتجدد، هو الكفيل لإخراج المسلم من براثين سوء الفهم الذي يموقعه في آخر الركب الحضاري الإنساني.