وجهة نظر.. الحكومة الحالية، أمام أزمة تدبير أم أزمة اختيارات؟
عبد السلام بن ابراهيم
حقا قد يحار المتتبع العادي، فحسب، فهم أحوال حكومتنا الفتية التي لم تستهلك بعد إلا الثلث من ولايتها التي قضتها ولا زالت مستمرة في حرب ضروس ضد المشوشين والناقمين ومنشغلة بالعفاريت والتماسيح القريبين إلى قلوب الماسكين بزمام الحزب الذي يرأس الحكومة التي استطاعت بفضل هذا الأسلوب الفريد في تدبير الشأن العام، والذي يعرفه المغرب لأول مرة في تاريخه السياسي، وفي ظل دستور يفيض بالصلاحيات لفائدة السلطتين التشريعية والتنفيذية، استطاعت رئاسة الحكومة على الخصوص، أن تخلق عداوات مع مختلف الأطراف بحكم الخصومات المتعددة التي خاضتها من فوق العديد من المنابر. فمن جهة، ومن داخل الفريق الحكومي، ألبت ضدها المكون الأساسي الثاني في الإتلاف الحكومي المنسجم بإصرار من رئيسها الذي لا يقبل أي رأي خارج رأيه ويشترط في مقابل ذلك الاحترام ومن الجميع، لكون حزبه وبفضله يتوفر على 107 مقعدا بالغرفة الأولى، وهو ما يشكل فقط حوالي 20 في المائة من عدد الأصوات. وها نحن اليوم، نوجد أمام حكومة في منزلة بين المنزلتين، خاصة بعد قرار الانسحاب الذي اتخذته الأجهزة التقريرية للحزب الثاني في تشكيلتها. ودون الخوض في طبيعة هذا القرار ودوافعه وخلفياته التي يرجع فيها التقدير لأصحابه، ودون البحث في ثنايا الوثيقة الدستورية للوقوف على المقتضى المناسب في مثل هذا الموقف السياسي، لترجيح الاستناد إلى الفصل 42 أو الفصل 47، فإن ما هو مؤكد أن الوضع الحكومي بالمغرب غير سليم، كما هو عليه الأمر بالغرفة الثانية، لكن بكيفية أكثر تعقيدا، مما يصعب معه الحديث بموضوعية عن معالجة ملفات الإصلاحات الكبرى المؤجلة التي تعج بها الساحة السياسية والتي تتطلب كما دأبت على ذلك كل الحكومات المتعاقبة التوافق بين مكونات الأمة، وهو معطى لا شك غير حاضر في أجندة هذه الحكومة، وخاصة الحزب الذي يرأسها.
ومن خارج الحكومة، فإن الصورة لا تختلف إطلاقا، فمن جهة ثانية، دفع رئيس حكومتنا الموقرة بإصراره وعناده على التشبث بالرأي الوحيد والأوحد إلى دفع المعارضة هي الأخرى إلى مقاطعة جلسة المساءلة الشهرية، بعد أن تمكن في السابق من توقيف الحوار الاجتماعي والامتناع عن مواصلة تنفيذ الالتزامات الناشئة عن اتفاق أبريل 2011 مع الشركاء الاجتماعيين، مثلما تراجع أيضا عن توظيف المعطلين من أصحاب الشهادات العليا الذي يربطهم بمؤسسة الحكومة محضر 20 يوليوز 2011، كما أن تمسكه بنفس النهح في تدبير شؤون البلاد كان هو الآخر وراء مقاطعة الاتحاد العام للمقاولات بالمغرب لزيارة وفد المقاولين الأتراك المرافقين للوزير الأول، وهذا دليل قاطع على الأزمة التي تخيم على الكيفية التي يتم بها التدبير الحكومي الحالي لشؤون البلاد والعباد.
إضافة إلى هذه المنجزات الهامة والثقيلة في الحصيلة المرحلية للحكومة، فإنه يمكن أن يحسب لها أيضا أنها من جهة أخرى، ساهمت في إغناء القاموس السياسي ببلادنا بمصطلحات لم يكن لنا بها عهدا إلا من خلال الخرافات التي كانت تحكيها لنا جداتنا وأمهاتنا لتيسير نومنا الطفولي. فما هي، إذن، الجهة أو الجهات التي لم يمسسها سهام رئيس الحكومة لتشتغل مع حكومته؟.
كما أن بعض وزراء نفس الحزب لم يخرجوا عن هذه القاعدة، بحيث هم الآخرين لم يدخروا جهدا في خلق صراعات مع كل الفاعلين والشركاء لقطاعاتهم الوزارية، وخير مثال على ذلك ما تعيشه وزارة العدل والحريات منذ مدة من جدال ومواجهة مع كتاب الضبط ونقابتهم والقضاة وناديهم والمحامين وهيئتهم. وفي مثل هذا الوضع، يطرح السؤال ايضا مع من ستشتغل هذه الوزارة التي تقود ملف إصلاح العدالة بالمغرب؟.
لنترك، إذن، جانبا هذا التشخيص المقتضب لطريقة التدبير في ظل هذه الحكومة التي انقضت على ثمرات «الربيع المغربي»، وهي التي لم تساهم في إنتاجه، لنتحول إلى إلقاء الضوء فقط على بعض الوعود الواردة في البرامج الانتخابية لأحزاب الإتلاف الحكومي وفي مقدمتها الحزب الأغلبي، ومن ثمة نتوقف عند البرنامج الحكومي وما تحقق منه حتى الآن، أي بعد مرور أكثر من ثلث هذه الولاية، لنستشرف آفاق منجزات الحكومة في حدود نهاية ولايتها.
أول الأسئلة البديهية التي تستوقف عامة الناس الذين استبشروا خيرا بهذه الحكومة، يمكن صياغتها على الشكل التالي: «أين نحن من نسبة النمو الموعود بها لضمان للرخاء الاجتماعي سواء بالبرنامج الانتخابي (7 % (أو البرنامج الحكومي (5 % )؟ « أين نحن من الرفع من قيمة الحد الأدنى للأجور (3000 درهم)؟، ومن الرفع من قيمة الحد الأدنى للمعاش (1500 درهم)»؟ « أين نحن من ومن…»؟.
نعم، في المقابل، فقد أفلحت الحكومة في الزيادة بدرهم إلى درهمين في أثمنة الوقود وهي أول زيادة بهذا القدر في تاريخ المغرب، مما انعكس على مختلف المواد الاستهلاكية وما رافق ذلك من ارتفاع في أسعار النقل الحضري والعمومي بين الأقاليم والجهات التي مست بكيفية مباشرة ذوي الدخل الضعيف والمحدود، لكن دون المساس بمصالح أصحاب رخص النقل والمقالع التي اكتفت الحكومة بنشر لوائح المستفيدين منهم دون أن تجرؤ على اتخاذ في حقهم ما يلزم من قرارات إدارية لترتيب الآثار القانونية عن المآل التي آلت إليه هذه اللوائح، مما يفند شعار العدالة الاجتماعية، من جهة، ومحاربة الفساد واقتصاد الريع، من جهة أخرى.
اليوم، وبعد التدخل المباشر للمؤسسات المالية الدولية في القرارات الوطنية، حيث أنه، وحتى بدون خجل كما ورد في إجاباته أمام دورة اللجنة الإدارية لحزبه المنعقدة بمدينة سلا يوم السبت 8 يونيو، أكد الأمين العام ورئيس الحكومة أن خبراء من صندوق النقد الدولي سألوه عن مصير وآجال الإصلاحات التي تعتزم حكومته الدخول فيها، وأجابهم بالقول « سنقوم بها في الوقت المناسب»، وكأني بهذه الإصلاحات هي موجهة لترضية هذه المؤسسات وليست بإصلاحات تستجيب لحاجيات مجتمعية تم التعبير عليها خلال كل المحطات السوداء منها وغيرها التي مرت منها بلادنا، لعل آخرها وليس أخيرها، حركة 20 فبراير المجيدة التي تم الالتفاف حول مطالبها التي تؤكد مطالب الشعب المغربي وقواه الحية الديمقراطية والتقدمية، بما تم اتخاذه من بعض الإصلاحات السياسية والدستورية التي أتت بهذه الحكومة المستفيدة الأولى وبالمجان من هذا الحراك الاجتماعي الشعبي، وهي التي يعود لها (الحكومة) الفضل في تجميد هذه الإصلاحات انطلاقا من ممانعتها لإخراج العديد من النصوص التنظيمية التي تشكل ما يقارب نصف الوثيقة الدستورية، والوقوف سدا منيعا في وجه كل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي وعدت بها، وذلك بفعل اعتقادها الراسخ على ما يبدو بتملك أحقيتها في التقرير لوحدها في كل مرامي حياة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وحتى البيئية، وحجتها في ذلك «تملكها لشرعية الانتخابات لكنها فاقدة لشرعية الإنجاز» ، كما صرح بذلك وعن حق في تقديرنا، من خلال الصحافة الوطنية القيادي في التقدم والاشتراكية الأستاذ المناضل سعيد السعدي.
إن الحكومة الحالية وجل وزراءها، وإلى حين قريب، وفي الوقت الذي تعيشه فيه أقوى اقتصاديات العالم معالم الأزمة المالية والاقتصادية التي اضطرتها إلى اتخاذ إجراءات ملموسة تراعي الأوضاع الاجتماعية لمواطنيها وتعمل على الحماية والحفاظ على قدرتهم الشرائية وضمان استقرار أحوالهم في مختلف مناحي الحياة، فإن هؤلاء المسؤولين الحكوميين ببلادنا كانوا يمطروننا بتصريحات كلها تنفي الأزمة عن المغرب الذي يوجد في وضعية مستقرة ماليا واقتصاديا، ولربما اجتماعيا حسب ادعاءاتهم إخفاء للشمس بالغربال، مع العلم أن كل مؤشرات التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي اقتربت من الخطوط الحمراء، إن لم تكن بداخلها تفيد عكس ذلك.
أما اليوم، وعلى ضوء ما تناقلته إحدى الصحف الوطنية من كون أن «اعتراف رئيس الحكومة بعمق الأزمة الاقتصادية لدليل إضافي على أن أقصى ما أنجزته حكومته هو تشخيص الوضعية، فقد أصبحت (الحكومة) عبارة عن مكتب دراسات لا تزيد مهمته عن رسم معالم الأزمة». فأين، إذن السبيل للخروج من هذا المشهد الغامض والوضع المعقد على كافة المستويات الذي يتطلب مقاربة وطنية ومواطناتية جريئة تتجاوز كل الأنانيات ونفخ الذات والاعتقاد بامتلاك الحقيقة ومحاولات الظهور بمظهر المصلح الوحيد والأوحد والادعاء المفرط بالغيرة على مصالح البلاد والعباد، بتجاهل وتجاوز الغير الذي من بينه من أدى ثمن وفاتورة أجواء الحرية والديمقراطية الغير مكتملتين التي نعيش في ظلها بهذا الوطن العزيز الذي لازال يتطلب منا تضحيات أكثر نحن مستعدون للقيام بها حد الاستشهاد في سبيل استكمال بناء الدولة الوطنية، وضرورة الابتعاد عن مظاهر الإطلاقية في الإدارة والسلوك والممارسة التي فندها ويفندها تاريخ الأمم والشعوب على ممر الأزمنة والعصور، ورحم الله مبدع نظرية النسبية «ألبر أنشتاين» الفيزيائي السويسري ذي الأصول الألمانية.
فالمواطنات والمواطنون، اليوم وأكثر من أي وقت مضى ملوا من ترويج كثرة الكلام والشح في قلة الإنجاز التي طال أمدهما، فهم الآن وليس غدا، في حاجة إلى تبيان واضح لأولويات الحكومة في مجال الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية واستكمال الورش الدستوري، واعتماد الإجراءات العملية القابلة للمعاينة على ارض الواقع، والتي قد تشمل النهوض بالمدرسة والصحة العموميتين، وضمان تكافؤ الفرص بينهم وقيام المساواة على قاعدة الكفاءة والاستحقاق بين الجنسين والتوازن في الموارد والمجالات بين الجهات، والتحسين الفعلي لأوضاعهم (المواطنون والمواطنات) المعيشية بتوفير فرص الشغل والسكن ورفع الأجور والحد من موجة الغلاء ومن حدة الفوارق الاجتماعية بإقرار منظومة للأجور والتعويضات عادلة ومتوازنة وإرساء منظومة ضريبية بمضامين وأبعاد تقطع مع سياسة الريع الاقتصادي وتنهي مع نظام المحسوبية والامتيازات والتهرب الضريبي والإعفاءات الضريبية أيا كانت مبرراتها، غير تلك التي تضمن العدالة الجبائية وترعى المصالح الكبرى للأمة.
هذه في نظرنا، منطلقات أوراش الإصلاح المستعجلة التي تتطلب سرعة الإنجاز والتنفيذ تفاديا لاستفحال أكبر للأوضاع الاجتماعية الداخلية التي تنذر بالأسوأ في ظل استمرار اللامبالاة والتجاهل المستمرين للحكومة التي يبدو أنها غير منشغلة بما يتطلبه الأمر من ضرورة استباق كل الاحتمالات التي تؤشر عليها سلسلة الاحتجاجات الاجتماعية المتواترة التي تشهدها كل الساحات العمومية بمختلف أرجاء المملكة. ومن ثمة، يبقى بالإمكان، شرط خلق الأجواء المناسبة لضمان استمرارية الاستقرار الاجتماعي ببلادنا كأولوية الأولويات، والبحث بموازاة مع ذلك وبالتواضع اللازم والتقدير التام لمواقع كل مكونات الأمة واسترجاع ثقتها بإرادة جديدة للحكومة لحصول توافق سياسي مسنود شعبيا، كمقاربة أثبتت نجاعتها طيلة عقود من الزمن في تدبير شؤون البلاد، حتى في أحلك المراحل التي مرت بها.
وإذا ما حصلت القناعة بجدوى هذه المبادرة ذي النفحة الوطنية، فإن الأوراش العشر الكبرى التي تندرج ضمن مجمل القرارات التي تم اتخاذها مع هذه الحكومة والتي قد لا تعود إلا بالنفع للوطن والشعب، حسب تصريح رئيس الفريق البرلماني للحزب الذي يتولى رئاسة الحكومة، وقد تكون هذه الأوراش أكثر عددا أو أقل، لكن من الضروري تفادي السرعة والتسرع في اتخاذ أي قرار خارج التوافق الوطني، وخاصة بالابتعاد عن ضغوطات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين بوصفتهما الغير مرعية لظروف وأحوال البلاد، واستهتارهما بكفاءات وطاقات النخبة الوطنية في إيجاد الحلول المناسبة واعتماد المقاربات الملائمة والنابعة من التربة الوطنية، فقد يحسب لهما إدخال خلال عقد الثمانينات بتوصياتها اللاشعبية بلادنا في متاهات سياسة التقويم الهيكلي التي لا زالت آثارها تخيم على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتي كادت أن تعصف بكل ما راكمه المغرب من إصلاحات وإن غير مكتملة، لكنها أوصلته إلى بر الأمان رغم الأعطاب السياسية التي كان يجرها النظام السياسي آنذاك وراءه ولازال البعض منها قائما إلى اليوم، والتي من شأن استمرارها حدوث انعكاسات أكثر فداحة على الأوضاع العامة للبلاد، مما يتطلب الآن وفي هذا الوقت بالذات الحذر من الانصياع من جديد لإملاءات وتوصيات هذه المؤسسات المالية الدولية التي لا قلب لها إلا على تمرير سياساتها الخدومة للرأسمالية المتوحشة ولربيبتها الشركات العابرة للقارات التي أحكمت طوقها على اقتصاديات جل الدول، خاصة منها الفقيرة والمتخلفة، وهي اليوم تملي قراراتها الاستراتيجية عن طريق هذه المؤسسات المالية للمزيد من إضعاف اقتصاديات هذه البلدان لمواصلة الاستحواذ على الثروات والخيرات واستعباد شعوبها.
فالاستعجال في الخوض في الملفات الكبرى دون حصول توافق وطني وسند شعبي كما سلف، خاصة منها تلك التي قد تصنف كقضايا مجتمعية، من قبيل ملف العدالة وإصلاح الإدارة وفي صلبها إصلاح أوضاع العاملين بها، وصندوق المقاصة، وأنظمة التقاعد وغيرها، التي لا تهم فقط فئة الموظفين والعمال، بل كل الشرائح والفئات المرتبطة بهم، وورش التقاعد لوحده، مثلا، ألزم جارتنا فرنسا أكثر من سنة من الحوار الهادئ والمتزن مع مختلف الفرقاء، وخاصة الاقتصاديين منهم والاجتماعيين على وجه الخصوص، ومع ذلك عرفت على إثر ذلك كبريات مدنها وعاصمتها نزول الملايين من المحتجين من موظفين وعمال ومناضلين سياسيين وحقوقيين وطلبة وتلاميذ وغيرهم، ونتجت عن هذه الحركات الاحتجاجية أحيانا عدة، توقف وشلل مختلف مناحي الحياة. إذن، حذاري من المجازفة بوضع البلاد وجرها إلى متاهات نحن في غنى عنها، بل يجب استخلاص الدروس من هذه التجارب التي سبقتنا إليها بعض الدول، مع ضرورة استحضار مقولة» لا مجال للمقارنة مع وجود الفارق»، لا في المكان والزمان.
ولعمري هذه المساهمة لا نبتغي من وراءها تقديم دروس أو توجيهات لأي جهة من الجهات، بقدر ما لا تعدو كونها نابعة عن تعبير متواضع لإحساس مناضل شغوف بهموم وقضايا بلاده، مثله مثل العديد من المناضلات والمناضلين من مختلف المشارب والحساسيات الذين قد يفصحون عن أفكارهم وآرائهم من مواقع أخرى وبأشكال مختلفة، لكنهم بحكم قناعاتهم المشتركة قد يتقاطعون فيما بينهم بكل ما تروم به أوضاع البلاد والعباد وما تتطلب من مساهمة للجميع في اقتراح الحلول والبدائل لمعالجتها كل من موقعه، لكن بالاحترام اللازم والتقدير التام اللذين من شأنهما تعزيز قيم التعاون والتضامن والتآزر بين أبناء وبنات الجلدة الوحيدة لخدمة المصالح العليا للوطن الذي لا يحق لأي كان أن يستأثر، وتحت أي ذريعة، خارج التوافق الوطني الانفراد بالتقرير بشأنها.
ومن خارج الحكومة، فإن الصورة لا تختلف إطلاقا، فمن جهة ثانية، دفع رئيس حكومتنا الموقرة بإصراره وعناده على التشبث بالرأي الوحيد والأوحد إلى دفع المعارضة هي الأخرى إلى مقاطعة جلسة المساءلة الشهرية، بعد أن تمكن في السابق من توقيف الحوار الاجتماعي والامتناع عن مواصلة تنفيذ الالتزامات الناشئة عن اتفاق أبريل 2011 مع الشركاء الاجتماعيين، مثلما تراجع أيضا عن توظيف المعطلين من أصحاب الشهادات العليا الذي يربطهم بمؤسسة الحكومة محضر 20 يوليوز 2011، كما أن تمسكه بنفس النهح في تدبير شؤون البلاد كان هو الآخر وراء مقاطعة الاتحاد العام للمقاولات بالمغرب لزيارة وفد المقاولين الأتراك المرافقين للوزير الأول، وهذا دليل قاطع على الأزمة التي تخيم على الكيفية التي يتم بها التدبير الحكومي الحالي لشؤون البلاد والعباد.
إضافة إلى هذه المنجزات الهامة والثقيلة في الحصيلة المرحلية للحكومة، فإنه يمكن أن يحسب لها أيضا أنها من جهة أخرى، ساهمت في إغناء القاموس السياسي ببلادنا بمصطلحات لم يكن لنا بها عهدا إلا من خلال الخرافات التي كانت تحكيها لنا جداتنا وأمهاتنا لتيسير نومنا الطفولي. فما هي، إذن، الجهة أو الجهات التي لم يمسسها سهام رئيس الحكومة لتشتغل مع حكومته؟.
كما أن بعض وزراء نفس الحزب لم يخرجوا عن هذه القاعدة، بحيث هم الآخرين لم يدخروا جهدا في خلق صراعات مع كل الفاعلين والشركاء لقطاعاتهم الوزارية، وخير مثال على ذلك ما تعيشه وزارة العدل والحريات منذ مدة من جدال ومواجهة مع كتاب الضبط ونقابتهم والقضاة وناديهم والمحامين وهيئتهم. وفي مثل هذا الوضع، يطرح السؤال ايضا مع من ستشتغل هذه الوزارة التي تقود ملف إصلاح العدالة بالمغرب؟.
لنترك، إذن، جانبا هذا التشخيص المقتضب لطريقة التدبير في ظل هذه الحكومة التي انقضت على ثمرات «الربيع المغربي»، وهي التي لم تساهم في إنتاجه، لنتحول إلى إلقاء الضوء فقط على بعض الوعود الواردة في البرامج الانتخابية لأحزاب الإتلاف الحكومي وفي مقدمتها الحزب الأغلبي، ومن ثمة نتوقف عند البرنامج الحكومي وما تحقق منه حتى الآن، أي بعد مرور أكثر من ثلث هذه الولاية، لنستشرف آفاق منجزات الحكومة في حدود نهاية ولايتها.
أول الأسئلة البديهية التي تستوقف عامة الناس الذين استبشروا خيرا بهذه الحكومة، يمكن صياغتها على الشكل التالي: «أين نحن من نسبة النمو الموعود بها لضمان للرخاء الاجتماعي سواء بالبرنامج الانتخابي (7 % (أو البرنامج الحكومي (5 % )؟ « أين نحن من الرفع من قيمة الحد الأدنى للأجور (3000 درهم)؟، ومن الرفع من قيمة الحد الأدنى للمعاش (1500 درهم)»؟ « أين نحن من ومن…»؟.
نعم، في المقابل، فقد أفلحت الحكومة في الزيادة بدرهم إلى درهمين في أثمنة الوقود وهي أول زيادة بهذا القدر في تاريخ المغرب، مما انعكس على مختلف المواد الاستهلاكية وما رافق ذلك من ارتفاع في أسعار النقل الحضري والعمومي بين الأقاليم والجهات التي مست بكيفية مباشرة ذوي الدخل الضعيف والمحدود، لكن دون المساس بمصالح أصحاب رخص النقل والمقالع التي اكتفت الحكومة بنشر لوائح المستفيدين منهم دون أن تجرؤ على اتخاذ في حقهم ما يلزم من قرارات إدارية لترتيب الآثار القانونية عن المآل التي آلت إليه هذه اللوائح، مما يفند شعار العدالة الاجتماعية، من جهة، ومحاربة الفساد واقتصاد الريع، من جهة أخرى.
اليوم، وبعد التدخل المباشر للمؤسسات المالية الدولية في القرارات الوطنية، حيث أنه، وحتى بدون خجل كما ورد في إجاباته أمام دورة اللجنة الإدارية لحزبه المنعقدة بمدينة سلا يوم السبت 8 يونيو، أكد الأمين العام ورئيس الحكومة أن خبراء من صندوق النقد الدولي سألوه عن مصير وآجال الإصلاحات التي تعتزم حكومته الدخول فيها، وأجابهم بالقول « سنقوم بها في الوقت المناسب»، وكأني بهذه الإصلاحات هي موجهة لترضية هذه المؤسسات وليست بإصلاحات تستجيب لحاجيات مجتمعية تم التعبير عليها خلال كل المحطات السوداء منها وغيرها التي مرت منها بلادنا، لعل آخرها وليس أخيرها، حركة 20 فبراير المجيدة التي تم الالتفاف حول مطالبها التي تؤكد مطالب الشعب المغربي وقواه الحية الديمقراطية والتقدمية، بما تم اتخاذه من بعض الإصلاحات السياسية والدستورية التي أتت بهذه الحكومة المستفيدة الأولى وبالمجان من هذا الحراك الاجتماعي الشعبي، وهي التي يعود لها (الحكومة) الفضل في تجميد هذه الإصلاحات انطلاقا من ممانعتها لإخراج العديد من النصوص التنظيمية التي تشكل ما يقارب نصف الوثيقة الدستورية، والوقوف سدا منيعا في وجه كل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي وعدت بها، وذلك بفعل اعتقادها الراسخ على ما يبدو بتملك أحقيتها في التقرير لوحدها في كل مرامي حياة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وحتى البيئية، وحجتها في ذلك «تملكها لشرعية الانتخابات لكنها فاقدة لشرعية الإنجاز» ، كما صرح بذلك وعن حق في تقديرنا، من خلال الصحافة الوطنية القيادي في التقدم والاشتراكية الأستاذ المناضل سعيد السعدي.
إن الحكومة الحالية وجل وزراءها، وإلى حين قريب، وفي الوقت الذي تعيشه فيه أقوى اقتصاديات العالم معالم الأزمة المالية والاقتصادية التي اضطرتها إلى اتخاذ إجراءات ملموسة تراعي الأوضاع الاجتماعية لمواطنيها وتعمل على الحماية والحفاظ على قدرتهم الشرائية وضمان استقرار أحوالهم في مختلف مناحي الحياة، فإن هؤلاء المسؤولين الحكوميين ببلادنا كانوا يمطروننا بتصريحات كلها تنفي الأزمة عن المغرب الذي يوجد في وضعية مستقرة ماليا واقتصاديا، ولربما اجتماعيا حسب ادعاءاتهم إخفاء للشمس بالغربال، مع العلم أن كل مؤشرات التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي اقتربت من الخطوط الحمراء، إن لم تكن بداخلها تفيد عكس ذلك.
أما اليوم، وعلى ضوء ما تناقلته إحدى الصحف الوطنية من كون أن «اعتراف رئيس الحكومة بعمق الأزمة الاقتصادية لدليل إضافي على أن أقصى ما أنجزته حكومته هو تشخيص الوضعية، فقد أصبحت (الحكومة) عبارة عن مكتب دراسات لا تزيد مهمته عن رسم معالم الأزمة». فأين، إذن السبيل للخروج من هذا المشهد الغامض والوضع المعقد على كافة المستويات الذي يتطلب مقاربة وطنية ومواطناتية جريئة تتجاوز كل الأنانيات ونفخ الذات والاعتقاد بامتلاك الحقيقة ومحاولات الظهور بمظهر المصلح الوحيد والأوحد والادعاء المفرط بالغيرة على مصالح البلاد والعباد، بتجاهل وتجاوز الغير الذي من بينه من أدى ثمن وفاتورة أجواء الحرية والديمقراطية الغير مكتملتين التي نعيش في ظلها بهذا الوطن العزيز الذي لازال يتطلب منا تضحيات أكثر نحن مستعدون للقيام بها حد الاستشهاد في سبيل استكمال بناء الدولة الوطنية، وضرورة الابتعاد عن مظاهر الإطلاقية في الإدارة والسلوك والممارسة التي فندها ويفندها تاريخ الأمم والشعوب على ممر الأزمنة والعصور، ورحم الله مبدع نظرية النسبية «ألبر أنشتاين» الفيزيائي السويسري ذي الأصول الألمانية.
فالمواطنات والمواطنون، اليوم وأكثر من أي وقت مضى ملوا من ترويج كثرة الكلام والشح في قلة الإنجاز التي طال أمدهما، فهم الآن وليس غدا، في حاجة إلى تبيان واضح لأولويات الحكومة في مجال الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية واستكمال الورش الدستوري، واعتماد الإجراءات العملية القابلة للمعاينة على ارض الواقع، والتي قد تشمل النهوض بالمدرسة والصحة العموميتين، وضمان تكافؤ الفرص بينهم وقيام المساواة على قاعدة الكفاءة والاستحقاق بين الجنسين والتوازن في الموارد والمجالات بين الجهات، والتحسين الفعلي لأوضاعهم (المواطنون والمواطنات) المعيشية بتوفير فرص الشغل والسكن ورفع الأجور والحد من موجة الغلاء ومن حدة الفوارق الاجتماعية بإقرار منظومة للأجور والتعويضات عادلة ومتوازنة وإرساء منظومة ضريبية بمضامين وأبعاد تقطع مع سياسة الريع الاقتصادي وتنهي مع نظام المحسوبية والامتيازات والتهرب الضريبي والإعفاءات الضريبية أيا كانت مبرراتها، غير تلك التي تضمن العدالة الجبائية وترعى المصالح الكبرى للأمة.
هذه في نظرنا، منطلقات أوراش الإصلاح المستعجلة التي تتطلب سرعة الإنجاز والتنفيذ تفاديا لاستفحال أكبر للأوضاع الاجتماعية الداخلية التي تنذر بالأسوأ في ظل استمرار اللامبالاة والتجاهل المستمرين للحكومة التي يبدو أنها غير منشغلة بما يتطلبه الأمر من ضرورة استباق كل الاحتمالات التي تؤشر عليها سلسلة الاحتجاجات الاجتماعية المتواترة التي تشهدها كل الساحات العمومية بمختلف أرجاء المملكة. ومن ثمة، يبقى بالإمكان، شرط خلق الأجواء المناسبة لضمان استمرارية الاستقرار الاجتماعي ببلادنا كأولوية الأولويات، والبحث بموازاة مع ذلك وبالتواضع اللازم والتقدير التام لمواقع كل مكونات الأمة واسترجاع ثقتها بإرادة جديدة للحكومة لحصول توافق سياسي مسنود شعبيا، كمقاربة أثبتت نجاعتها طيلة عقود من الزمن في تدبير شؤون البلاد، حتى في أحلك المراحل التي مرت بها.
وإذا ما حصلت القناعة بجدوى هذه المبادرة ذي النفحة الوطنية، فإن الأوراش العشر الكبرى التي تندرج ضمن مجمل القرارات التي تم اتخاذها مع هذه الحكومة والتي قد لا تعود إلا بالنفع للوطن والشعب، حسب تصريح رئيس الفريق البرلماني للحزب الذي يتولى رئاسة الحكومة، وقد تكون هذه الأوراش أكثر عددا أو أقل، لكن من الضروري تفادي السرعة والتسرع في اتخاذ أي قرار خارج التوافق الوطني، وخاصة بالابتعاد عن ضغوطات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين بوصفتهما الغير مرعية لظروف وأحوال البلاد، واستهتارهما بكفاءات وطاقات النخبة الوطنية في إيجاد الحلول المناسبة واعتماد المقاربات الملائمة والنابعة من التربة الوطنية، فقد يحسب لهما إدخال خلال عقد الثمانينات بتوصياتها اللاشعبية بلادنا في متاهات سياسة التقويم الهيكلي التي لا زالت آثارها تخيم على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتي كادت أن تعصف بكل ما راكمه المغرب من إصلاحات وإن غير مكتملة، لكنها أوصلته إلى بر الأمان رغم الأعطاب السياسية التي كان يجرها النظام السياسي آنذاك وراءه ولازال البعض منها قائما إلى اليوم، والتي من شأن استمرارها حدوث انعكاسات أكثر فداحة على الأوضاع العامة للبلاد، مما يتطلب الآن وفي هذا الوقت بالذات الحذر من الانصياع من جديد لإملاءات وتوصيات هذه المؤسسات المالية الدولية التي لا قلب لها إلا على تمرير سياساتها الخدومة للرأسمالية المتوحشة ولربيبتها الشركات العابرة للقارات التي أحكمت طوقها على اقتصاديات جل الدول، خاصة منها الفقيرة والمتخلفة، وهي اليوم تملي قراراتها الاستراتيجية عن طريق هذه المؤسسات المالية للمزيد من إضعاف اقتصاديات هذه البلدان لمواصلة الاستحواذ على الثروات والخيرات واستعباد شعوبها.
فالاستعجال في الخوض في الملفات الكبرى دون حصول توافق وطني وسند شعبي كما سلف، خاصة منها تلك التي قد تصنف كقضايا مجتمعية، من قبيل ملف العدالة وإصلاح الإدارة وفي صلبها إصلاح أوضاع العاملين بها، وصندوق المقاصة، وأنظمة التقاعد وغيرها، التي لا تهم فقط فئة الموظفين والعمال، بل كل الشرائح والفئات المرتبطة بهم، وورش التقاعد لوحده، مثلا، ألزم جارتنا فرنسا أكثر من سنة من الحوار الهادئ والمتزن مع مختلف الفرقاء، وخاصة الاقتصاديين منهم والاجتماعيين على وجه الخصوص، ومع ذلك عرفت على إثر ذلك كبريات مدنها وعاصمتها نزول الملايين من المحتجين من موظفين وعمال ومناضلين سياسيين وحقوقيين وطلبة وتلاميذ وغيرهم، ونتجت عن هذه الحركات الاحتجاجية أحيانا عدة، توقف وشلل مختلف مناحي الحياة. إذن، حذاري من المجازفة بوضع البلاد وجرها إلى متاهات نحن في غنى عنها، بل يجب استخلاص الدروس من هذه التجارب التي سبقتنا إليها بعض الدول، مع ضرورة استحضار مقولة» لا مجال للمقارنة مع وجود الفارق»، لا في المكان والزمان.
ولعمري هذه المساهمة لا نبتغي من وراءها تقديم دروس أو توجيهات لأي جهة من الجهات، بقدر ما لا تعدو كونها نابعة عن تعبير متواضع لإحساس مناضل شغوف بهموم وقضايا بلاده، مثله مثل العديد من المناضلات والمناضلين من مختلف المشارب والحساسيات الذين قد يفصحون عن أفكارهم وآرائهم من مواقع أخرى وبأشكال مختلفة، لكنهم بحكم قناعاتهم المشتركة قد يتقاطعون فيما بينهم بكل ما تروم به أوضاع البلاد والعباد وما تتطلب من مساهمة للجميع في اقتراح الحلول والبدائل لمعالجتها كل من موقعه، لكن بالاحترام اللازم والتقدير التام اللذين من شأنهما تعزيز قيم التعاون والتضامن والتآزر بين أبناء وبنات الجلدة الوحيدة لخدمة المصالح العليا للوطن الذي لا يحق لأي كان أن يستأثر، وتحت أي ذريعة، خارج التوافق الوطني الانفراد بالتقرير بشأنها.