طبعت البصمة الأمنية نهاية السنة التي نودعها، بالرغم من أن الانشغال العام ظل مشدودا إلى تشكيل الحكومة، وبالرغم أيضا من أن التناول ظل في حدود نقل الأخبار ونشر ما تقدمت به القيادات الأمنية المعنية، وبالرغم، ثالثا من أن بصمات بعينها تقع أول مرة في تاريخ الجهاز الأمني والبلاد معا..
فقد تواترت ثلاثة أحداث على الأقل كانت كلها ذات صلة، مباشرة أو غير مباشرة، بالأمن الداخلي..والأمن العام للبلاد، من الجريمة البسيطة إلى الإرهاب، مرورا بالقضية الوطنية الأولى..
1- أهم هذه الأحداث ولا شك هو تمرين الحصيلة الأمنية، التي قدمها المدير العام للأمن ، عبد اللطيف الحموشي، عن عمل الجهاز الذي يتولى تدبير أقداره..
بعد سنة من ترؤسه الجهاز ، وفي سابقة هي الأولى من نوعها، كشف المدير العام للأمن الوطني عن حصيلة سنة كاملة لنشاط هذا الجهاز.
هذه الحصيلة، على غير العادة لم تتوقف عند الأداء في لجم الجريمة أو الإعلاء من نجاعة مواجهتها فقط، بل ضمت نتائج مراقبة عمل عناصر الشرطة، جزاء أو عقابا.
والملاحظ أن التواصل، والتغيير في الأسلوب جعل العلاقة بين المواطنين والأمن تتغير كما يبدو من المعطيات التي قدمتها مديرية الأمن الوطني، حيث ارتفعت المكالمات التي أجراها المواطنون المغاربة عبر الرقم الهاتفي (19)و بشكل يتجاوز الضعف!
بلغت مليونا و92 ألفا و115 مكالمة، مقابل 777.353 في السنة الفارطة.
الرقم قابل للقراءتين: فهو ولا شك دليل على ارتفاع الحاجة إلى الأمن وتزايد مستويات الجريمة، لكنه في الوقت ذاته يكشف تفاعل المواطنين مع رسالة التأمين الجاري العمل بها من طرف الأجهزة المعنية..
وبذلك الهاجس الأمني، الذي كان يشكل سبة في حق الدولة في لحظات ما، قد تحول إلى هاجس لمواطنين، بل أحد مطالبهم المرتبطة بحياتهم وهو تحول قد لا يغفله كل من يهتم بسوسيولوجيا التحول في المغرب، العميق منه والظاهر.
عكس الأسلوب المعتمد عادة، فإن الجهاز لم ينتج خطاب المديح الذاتي بخصوص آفات الرشوة والفساد، بل صار في الاتجاه الذي تخلص إليه الكثير من التقارير من التعميم الذي وصلت إليه آفات الفساد المالي..
فقد تم عزل 84 رجل شرطة في مختلف الرتب سنة 2016، وتم توجيه 1899 تنبيها للموظفين، و تم توقيف 176 آخرين، ضمنهم 58 موظفا مرتبطين بقضايا الفساد المالي .
وهو تجاوب عملي مع تقارير، منها تقرير الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة والذي أشار إلى أن الشكايات التي تلقاها مركز الدعم القانوني ضد الرشوة بالرباط أشار إلى أن 15% من هذه الشكايات تخص الجماعات المحلية، متبوعة بقطاع العدل بنسبة 14% ثم قطاع الأمن 13%، ونفس النسبة تم تسجيلها بالنسبة للدرك الملكي….
2- التدخل الثاني كان حديث عبد الحق الخيام خلال الأسبوع الذي ودعناه، وإن كان ليس هو الحوار الأول له، ولكنه جاء بتقديم الحصيلة كتمرين لم تعتده الأجهزة الأمنية أمام الرأي العام.. فقد علمنا عن طريقه أن المكتب المركزي للأبحاث القضائية فكك 40 خلية وأوقف 548 إرهابيا منذ إحداثه.
كما أن الرقم الذي تم الإعلان عنه في ما يخص إحباط 341 مخططا إرهابيا واعتقال 71 شخصا عادوا إلى المغرب من صفوف داعش، رقم يدفع إلى تعميق التفكير، وتدارك الفارق الكبير بين المخاطر الحقيقية التي تواجهها البلاد وبين سلم الأولويات التي يضعها جزء من الطبقة السياسية في البلاد أو الفاعلون المدنيين عموما!
خارطة التهديد الإرهابي تتضح أكثر عند قراءة المعطيات التي تم تقديمها، ففي سنة واحدة اتضح أن 39معتقلا جاؤوا من منطقة الصراع السورية-العراقية و 8 من ليبيا.
وعلمنا أيضا بخصوص مكافحة الإرهاب على المستوى الوطن يطيلة سنة ،أنه جرى تفكيك 167 خلية، 46 منها كانت لها صلات وطيدة مع جماعات تنشط في مناطق الصراع إلى جانب تنظيم (داعش).
وتبين كذلك أنه لا وجود لسقف العدوانية في مخططات الإرهاب، إذ أنهم كانوا يخططون لارتكاب اعتداءات بالمتفجرات، وتنفيذ اغتيالات وعمليات سطو مسلح.
والواضح أن التعامل، كما تم تبيانه للرأي العام، يستند إلى فلسفة متكاملة، ينادي بها الجميع.. والتي تدمج البعد الاجتماعي والجانب التنموي، فضلا عن المكونات التعليمية والدينية، وذلك بالنظر لمساهمتها في مجال نشر ثقافة التسامح والاعتدال.
وفي هذا الصدد، كان الخيام واضحا، في القول إن المغرب اعتمد « مقاربة شاملة واستباقية ومتعددة الأبعاد تشمل المجالات السياسية والمؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والدينية والإعلامية، ترمي إلى مكافحة التطرف والفقر والإقصاء الاجتماعي والتهميش والأمية، وذلك عن طريق التنمية البشرية وتعزيز دولة الحق والقانون».
وبما أن السياق الدولي فرض نفسه على العالم في نهاية هذه السنة، من برلين إلى تركيا مرورا بالتشديدات الأمنية في باريس ولندن وسيدني بأستراليا وروما….فقد اكتست تمارين تقديم مجهودات المغرب معنى خاصا، وأكد الخيام في هذا الباب أن ريادة جلالة الملك محمد السادس، والدور الوازن الذي يضطلع به المغرب في مجال مكافحة الإرهاب على الصعيد العالمي، عاملان لا يمكن إنكارهما، فضلا عن كونهما يحظيان باعتراف وبإشادة المجتمع الدولي، بما أصبحت المملكة «تضطلع به من دور ريادي بهذا الخصوص ..».
3- اكديم ايزيك٬ وحده مكر الجدولة الزمنية يجمع بين الحدثين وبين الفاجعة. لولا التزامن بين محاكمة المتهمين في كارثة اكديم ايزيك، لما انتبهنا إلى أن إحدى البصمات الأكثر إيلاما في جسد البلاد ، تم فيها جمع الأمن والقضية الوطنية في أجساد المغتالين في أحداث المخيم المذكور..
فالحصيلة الرسمية للأحداث بينت سقوط 11 قتيلا بين صفوف قوات الأمن، من ضمنهم عنصر في الوقاية المدنية، و70 جريحا من بين تلك القوات، علاوة على التمثيل بجثث عدد من عناصر الأمن، والعبث بها، والتبول عليها، من طرف ملثمين انفصاليين.
وهنا ترتقي البصمة الأمنية إلى الدرجة .. الوطنية الشمولية والاستشهاد بين أبناء الشعب الوحدوي الذين نذرتهم ظروف بلادهم ومعركتها من أجل الوحدة للتواجد حيث تكون مصلحة البلاد .. والاستشهاد.
وهي قضية تتجاوز التكييف السياسي الذي يود أصحاب الانفصال أن يغرقوا فيه المحاكمة.. والعنف برمته!
أبناء الأمن هم جزء من الشهداء الذين يقدمهم المغرب لفائدة وحدته الترابية..
إن الخلاصة هي أن الحكامة الأمنية ، كمهمة ديموقراطية كما هي مهمة مهنية تضمن النجاعة في الأداء ، تعاش في المستوى العملي ، بين تطوير احترافية الجهاز ومواكبة العمل ببيانات تقدم الحساب وتحدد المسؤوليات، كما أنها مهمة تقع في نقطة الالتقاء بين الوطن.. والسلامة العامة للمغاربة..
ولعل دسترة العديد من قيم وتوصيات هيئة الانصاف والمصالحة، خطوة رائدة في مجال ابتكار المستقبل الآن، عبر آليات حددها الدستور الجديد، ويبقى التفكير السوسيو ثقافي في القضية الأمنية تحديا كبيرا للمؤسسات ، كما للأحزاب وللبرامج التنموية، وهذا موضوع آخر..