اليسار الإسلامي رؤية منهجية للفكر الديني وعلاقته بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للعصر. فهو تحقيق منهجي ومنطق فكري لدعوات الإصلاح السابقة ورفع شعار الجمع بين التراث والتجديد، القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، الماضي والحاضر.
وقد تعود الناس خطابين، الأول خطاب ديني يعتمد على النصوص وتفسيرها خارج الزمان والمكان، خاصة ولو كانت نصوصاً عقائدية شعائرية خالصة أو نصوصاً تتعلق بأمور الآخرة. وظيفته الترويح عن النفس، وتبخير الأزمات، والتعويض الروحي، والانتقال من هذا العالم البائس الشقي إلى عالم آخر، عالم السعادة والنعيم. وهو الخطاب السائد في معظم خطب الجمعة والبرامج الدينية في قنوات التلفزيون. والثاني خطاب اجتماعي علمي، يحلل الواقع الاجتماعي الإحصائي بدعوى الالتزام بالموضوعية وإعطاء الحقائق على الأرض كما هي دون تأويل ذاتي أو توجيه أيديولوجي. وهو ما يستحيل أيضاً في العلوم الاجتماعية. فكل تحليل كمي له قراءة كيفية. وكل واقع له رؤية. فالواقع متغير ومتحرك ومتطور، ينتقل من مرحلة إلى أخرى. فالعلم الاجتماعي يرصد مسار التغير الاجتماعي إلى الوراء لا إلى الأمام. وهو ما يسمى بمعارك التخلف والتقدم. الخطاب الأول نص دون واقع. والخطاب الثاني واقع دون نص.
وإذا كان رجل الدين مستنيراً فإنه ينتقل من النص إلى الواقع، ومن كلام الله إلى أوضاع البشر حتى يكون خطابه أكثر دلالة وأوقع عند الناس، خاصة حين يجدون للنص صدى في حياتهم اليومية. وقد يغالي البعض في ذلك فيتحول الخطاب الديني إلى نقد اجتماعي خالص للسلطة والعادات الاجتماعية خاصة علاقة الجنسين. فما زالت هناك دوائر ثلاث في الثقافة الموروثة يحظر الاقتراب منها: الدين، والسياسة، والجنس. ولو كان عالم الاجتماع مستنيراً، ويعلم أن الظاهرة الاجتماعية في صحيحها تراكم ثقافي، ومتصل تاريخي، فإنه يحيل إلى الثقافة الشعبية ويكتشف أن مكونها الرئيس النص الديني والمثل الشعبي، فيحيل إليه من باب تعليل الظواهر الاجتماعية والكشف عن مكوناتها ووضع أساليب لتغييرها.
وهناك منهج ثالث يلتقي فيه الخطابان، الديني والاجتماعي، هو منهج تحليل الخبرات اليومية ومعاناة الناس، حتى ينزل الخطاب الديني على واقع حي، ويأخذ الخطاب الاجتماعي الإحصائي دلالات حية من تجارب الناس. فالأرقام صياغات كمية لحالات نفسية. والواقع الإحصائي لا يتكلم بنفسه، بل هو مجرد ترجمة لمعاناة الناس. فالبشر هم الأساس، هم حلقة الوصل بين الدين والمجتمع، بين النص والواقع، بين الخطاب الديني والخطاب الاجتماعي.
يستعمل اليسار الإسلامي هذه المناهج الثلاثة في آن واحد لتوحيد الخطاب الثقافي ولتجاوز الاستقطاب الحالي بين السلفيين والعلمانيين، وهو أساساً استقطاب في الخطاب وفي مناهج التفكير. فهو يبدأ من النص مثل رجل الدين، ويختار الموضوعات الأكثر إلحاحاً طبقاً لفقه الأولويات ولعموم البلوى. ولا يبدأ بموضوعات كسبت من قبل مثل العقائد والشعائر أو بموضوعات تخرج عن شهادة الحس والعقل والوجدان ويصعب الوصول فيها إلى يقين. صنفها القدماء على أنها من السمعيات. ويبدأ بتحليل ألفاظ الأرض والعدل والظلم والصلاح والفساد، والتقدم والتأخر، والإعمار والاستقلال.. وهو ما تحتاجه الأمة اليوم حالياً. ويبدأ أيضاً من الواقع مثل عالم الاجتماع، فالفقه أساساً هو فقه النوازل بلغة المغاربة، أي فقه الواقع بلغة العصر. وما لم ينزل النص على نازلة فسيظل دائراً في الهواء حائراً، لا زمان له ولا مكان. وعلى هذا النحو يصدق النص في الواقع، والواقع يجد تأويلاً له وقراءة في النص. لذلك تلزمه الإحصاءات الدقيقة، والإحصاء لغة العصر. والرقم هو النص الجديد. ويبدأ ثالثاً بتحليل الخبرات الحية عند الناس، فاللغة المباشرة أشد تأثيراً في الناس وأبلغ من تأويلات النصوص وإحصاءات الواقع. وقد برع بعض المشايخ والخطباء في ذلك تملقاً لأذواق الجماهير، ودغدغة لعواطفهم، وإثارة لأشجانهم وأحزانهم لدى مشايخ الفضاء بدعوى صنع الحياة، وعدم الحزن، ومشاكل الشباب والمجتمع. وتحول بعضهم، رجالاً ونساء، إلى خبراء في التحليل النفسي لمعالجة مشاكل الشباب وفي مقدمتها الزواج.. ففي التجربة الحية يتوحد النص والواقع.