“ما هي لحظة الشعور باحترام الذات؟… احترام ذاتي الذي أبحث عنه عن طريق احترام الآخر ليس من طبيعة مختلفة عن الاحترام الذي أبديه نحو الآخر، فإذا كانت الإنسانية هي التي أحترمها في الآخر وفي ذاتي، فإني أحترم ذاتي كأنت بالنسبة للآخر، أحترم ذاتي كشخص آخر… وأحب نفسي كآخر”[1]

يحتفل البشر في جميع أنحاء المعمورة باليوم العالمي لحقوق الإنسان ولقد اقترن هذا العيد بالإعلان العالمي 10 ديسمبر 1948 والذي قامت فيه منظمة الأمم المتحدة بتدويل قضية الحريات والحقوق على مختلف الشعوب والجماعات والأفراد خارج منطق التمييز والإقصاء وجدلنة العلاقة بين المحلي والكوني.

غير أن واقع الاعتداء على حقوق الإنسان اليوم وتغييب مفاهيم الحريات التي ينبغي أن تتمتع بها كل ذات هو أمر لا يمكن تغييبه ومعطى لا يجب إهماله وتناسيه بما أن الحروب والفتن بين الدول بلغت حدا لا يطاق وأصابت مخلفاتها مقومات الحياة ولم يسلم من أخطارها أحد في الكوكب. ولعل الحرية الإنسانية هي أكبر الأضرار وأشد القيم التي تسير نحو الاختفاء بسبب انتشار نزعات التدمير الممنهج وغزوات دعاة الهمجية وصعود موجات امبراطورية مضادة تكرس منطق القوة وتستعدي قيم العدل والمساواة والكرامة.

في هذا السياق ما هي الشروط التي يجب توفيرها من أجل صيانة منظومة حقوق الإنسان من كل اعتداء؟ وكيف توضع مقولة الحرية على رأس الأولويات التي ينبغي على الهيئات والدول أن تعتني بتوفيرها؟

على ماذا يقوم الفعل الحر؟ هل يستند إلى الباعث الداخلي أم يتجه نحو القصد الخارجي والغاية الكونية؟

هل الحرية هي وضعية أصلية تمثل شرط إمكان أم مشروع ينتظر التحقق والاستكمال في التاريخ؟

بأي معنى تقوم الحرية على التروي و الاختيار والقرار والتصميم والانجاز من طرف الفاعل المسؤول؟

أي دور لإيتيقا أرسطو والذاتية الديكارتية ولتأليف الكانطي والجدلية الهيجلية والبراكسيس السارتري فيها؟

يمكن طرح مسألة الحرية ضمن حقول ثلاثة ينتج كل واحد منها نمط من الخطاب الذي يناسب طريقته في المعالجة والحكم والتقدير:

1- الخطاب المتداول في اللغة العادية: (المفهوم)

الكائن الحر libre هو الرجل الذي تخلص من التبعية والقهر والتسلط ويوجد في وضعية تتناقض مع وضعية العبد. زد على ذلك تشير صفة الحر إلى خصائص بعض من الأفعال البشرية التي تظهر في أبعاد ملحوظة تمتلك القصدية وترتبط ببواعث إرادية وتمتلك أسباب وجود وتصدر عن فاعل مسؤول.

بهذا المعنى ينتمي الفعل الحر إلى مقولة من الأفعال تتحرك ضمن حقل دلالي يتكون من عبارات تشكل شبكة من المفاهيم المترابطة هي المشروع والباعث والقرار والقصد والمؤلف المسؤول ومعقولية الوجود.

الحرية هي هنا هي القدرة على فعل أمر معين وكذلك القدرة على الامتناع عن القيام به لأسباب معينة.

2- الخطاب الفكري في الأخلاق والسياسة: (القيمة)

لم تعد الحرية هاهنا خاصية تميز بعض الأفعال البشرية عن أفعال أخرى معروفة بأنها غير حرة أي اضطرارية بحكم الضرورة ومقيدة بالحاجة أو قهرية أمرية تحت ضغط السلطة وإكراه المنفعة. بهذا المعنى تشير الحرية هنا إلى مهمة ومطلب وقيمة يجب على الكائن البشري أن يتقيد بها وينجزها وينقلها من دنيا الواجب المنشود إلى عالم التحقق الموجود، وبالتالي يركز التفكير في الحرية في التفكير في شروط إمكان تحققها وبلورتها في الحياة الإنسانية وفي التاريخ وضمن المؤسسات والتساؤل عن قيمتها.

الخطاب حول الحرية لا يقتصر على وصف الأفعال الحرة بواسطة اللغة العادية وإنما يوقع طريق التحرر نفسه ويشكل ويشتغل ضمن شبكة مختلفة من الأفعال والممارسات في سياق اجتماعي وإطار مؤسساتي.

لم يعد الأمر يتعلق بحرية في المفرد وإنما بمنظومة من الحريات في الجمع ضمن سجلات يتداخل فيها الطبيعي والمدني وبين الاجتماعي والثقافي وبين القانوني والسياسي وبين الأخلاقي والاقتصادي. كما تتحرك الحرية الفردية هنا ضمن عدد معين من حقوق الفعل تندرج في أطر مشتركة وهياكل عامة.

3- الخطاب الأساسي في الفلسفة الخالصة: (الوجود)

ينبثق الخطاب حول الحرية من السؤال التالي: كيف يجب أن تكون الواقعة متكونة في مجموعها لكي تحوز في داخلها على قيمة معطى معين اسمها الحرية وتحرص على صيانتها من كل اعتداء خارجي؟

هذا السؤال يمكن إعادة صياغتها على النحو التالي: ماهي الواقعة التي تجل من المرء فاعلا أي سيد أفعاله؟ وماهي الواقعة التي تكون ممكنة من أجل القيام بإنجاز وإتمام مشروع تحرر سياسي وأخلاقي؟

تتنزل هذه الأسئلة ضمن مستوى أنطولوجي وبعبارة أخرى هي تتساءل عن وجود الحرية والكائن الحر وليس عن مفهومه ولا عن قيمته وبالتالي تقوم بتنزيل مسألة الحرية ضمن حقل من المعطيات الملزمة مثل السببية والحتمية والإمكانية والضرورة والاتفاق والحدوث والوقائعية والإلزام والمسؤولية والاقتناع.

من هذا المنطلق إن وضع الحرية ضمن أنماط الوجود يدل على أهمية إظهار الإحداثيات التي تتضمن إشارات مرجعية حول نمط وجود الكائن الحر ضمن نمط من التساؤل ينتمي إلى بعد فلسفي خالص.[2]

غير أن الدلالة الأخلاقية للحرية قد ظهرت من ميلاد كلمة libertas في اللغة اللاتينية والتي كانت تعني قدرة الذات على اتخاذ قرار ولكنها صارت تعني حالة يكون فيها المرء لا يتبع فيه أي سيد وبعد ذلك انطبقت على من لم يكن في السجن ثم ارتبطت بغياب الإكراه الاجتماعي، على اثر ذلك بدأت تشير الى الوضعية التي يقدر فيها الكائن البشري على القيام بفعل أو الامتناع عنه انسجاما مع القرار الذي اتخذه.

لقد تحدث جون لوك على الحرية الفيزيائية وجعلها تدل على قدرة الفاعل على الفعل باتفاق مع ما يريد ودفع كامل التيار التجريبي على غرار هيوم وفولتير وشليك لكي ينتقلوا من فكرة الحرية إلى واقعة الحرية

“الحرية ليست فكرة تنتمي إلى المشيئة أو إلى التفضيل الذي يمنحه فكرنا إلى فعل دون أخر، وإنما إلى الشخص الذي يحوز على قدرة على الفعل أو على الامتناع عنه، حسب ما يحدده فكره”[3]

ينبغي أن يتنازل الإنسان عن الحرية الطبيعية التي يتمتع بها المرء في الحالة الأولى وما يقترن ذلك من شعوره بالحق في استعمال قوته الطبيعية من أجل الدفاع عن نفسه والمحافظة على بقائه في سبيل اكتساب حرية مدنية ضمن إطار اجتماعي تقوم فيه السلطة السياسية بدور الراعي لجملة من الحريات القانونية.

بعد ذلك يمكن التطرق إلى حرية الشخص التي تتحدد من خلال طريقة ظهوره على صعيد الفعل والتأثير في العالم وعلى الغير ولقد أشار أبيكتات بأن الشخص يكون حرا حينما يحيا مثلما يريد والذي لا نستطيع أن نضعه تحت الضغط والقوة وينمي إراداته بلا قيود وبلا عوائق وتتمكن رغباته من بلوغ أهدافها.

لكن يجب عدم اهمال حرية الإرادة وما يقترن بها من اقتدارات على مغالبة الحتمية وقهر الضرورة والانتصار على القدر والانخراط في إيتيقا التحرر باستهداف حرية الغير ضمن البراكسيس الجماعي.

لكن ما الفرق بين الحرية بالمعنى السلبي والحرية بالمعني الايجابي؟ وهل تخلتف الحرية في التقليد الليبيرالي عن الحرية في التقليد الجمهوري؟ وهل يساعد العلم والعقلانية التقنية على إحراز الحرية؟ ومتى تعرف منظومة حقوق الإنسان تكريسا للمواطنة العالمية واحتراما للذات البشرية من جهة جملة حرياتها؟

 

***

المصادر والمراجع:
1. ريكور (بول)، فلسفة الإرادة، الإنسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، الدار البضاء، بيروت، طبعة أولى، 2003، ص187.
2. Paul Ricœur، Liberté، in Encyclopaedia Universalis، corpus 13، France S. A، 1992. pp729- 735
******
[1] ريكور (بول)، فلسفة الإرادة، الإنسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، الدار البضاء، بيروت، طبعة أولى، 2003، ص187.
[2] Voir Paul Ricœur، Liberté، in Encyclopaedia Universalis، corpus 13، France S. A، 1992. pp729- 735
[3] Voir Locke (jean)، essai، II، 21، §10،

  الجمعة 23 دجنبر 2016.

 

‫شاهد أيضًا‬

البراءة التامة من كل ما نسب إلينا * مصطفى المتوكل الساحلي

الحمد لله والشكر الكبير لهيئة الدفاع … البراءة التامة من كل ما نسب إلينا أشارككم وأح…