في بعض الأحيان قد يُدفع النص الديني خارج الزمان والمكان، من المتعين إلى المطلق. فقد نزل النص منذ البداية في الزمان والمكان حكماً شفاهياً ثم تحول بعد ذلك إلى مرحلة التدوين. كانت الأحكام في البداية لها «أسباب نزول».
وأتى الحكم جواباً على سؤال. صحيح أن الأصوليين قالوا بعد ذلك بخصوص السبب وعموم الحكم من أجل إطلاق الأحكام. ومع ذلك فالأحكام مشروطة بأسبابها. وهذا لا يقلل من عموم النص في شيء. أما الأسئلة التي لا ينتج عنها أثر عملي وفائدة فلا إجابة في النص عليها.
ويبدو أن العجز عن معرفة أسباب الأحكام والكسل في تحليلها وسبرها قد يدفع البعض إلى تجاهلها ودفع النص خارج المكان وإطلاق الحكم. فالحكم نزل في زمان. وإذا تغير الزمان تغير الحكم تشديداً أم تخفيفاً. تشديداً مثل حالة الخمر على ثلاث درجات، وتخفيفاً مثل تحليل الرفث إلى النساء ليلة الصيام أو الحساب طبقاً للأفعال الظاهرة وليس للأفعال الباطنة. فالأحكام الشرعية موقوتة بزمانها ومكانها. فإذا تغير المكان والزمان تغيرت الأحكام. هكذا فعل عُمر في سهم المؤلفة قلوبهم عندما قوي الإسلام ولم يعد في حاجة إليهم. وكذلك فعل في إيقاف حد السرقة عام الرمادة.
من ذلك الحكم على أحد بأنه مؤمن أو كافر أو مشرك أو عاصٍ أو منافق، والشق على قلوب الناس. فليس للإنسان إلا الظاهر، والله سبحانه وتعالى يتولى السرائر. وتتعدد مفاهيم الإيمان وشروطه ومدى صلة العمل به. فليس لأحد تكفير أحد، والمجتمع يعاني من انتشار جماعات التكفير التي تحكم على المخالفين في الرأي بالتكفير، وتوقيع الحد على «الكافر» بالقتل! ويتم ذلك غيلة فتسفك دماء الأبرياء. وأمام العاصي والمنافق والفاسق، إن وجدوا، طريق الاستغفار والتوبة والله غفور رحيم يقبل التوبة من عباده. وإذا كانت في قول أحد شبهة فإنه يحمل تسعة وتسعون في المئة منها على محمل الإيمان واحتمالا واحدا فقط على محمل الشبهة.
ويجد الدين نفسه أحياناً في موقف الدفاع تجاه الحدود واتهامها من قبل المتحاملين بأنها تعدٍّ على حقوق الإنسان الجسدية. والحدود تعني العقوبات. والعقوبات للردع والتخويف. مع أن الشريعة أيضاً تطلب درء الحدود بالشبهات. والتعزير في يد الإمام للتخفيف أو للتشديد طبقاً لطبيعة الموقف. وإذا كانت الواجبات مقرونة بالحقوق، فلا واجب دون حق، ولا حق دون واجب، وعرف الإنسان واجباته بالنسبة للأوامر والنواهي فأين حقوقه؟ أين حقوقه في بيت المال للتعليم والعلاج والسكن والتأمين ضد البطالة قبل أن تقطع يد السارق؟ أين حقه في الزواج المبكر وإعانة بيت المال وعدم الإثارة الجنسية في الأفلام وأجهزة الإعلام وإغراءات العري في الأندية والطرق والحفلات الخاصة كي يطبق حد الرجم؟ الأوامر والنواهي واجبات فأين ما يقابلها من حقوق؟
والأهم من ذلك كله العقوبات الجسدية مثل القصاص. فهي في رأي المتحاملين في الغرب، ومن لا يفهمون مقاصد الشريعة المطهّرة، «مناقضة لحقوق الإنسان»، وما يسمى حق الإنسان في امتلاك جسده. والقصاص مثلاً عليه خلاف بين فقهاء القانون من مختلف الأديان والمشرعين. فبعض الشرائع والقوانين تحله مثل الشريعة الإسلامية، وقوانين بعض الولايات الأميركية وبعض الدول غيرها أيضاً في الشرق والغرب. في حين أن بعض الدول الأخرى مثل سويسرا تحرمه لأنه في رأيها ضد حق الإنسان الطبيعي في امتلاك جسده. فالكل، حياة الإنسان، لا تُرد إلى أحد أجزائها، فعل الجريمة. فالقصاص قتل بقتل، بصرف النظر عما إن كان الإعدام بالسيف أم بالحبل حول الرقبة أم الرصاص. وصورة الشنق صورة مؤلمة. فمن يتحمل لف حبل حول عنق وترك الجسد يتدلى معلقاً في الهواء حتى ينفصل الرأس عن الجسد؟ قد لا يتقبل عقل الغربي القصاص! أما إذا كان القتيل من أهله، ابنه أو ابنته، أبيه أو أمه، أخيه أو أخته، قريبه أو قريبته، فإنه يقبل القصاص عن طيب خاطر إذ لا يستطيع أن يرى القاتل أمامه حياً بعد أن قتل أحداً من أهله.
الاثنين 19 دجنبر 2016.