ما إن تجدَّدت فكرةُ الثورة في الخيارات البرنامجية لبعض المعارضات الراديكالية العربية، بأثرٍ مباشر من انتفاضات ما يسمّى «الربيع العربي» وقرقعة السلاح، وانخرطت فيها انخراطًا رمزيًا – كان أكثرُهُ باللسان – حتى وجدت نفسها منساقةً موضوعياً، وبقوّةِ دينامياتٍ دافعة صنعتْها مشاركاتُ آخرين غيرها، إلى سلوك الدروب المتعرّجة للصّدام الأهلي الداخلي، الذي ما لبِث أن تطوّر سريعاً واستفحلت أوضاعُه ليصير حرباً أهليةً مجنونة: دمَّرتِ الاقتصاد ومرافق الدولة وبُنى الحياة، ومزّقتِ النسيج الوطني وأواصر الانتماء المشترك إلى جماعةٍ وطنيةٍ واحدة، وأطلقتِ الغرائز العدوانية في الاجتماع الأهلي، بإخراجها العفريت الطائفي والمذهبي والقبلي والإثني من قُمقمه.. ناهيك بإزهاقها أرواح مئات الآلاف من المدنيين والعسكريين والأمنيين، وجرح وإعطاب أضعاف أضعافهم، وتهجير الملايين من المواطنين، من أوطانهم وتبديدهم في الآفاق! هكذا تمخّض «النضال من أجل الحرية والديمقراطية»، فأنجب الدمار والخراب والإفناء المتبادل في مَقْتَلةٍ جماعيةٍ لا سابق لها! وهكذا نشأت معادلة غريبة من «نضال» ساحات عربية ليس لها في العالم نظير: «نضال ديمقراطي» يولِّد حرباً أهلية! وقد يستحق عربُ اليوم ومعارضاتهم على هذه «النازلة» شهادةَ براءة الاختراع!

قد يكون بعضُ الاستدراك، هنا، واجباً حتى نحدّد، على وجه التحقيق والدقة، معدّل المسؤولية الذي للمعارضات العربية، أو لبعضها، فيما آلت إليه الأمور من نتائج دراماتيكية في بعض بلدان ما يسمى «الربيع العربي»، ولئلاّ يُفْهَم من نقدنا المعارضات تلك، في نهجها ذاك، وكأننا نضع على عاتقها المسؤولية حصراً، أو أننا نفترض أن الأمور كانت ستكون مختلفة فيما لو هي أحجمت عن الانخراط في زحمة فوضى السلاح، أو أمسكت عن تأييد من خاضوا فيها من الجماعات المقاتلة.

لنا ما يحملنا على الاعتقاد الجازم بأن ما حصل من تدهورٍ في الأوضاع، في بلدان عربية مثل سوريا وليبيا والعراق واليمن، كان في حكم المقضيّ من الأمور، أي أنّ حصوله كان سيظل في حكم الثابت، سواء شاركتِ المعارضات تلك أم لم تشارك في أحداث «الثورة»، فلقد كان وراء ما جرى فاعلون كثر أعلى كعباً وشأواً وقوةً من المعارضات: دول أجنبية وإقليمية ومخابرات لها عكفت عكوفاً على إدارة الأحداث بعناية؛ وجماعات مسلحة أهلية ومستوردة مُكِّنت من أسباب التسليح الأرقى وأُغدِق عليها الدعم والمساعدات حتى بات لها التمكّن والظهور على غيرها من القوى السياسية المحلية، وأنظمة قائمة قاتلت بجيوشها وقوات حلفائها لمواجهة الجماعات المسلّحة، ثم اجتماع أهليّ هشّ ويعاني نقصاً فادحاً في الاندماج الاجتماعي ، بحيث يُضمِر قابلية للانقسام على نفسه إلى عصبيات متباغضة عند أوّل امتحان سياسي كبير من النوع الذي عَرَض له في العام 2011 وما تلاه.

والحقّ أن ذلك الموقع الرمزي للمعارضات لم يَبْق رمزياً بقدرة قادر، وإنما استُثمِر فيه وبات قابلاً للصّرف، بل بات ذا قيمةٍ يمكن تعظيمُها. وآيُ ذلك أنّ كلّ الضغط الخارجي والداخلي الذي جرى على قسمٍ من بلدان «الربيع العربي»، تحركت وقائعُهُ تحت عنوان – وبمبرّر – «نصرة» مطالب الشعب والمعارضات. والأنكى والأمرّ أن هاتيك المعارضات ما أبدتْ تمنّعاً للتعاون، بل أقدمت عليه بهمّةٍ شديدة غير آبهة لما عسى أن يكون عليها أن تدفعه لقاءَهُ: من صورتها وسمعتها! وفي استعدادها للتعاون ذاك، والانخراط فيه بتكوين مجالس وائتلافات والعمل تحت سقف جدول أعمال أجنبي، ما يرتّب على ذلك الموقع المتواضع، الذي كانهُ موقعُها، قسطًا غير قليلٍ من المسؤولية السياسية والأخلاقية على ما لَحِق شعوبها ودولها من كوارث ونكبات من وراء المشاركة في تحالفات سخّرتها لخدمة القوى الماسكة بزمام الأحداث. على أنّ مسؤوليتين، هنا، لا يمكن لأيّ قراءةٍ للأحداث أن تتجاهلهما، أو تلتمس للمعارضات عذراً فيهما.

أولاهما أنها ما تحرّجت في محالفة الجماعات المسلّحة المتطرفة والتكفيرية، ولم تكن المشكلة، في تلك المحالفة، أنّ المعارضات بلعت فيها شعاراتها العلمانية والمدنية، وارتضت التقاطع مع مشروع سياسي- ديني متطرف، معاد للعلمانية والعلمانيين ومشروع الدولة المدنية فقط، وإنما مشكلتها في أنها خلعت الشرعية في المحالفة تلك، على القوى التكفيرية، بل دافعت عنها بوصفها جزءاً من قوى «الثورة» ومن مشروع «التغيير الديمقراطي» في البلاد (نظير دفاع «الإخوان المسلمين» في سوريا عن «جبهة النصرة» حين وُضِعت على قائمة المنظمات الإرهابية)! وهكذا عبّر مَن أقدم على ذلك من المعارضات عن أحطّ أنواع الانتهازية السياسية، وعن قرائن دامغة على إفلاسه السياسي.

وثانيتهما أنّ بعض من تورّط من تلك المعارضات في مغامرة الحرب الأهلية لم يحاول، عند مرحلةٍ ما من ذلك التورط، أن يسحب نفسه ممّا صارت إليه الأمور، فينأى بها عن المسؤولية، وإنما طَفِق – من غيرِ خجلٍ ومن دون أن يرُفّ له جفن – يبرّر القتل الجماعي وشلالات الدّم بالزعم أنّ لِ «الثورات» ثمناً على المجتمعات دفعهُ كي تتحرّر وتتقدّم! مستدلاً على أزعومته بما كان في تجربة الحرب الأهلية الأمريكية، والثورة الفرنسية، والثورة البلشفية وغيرها من عنفٍ دموي! وهكذا ما رأى بعضُ تلك المعارضات ما يُخجله من مقارنات بين«ثورة» جماعاته التكفيرية من أجل الدولة الثيوقراطية وثورات شعوب وأمم أخرى من أجل بناء الدولة الوطنية الحديثة والاشتراكية!!!

 

 

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …