اللقاءات الأولى مع الشهيد عمر حضنتها افتتاحيات «المحرر»؛ إذ كانت للراحل محمد البحتوري، أحد مؤطرينا في الحلقات التأسيسية للشبيبة الاتحادية بالجديدة (حيث كان علينا أولا اجتياز مرحلة العاطف قبل نيل «شرف» الانتماء التنظيمي)، قدرة استثنائية على التعرف على اسم موقع الافتتاحيات المحتجب خلف «المحرر» وكشفه لنا، مرددا «الأسلوب هو الرجل». وتمت اللقاءات غير المباشرة تلك أيضا عبر سيرته الحزبية والنقابية ودوره في صياغة التقرير الإيديولوجي مثلما رويت لنا آنذاك شفويا.
يوما واحدا قبل اغتيال الشهيد، كان من المفترض أن يصبح اللقاء مباشرا. لكنه سيستحيل مؤجلا إلى ما لا نهاية.
وبالفعل، فقد برمجت «اللجنة الإقليمية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالجديدة» محاضرة لمحمد اليازغي، بصفته عضوا في المكتب السياسي للحزب، في موضوع «اختيارنا الاشتراكي». العرض كان سيحتضنه مقر الحزب الكائن حينها بشارع الزرقطوني، زنقة 300، رقم 3، ابتداء من الساعة السادسة والنصف من مساء 17 دجنبر 1975.
التزامات ما، وربما رداءة أحوال الطقس التي جعلت الطريق من الرباط إلى الجديدة مستحيلة العبور، دفعت محمد اليازغي إلى إخبار مسؤولي اللجنة الإقليمية بأنه لن يؤطر المحاضرة، وبأن الأخ عمر بنجلون هو من سيتكلف بذلك، وهو ما أحاطنا علما به أحد مؤطرينا زوال 17 دجنبر.
رغم الأمطار المتهاطلة، عج المقر بالمناضلين وفي مقدمتهم مناضلو الشبيبة الاتحادية الموزعين بين عضو كامل العضوية وعاطف ونصير. انطلقت المحاضرة متأخرة عن موعدها المحدد بسبب تأخر المحاضر، ليلج المنزل الصغير الواقع ببوشريط الراحل مصطفى القرشاوي، مقدما اعتذار الشهيد عمر بسبب التزامات طارئة ونائبا عنه في تأطير المحاضرة «لأنه لم يكن من الممكن لا سياسيا ولا أخلاقيا تأجيل الموعد إلى وقت لاحق والتنظيم في دكالة يستعد بجدية لعقد مؤتمره الإقليمي الأول، والحزب في مرحلة إعادة البناء تنظيميا وإيديولوجيا عبر تنزيل مقررات مؤتمره الاستثنائي».
عقب مرور 24 ساعة فقط على اللقاء المباشر المؤجل مع عمر، وفي نشرة الأخبار الرئيسية بالقناة المغربية اليتيمة وقتها، أطل، من خلف شاشة جهاز التلفزيون العائلي بالأبيض والأسود، صوت مقدمة النشرة محايدا، جليديا، مثيرا للغثيان والغضب، ولأحاسيس مفجعة لا تنتاب إلا اليافعين، ولمشاعر لا لغة تستطيع الدنو من ظاهرها ولا لسانا يقدر على ترجمة عمقها، معلنا تعرض عمر للاغتيال.
هذا اللقاء المباشر الأول الذي اغتيل أمل تحققه لاحقا سيولد صنفا آخر من اللقاءات مع «الرجل» (بالمعنى المغربي الأصيل للصفة)، صنفا ملؤه قراءة فكر الشهيد وسيرته وعطائه عبر المكتوب ورقيا والمحكي شفويا.
«عم مساء عمر»، سمعت الشاعر ينشد في الذكرى الأربعينية للعملية الجبانة بقاعة الأفراح بالبيضاء. لحظتها ومنذ ذاك واليافع الذي كنته يؤمن إيمان العجائز بأن غربان الظلام نفذت قرارا مفاده: « امنعوا هذا العقل من التفكير»… ومن الفعل…