هذا السؤال خصصت له يومية «لوموند» في عددها الصادر يوم الثلاثاء 13 دجنبر الجاري صفحة للنقاش، ساهم فيها أساسا كل من لويس شوفيل، الأستاذ الجامعي بلوكسومبورغ والباحث في معهد العلوم السياسية ضمن المختبر السوسيولوجي للتغيير وصاحب كتاب «دوامة التقهقر الطبقي«.. إضافة إلى جوليان دامون الأستاذ في نفس الشعبة السياسية وصاحب «إجراءات الفقر، إجراءات ضد الفقر»..
ينطلق التساؤل من معاينة الوضع الحالي، والذي يتميز بالاندحار المتواصل والتعرية القائمة اللذين أصابا الطبقات الوسطى، وليس فقط الاقتصار على مساءلة انحطاط النموذج الاجتماعي، …ويذهب لويس شوفيل إلى اعتبار هذه التعرية »تهديدا حقيقيا للديمقراطية«..
وبالعودة إلى كتاب »تيودور جيجير« المعنون بـ»ارتباك الطبقة الوسطى«… يستعيد الباحث الفرنسي مضامين الكتاب الذي تنبأ به بأثر أزمة 1929 على الطبقة الوسطى بالأثر الممكن لذلك على ما سيحصل من بعد: أي مشاركة الطبقات الوسطى في مسلسل شاذ للخروج من الديموقراطية عبر شكل راديكالي للشعبوية….
وعند النظر إلى الوضع حاليا، نتابع معه تحليلا شفافا حول بروز «حضارة الطبقة الوسطى« كما عبر عنها ألكسندر كويري..Alexandre koyré: la civilisation de la classe moyenne منذ الخمسينيات ..
وهذه الحضارة تستند الى 7 أعمدة…. أو سبعة أسس هي:
– وجود فئة مستقرة من المأجورين، فئة منسجمة وحاضرة بقوة بأغلبية ساحقة..
– مجتمع استهلاكي بوفرة في الإنتاج تصل إلى الجماهير
– اتساع الحماية الاجتماعية للدولة(بطالة، صحة، شيخوخة…) حيث لا تصبح الملكية هي الضامن الوحيد للمسار المعيشي
-انتشار التعليم والدينامية الاجتماعية بالترقي
– الإيمان بالتطور الاقتصادي عبر العلوم التقنية
– وصول الطبقات الوسطى …إلى مركز القرار السياسي
– وأخيرا الديموقراطية التمثيلية المستقرة والعقلانية..
وفي الواقع نشهد تراجعا كبيرا لكل هذه المقومات، باستثناء طبعا الإيمان بالتقدم الاقتصادي…
وهو ما يجعل اليسار يفقد، حين تكيف مع هذه التعرية الواسعة للطبقة الوسطى ، الأساس الاجتماعي لوجوده.
ولتعريف هذا الأثر يدعو جوليان دامون كل «التقدميين إلى القطع مع الاحتقار الاجتماعي«..
يقول دامون» الطبقات الوسطى انجرفت، بمتاعها الانتخابي وسلاحها الثقافي، من كونها طبقات شعبية إلى طبقات شعبوية، في حين أن اليسار الاجتماعي يتحول إلى يسار مجتمعي.«.
ومن فيض بؤسها صارت الطبقات الوسطى محط احتقار … يساري!
الكثير من مظاهرها تتعرض للسخرية من طرف اليساريين ، كما يقول دامون، وهو ما قد نلمسه حتى في الدول التي لا تعرف نفس درجة التطور، وأحيانا يتم الهجوم عليها لأنها اختارت غير اليسار…!
ومن المفارقات أيضا أن الطبقة الوسطى يبحث عنها حتى اليمين اليوم!
والحكومات
لم تعد الطبقات الوسطى طبقات ثورية.. كما عرفناها طيلة قرنين من الزمن، …وهي لا تحلم بدكتاتورية البروليتاريا ولا بالرأسمالية الخدماتية..
في مدننا اليوم ، تتجه الطبقات الوسطى إلى الحاشية
إلى الضاحية، في حين تبدو المدن منجرة بعيدا عن اليسار ..ويبدو أن هذه الطبقات التي حملت في زمن ما التيار القومي ثم القومي اليساري ثم اليساري الوطني، تتجه نحو المحافظة، عندما تكون مشروعا للسياسة..
مرة كتبت بمرح عن هذه الطبقات الوسطى التي اكتشفتها الحكومة فجأة
كان ذلك في عهد الأستاذ عباس الفاسي:
وعادت الطبقة الوسطى إلى عهدها في القاعات المكيفة وإلى الاستعارات الجميلة.. وبدا ألا شيء أهم من الطبقة الوسطى سوى الحديث عن الطبقة الوسطى ،
وخير الطبقات أوسطها
وحتى التي تحتها، وأما الذين هم في الأسفل فلهم نخبة تتذكرهم عندما يسقط المطر ( وبالرغم من كل المياه النازلة ما زال الغبار يعلو وجوهنا ويعلو طريقنا؟). وقد تحدثت المعارضة عن الطبقة الوسطى طويلا حتى خلتها من السنن..
وتحدث الوزير الأول عن الطبقة الوسطى بعطف كبير حتى اعتقدت بأنها مرسوم يقوي صلاحياته.
وحتى المذيع الذي لم يكن يعرف سوى طبقات فحول الشعراء، خاطبها بعناية فائقة كما لو أنه يتأهب لربطة عنق فاخرة. ومن كثرة ما تحدثوا عن الطبقة الوسطى والطويلة الأمد، قلنا إنه آخر اكتشاف جاء به المغاربة إلى العالم.
. وهكذا كنا أول وطن يرمي بالطبقة الوسطى كما يرمي البناؤون »الضالا «، ولا أحد اعتذر للطبقة الوسطى منذ أن قرروا تقزيمها وتجويعها وإفراغها من محتواها.. ولا أحد قال بأنه كانت لنا طبقة وسطى قرروا تجويعها لكي تتبعهم وتترك مطالبها.. والسؤال الذي لابد منه : هل يمكن أن نقبل بالطبقة الوسطى ،…. بلغتها ومطامحها ومشروعها التحديثي ولا ندفع بها إلى دور آخر واحتجاج باسم أفق آخر؟
فلا يمكن أن نبني الطبقة الوسطى كما نبني شقق السكن الاجتماعي.
الطبقة الوسطى أسس مشروع ومجتمع وفكرة عن الحضارة والوجود … ولا يكفي أن نقول عليكم بالطبقة الوسطى ، لكي تكون لنا هذه الطبقة أو لكي يوجد مشروعها.. الطبقة الوسطى هي أيضا اختيار فوق الطبقات كلها …وعندما تترك اليسار فقد تكون نهايته لأنه التيار الوحيد الذي لا يمكنه العيش بدون طبقة وسطى.