قد لا يكون المطلوب – على المستوى العملي- تبرئة بعض تأويلات الدين من محاولة استغلالها لتبرير بعض انتهاكات حقوق الإنسان، بل المطلوب الدفاع عن حقوق الإنسان في الواقع اعتماداً على النص الديني. المطلوب هو إيقاف التعديات،
والمطالبة بحقوق الإنسان الرئيسية في الحياة العامة، في التعليم والعلاج والإسكان والمواصلات والعمل ورعاية كبار السن والمعوقين. فما هو الأساس النظري الذي يمكن الاستناد إليه؟ وما هي التشريعات العملية التي يمكن سنّها حتى لا تنتهك حقوق الإنسان باسم الدين؟ أوليس العلم هو الأساس الذي يمكن الاستناد عليه؟
وإذا كان القدماء قد صاغوا تأويلات متعددة للنص الديني فهل يمكن إعادة تأويل بعضها بحيث يصبح أساساً نظرياً لحقوق الإنسان؟ مع استحضار وجود الوعي بالذات الإنسانية الذي طالما بحث عنه الفلاسفة في كل حضارة، سقراط في الحضارة اليونانية «اعرف نفسك بنفسك»، وكذلك «في داخلك أيها الإنسان تسكن الحقيقة» لأوغسطين في الحضارة المسيحية، و«أنا أفكر إذن أنا موجود» في بداية العصور الحديثة عند ديكارت وكانط، و«الأنا تضع نفسها حين تقاوم» عند فيشته، و«الوجود الذاتي» عند فلاسفة الوجود المعاصرين. فالإنسان موجود ولا يمكن نفيه أو إلغاؤه أو التنكر له. والمطلوب هو إثبات وجود الإنسان وحقوقه الأساسية. وهي تجربة إنسانية، إحساس داخلي، وبداهة حسية لا تحتاج إلى إثبات. والحق الإنساني، معيار واحد شامل للناس جميعاً يحمي من الازدواجية في السلوك بين القول والعمل، وبين الفكر والوجدان. ويمنع من ازدواجية المعايير بين البشر.
وهذا الوعي الذاتي المتأسس على المعرفة يتصف بعدة أوصاف. فالعلم هو أساس الوعي، أي حق الإنسان في المعرفة والتعلم ضد الجهل والأمية وانعدام المعلومات. فالمعرفة للجميع متاحة للبشر كحق طبيعي لا أسرار فيها ولا احتكار، بحيث تتاح للبعض دون البعض الآخر. ولذلك جعل الأصوليون العقل أحد المقاصد الكلية للشريعة. والعلم هو العلم النافع، العلم القادر على تغيير حياة البشر إلى ما هو أفضل، العلم الذي تصحبه قوة عملية، علم الأقوياء وليس علم الضعفاء، ضد العجز والتبعية والضعف والاستكانة والسلبية والاستسلام. والعلم والقدرة المعرفية كلاهما مظهران لصنع الحياة ضد الموت والجوع والجفاف والتصحر والمرض والوباء والزلازل والبراكين والفيضانات وجميع أنواع الكوارث الطبيعية. ولذلك جعل الأصوليون الحياة أحد مقاصد الشريعة. وتوفير ظروف الحياة الكريمة يمكن أن يتم بالعلم الإنساني، والقدرة على التفكير والتعلم هما صفتان للكائن الحي، للإنسان صاحب العقل النظري والعقل العملي. فمن حق الإنسان أن يستفيد من قدراته ومعارفه على أكمل وجه. وإلى جانب العقل هنالك أيضاً ملَكات النفس والحواس كالسمع والبصر والكلام والإرادة، لكون العلم مرتبطاً بالحواس والسمع والبصر. فالعلم الحديث هو العلم الحسي التجريبي وليس فقط العلم النظري الاستدلالي. والسمع لنقل تجارب الآخرين. والبصر لمشاهدة الآيات والعلامات والظواهر الطبيعية. والكلام أي العلم للتبليغ والتواصل. كما يسمع بالأذن ويُرى بالبصر، ويُبلغ باللسان. فلا يوجد علم صامت كما يقول الصوفية. ولا يوجد علم سري يحتفظ به أحد لنفسه دون أن يبلغه للغير. أما الإرادة فتعني العلم الموضوعي المجرد عن الهوى والذي يعبر عن حقائق موضوعية وليس أهواء بشرية. العلم لا شأن له بالرغبات والنزوات والميول. فهذه تأتي وتذهب، تشتد وتضعف. العلم نسق موضوعي، ينقله جيل عن جيل.