لقد التزم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في برنامجه الانتخابي، الذي قدمه كمشروع تعاقد جديد مع الشعب المغربي، خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عرفتها بلادنا، ببلورة وتنفيذ إستراتيجية تنموية تهدف إلى خلق نموذج متكامل ومندمج قائم على التضامن الاجتماعي والعدالة الترابية والهيكلة العقلانية والجاذبية الاستثمارية، نموذج تنموي جديد، أو بالأحرى بديل تنموي مستمد من هوية الحزب الاشتراكية الديمقراطية ومستجيب للمعطيات الاقتصادية والمجتمعية الراهنة ومسهم في تشجيع وتيرة التنافسية الاقتصادية وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين وتقوية البعد الجهوي.
وتطلع الاتحاد الاشتراكي عبر هذا النموذج القائم على تعاقد اقتصادي ذي بعد اجتماعي بجيل جديد من الإصلاحات، إلى تسريع النمو، ليصل إلى نسبة 5,5 % وتقليص البطالة إلى 8 % كحد أقصى والرفع من مناصب الشغل بإحداث 150 ألف منصب شغل صاف سنويا والزيادة في معدل الدخل الفردي بنسبة 20 %، من خلال تأهيل كل القطاعات المرتبطة و المتصلة بالمجال الاقتصادي و المالي، كقطاع المالية والضرائب ، القطاع البنكي ، الفلاحة، الصناعة ، الصيد البحري ، الطاقة ، التجارة ، النقل والتنقل ، الاقتصاد الرقمي ، الاقتصاد الاجتماعي و السياحة.
1 المالية والضرائب : نمو ضعيف .. عجز حاد واختناق مالي
شهد المغرب، على مدار العشرين سنة الماضية، في ما يتعلق بالنمو الاقتصادي إنجازات متفاوتة الدرجة حيث انتقل نمو الناتج الداخلي الخام من 2,3 % خلال عقد التسعينيات إلى 7,4 % خلال سنوات 2000. وقد تمكنت البلاد، خلال هذه الفترة، من التحكم في توازناتها الاقتصادية الكبرى وتحسين مناخ الأعمال، معتمدة استراتيجية قائمة على توسيع الطلب الداخلي خاصة على مستوى الاستثمارات العمومية. وكانت لهذه الاستراتيجية آثار إيجابية إذ مكنت من تحقيق نسبة نمو متميزة وتوفير البنيات التحتية لتحسين الولوج إلى الخدمات الأساسية (الماء الصالح للشرب، الكهرباء، الطرق، …) والتقليص من نسب الفقر والهشاشة، مع الحفاظ على نسبة التضخم في مستويات مقبولة نسبيا.
غير أن هذا العمل الاستراتيجي بلغ مداه، وعجزت الحكومة السابقة عن إيجاد نموذج تنموي أفضل لإعطاء نفس جديد للاقتصاد الوطني بما يتلاءم مع التوجهات العامة للبلاد والتحولات الهامة التي عرفها السياق العالمي. وهكذا، شكلت الخمس سنوات الماضية ولاية ضائعة كرست توجها سياسيا مجحفا ومتقشفا أضر بالقدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين وأضعف النسيج الاقتصادي والمالي الوطني وأدى إلى تراجعات وانتكاسات خطيرة في العديد من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية.
ففي عهد الحكومة السابقة، تدهورت الحسابات العمومية، إذ بلغ عجز الخزينة معدل 5,5 % من الناتج الداخلي الخام، وارتفعت المديونية العمومية حتى دنت من مستوى عدم القدرة على تحملها إذ بلغت المديونية العامة 71,2 % من الناتج الداخلي الخام في الفترة ما بين 2011 و2016، وتراجع الموقع الخارجي للبلاد حيث سجل ارتفاع العجز التجاري لميزان الأداءات مقارنة بما سجل خلال سنوات 2000، ليصل إلى 7,8 % خلال نفس الفترة أي من 2011 إلى 2016، وفي عهدها انخفضت نسبة النمو إذ لم تتجاوز في المعدل 3,6 %، أي ناقص 2,5 نقطة من نسبة النمو خلال الفترة بين 2000 و 2010، وهي الحالة التي نتجت أساسا عن غياب إرادة حقيقية ومبادرات شجاعة قادرة على معالجة الاختلالات المتعلقة بالميزانية، سواء على مستوى نفقات الدولة أو على مستوى مداخيلها، بالإضافة إلى عدم قدرة الحكومة السابقة على توفير الآليات الكفيلة بعقلنة النفقات العامة وإعادة توجيهها لتتسم بالنجاعة، وهي الحالة التي انعكست وأثرت بطبيعة الحال على مختلف السياسات القطاعية، مما نتج عنه تدهور حاد سواء على مستوى عيش المغاربة، وذلك على الرغم من انخفاض أسعار المواد الأولية والطاقية، أو على مستوى وضعية التشغيل، بحيث خسر الاقتصاد الوطني أكثر من 140 ألف منصب شغل خلال الأربع سنوات الماضية، في الوقت الذي وعدت فيه الحكومة بإحداث 130 ألف منصب شغل سنويا.
هذا الواقع هو ما جعل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ينطلق من فلسفة إ عطاء نفس جديد للاقتصاد الوطني، ليقترح نموذجا تنمويا جديدا يتأسس على الإصلاح الاقتصادي الشامل الكفيل بتحقيق وتيرة نمو مناسبة ومنتظمة ومستدامة، ويستند إلى إبداع آليات جديدة للرفع من الاستثمارات وتقوية التنافسية وتشجيع الابتكار. وهو نموذج اقتصادي يتمحور حول تأهيل السياسة المالية وتحسين الحكامة العمومية بما يمكن من تقليص الفوارق الاجتماعية وتحصين القدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين وإقرار العدالة المالية والإنصاف الاقتصادي، وذلك بسن سياسة مالية ناجعة، تتمركز أساسا على عقلنة المصاريف من أجل نجاعة أكبر للتدخل الحكومي، وعلى ضرورة إطلاق حوار وطني حول إرساء إصلاح حقيقي لنظام المقاصة ومجموع ترسانة المساعدات العمومية، أي إرساء نظام للحماية الاجتماعية موجه بشكل مشروط ومضبوط للفئات المعوزة، وخاصة خلق تعويض أدنى لضمان كرامة كل المواطنات والمواطنين، ثم العمل على إعادة توجيه نفقات الاستثمار عبر تقليص نفقات التسيير و عبر عقلنتها وإعادة هيكلتها بالنسبة لكل القطاعات، والزيادة في نفقات الاستثمار العمومي (البنية التحتية الأساسية)، ثم بإقرار سياسة قائمة على مبدأ العدالة المجالية من خلال ضمان توزيع أفضل للاستثمار العمومي بين الجهات.