سنة الاختلاف والفطرة…

==============

مصطفى المتوكل

تارودانت الاربعاء 19 يونيو 2013

قال تعالى (( ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولايزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقناهم ))هود 119

وفي الحديث الشريف ” ما من مولود الا ويولد على الفطرة .فابواه يهودانه او ينصرانه او يمجسانه …”البخاري

عندما نقوم بجرد لمعارفنا وتاريخ الانسان والشعوب سنجد ان الاختلاف قائم وثابث ومتنوع لدرجة يصعب معها حصر التنوع والتباين والاحاطة به …فمن الشعوب مازال يعيش عصور ما قبل التاريخ ومنهم من يحيى حياة بدائية شبه حيوانية ومنهم من يتلمس بعض المعارف الاولية البسيطة والسطحية ومنهم المتخلف والسائر في طريق النمو والمتقدم و…..ولكل نوع منهم او امة او شعب او قبيلة ثقافته واخلاقه وقوانينه بما في ذلك من يصنف في بدايات التاريخ …ومنهم لحد الساعة من لاعلم له بالانبياء والرسل والكتب السماوية بل منهم من  لا يعلم بوجود الخالق كما منهم من ابتدع لنفسه او لمجتمعه الهة من الحيوانات او الطبيعة او اله الاشخاص وكل منهم يعتقد انه على حق وما عداه هو الضلال …كما ان التنوع الثقافي واللغوي والاعراق والاجناس والمعتقدات  تتجاوز المئات عددا.. فمن سن هذا الاختلاف وهذا التباين ؟ومن جعل الديانات السماوية واحدة وهي الاسلام ” ان الدين عند الله الاسلام ” وارسل الالاف من الانبياء والرسل لهداية الناس واكمال الرسالة السماوية وتبليغها بكل صيغها الى الصيغة التي ختمت بها على يد سيد  الخلق عليه الصلاة والتسليم ؟؟ بطبيعة الحال الله  سبحانه وتعالى  هو من سن للكون والوجود  والمخلوقات مساراتهم وقوانينهم ..حيث ارسل الله مبعوثين لانفسهم او لاسرتهم او لعشيرتهم او لامتهم او للناس كافة …وكان عدد الانبياء 124 الف نبي  والرسل منهم 313 رسول كان اولهم ادم كما روى ابوذر (ض)  قلة منهم  من العرب قال تعالى (( انا ارسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وان من امة الا خلا فيها نذير )) فاطر /24……………….ومن المعلوم تاريخيا وجغرافيا ان منطقة الرسالات هي الشرق الاوسط والمحيط القريب منها …مما يتطلب معه لانتشارها مجهودات كبيرة وضخمة لتصل الى اوروبا وافريقيا واسيا وامريكا على مدى قرون وقرون مدا وجزرا ….ووصول الرسالات  الى الناس مصطبغة باجتهادات ومذاهب الاجـيال المواكبة للرسل  وما بعدهم يجعلنا نقف على تنوع مذهبي كبير يصل احيانا درجات من التباعد والتعارض واحيانا اخرى التكامل والتقارب في التوجهات والفهم والمرجعيات ..والمجال هنا لن يتسع لنذكر بالمذهبية والمذاهب …

ان التطور في الوعي لدى البشر والفهم المتنور للمؤمنين جعلهم في مواجهة للمتعصبين والمتشددين الرافضين للحق في الاختلاف والحق في الايمان من عدمه باي دين او دين بعينه او اي مذهب او منهج فكري . .. – قلت جعلهم -يتارجحون بين القتال والحروب الدامية والمجازر والتصفيات العرقية والمذهبية والثقافية الى ان تفنى شعوب او تقترب من الابادة او تندثر حضارات لتقوم اخرى على انقاض سابقتها …واستغرق هذا كل حقب التاريخ الى يومنا هذا ومازال التنوع يفرض نفسه بل ويزداد التشبث به حدة وقوة وتعصبا لدرجة ان حتى ماكان ذائبا في المنظومة المجتمعية بفعل قوة الدولة وهيمنتها اصبح اليوم يدافع عن الخصوصية والتنوع والاختلاف في كل درجاته وكاننا نتجه الى تفتيت المجتمعات الى وحداتها الاساسية الاولى  في العالم لاعادة بنا الدول على اسس جديدة تكون فيها كل الحساسيات الثقافية والعقدية والجنسية لها كيان ووجود واضح وقانوني

ومما يؤسف له اننا نرى في عالمنا الكثير ممن يعمل على  الزام الاخرين باعتناق عقيدة ما ليس بالاقناع والحوار والحجة …بل بالالزام والاكراه والتهديد والترهيب …مثل ما نراه في بورما وبعض مناطق افريقيا واسيا وامريكا واوروبا و……مع العلم ان كل هؤلاء يعرفون حق المعرفة ان ما جعله الله سنة في خلقه ومخلوقاته يستحيل على اي كان ان يلغي كل التنوع بالارض لفائدة اقرار نوع وحيد ..ولو كان هذا ممكنا لكان الفضل في ذلك للانبياء ليحققوه وليس لغيرهم …

ان المشترك بين كل شعوب الارض كثير له علاقة بالفطرة السليمة والعقل الانساني من حب وحسن وقبح وصدق وكذب وتعاطف وتازر وتعاون وتكامل وتبادل المنافع و….وان المختلف  فيه في غالبيته الكبرى ليس قبيحا ولا داخلا في خانة الفساد والبطلان  من مثل الحرف والمهن والتنظيم والعمران والعلوم والمعارف والصناعات والتحكم وتنظيم القدرات والامكانيات والتنوع في  المنظومات المعاشية والتطبيب … كما ان المختلف فيه جوهريا على مستوى العقيده المفروض فيه شرعا وعرفا وقانونا واخلاقا ان يحترم كل واحد معتقد الاخر وان يميلوا جميعا  بعد الاحترام الى النقاش الرصين والموضوعي مع اجتناب التعصب والتشدد والاحكام التي قد تشعل حروبا وفتنا لن تلغي الاخر بل ستزيده اصرارا  وتدفعه الى ردود افعال مماثلة او اعنف وهذا كذلك من طبيعة البشر …

قال الامام الشافعي (( ما كلمت احدا قط الا احببت ان يوفق ويسدد ويعان وتكون عليه رعاية الله وحفظه))

يقول الحافظ الذهبي : ( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ )

يقول الغزالي : ( إن التعصّب من آفات علماء السوء، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه . ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم )

ومن روائع اقوال الامام الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته، وما جادلني جاهل إلا غلبني ! )

وفي الاثر (( لايزال الناس بخير ما تباينوا فاذا تساووا هلكوا ))

ان التنوع والاختلاف سنة  من مظاهر الرحمة الالهية شريطة ان يكون اهل الارض عقلاء بادراكهم وايمانهم بان الله خلقهم  شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا ويتكاملوا ويحترم بعضهم بعضا …فكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رحيما عادلا محترما لمعتقدات الاخرين يخيرهم ولا يكرههم وكانت العهدة العمرية روعة في اقرار الحق في الاختلاف ورعايته وحمايته …وكان الصحابة والتابعين وكبار الائمة يجتهدون في كل القضايا فيختلفون في الاستنتاج والاحكام رغم ان المصدر هو الكتاب والسنة وكل واحد يستدل منهما ليعلل موقفه وخلاصاته وما ذهب اليه اجتهاده لكن لااحد سفه او رفض ما ذهب اليه غيره ..الا انه عندما يتجاوز اي كان الحدود العلمية الشرعية الا ويدخل في التطرف والغلو كما حصل للذين يعللون قتل عثمان رضي الله عنه او قتل علي او قتل سيدنا الحسين او غيرهم ممن قتل من خيرة العلماء والفقهاء والمفكرين بفعل من يزرعون الفكر التكفيري في عقول البعض ليشعلوا النار في كل شيئ حتى في انفسهم بجر ودفع غيرهم الى الدفاع عن انفسهم او قناعاتهم او مذهبهم …فلو نفع القتل والتقتيل والحروب التي دامت وتدووم عشرات السنين لما استمرت ولا انتهت من عقود …لكن المؤكد ان بين الناس من لايرتاح الا اذا اوقد فتنة كما لايرتاح الشيطان الا اذا دفع البشر الى النار دفعا ..

ونختم هذه المقالة بالوقوف على حقيقة اخرى دامغة …هل يمكن للسب والطعن والتجريح والكلام الفاحش ان يحقق ما عجزت الحروب والديكتاتوريات عبر التاريخ في مواجهة المخالفين والمختلفين   ؟؟

وفي حديث لابن مسعود قال رسول الله (ص)” ليس المؤمن باللعان ولا بالطعان ولا الفاحش ولا البذيئ”…ومن تحصيل الحاصل ليس بسافك دم ولا منتهك حرمات ولا مثير للفتن …

وصدق الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عندما قال : “والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان . “…ومن نصائح الرسول صلى الله عليه  وسلم : لآبي ذر الغفاري : ( عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان, وعون لك على أمر دينك )

تارودانت /19يونيو 2013

‫شاهد أيضًا‬

دراسات في مناهج النقد الأدبي – نظريّة أو منهج الانعكاس .* د . عدنان عويّد

مدخل:      مفهوم نظريّة الأدب: تُعرف نظريّة الأدب بأنّها “مجموعة…