إلى أين تتجه أروبا؟
الظاهر أن هذا السؤال، أصبح يعنينا بإلحاحية كبيرة في فضاءنا المتوسطي، معرفيا وتحليليا وسياسيا، بحكم درجة تعالقنا مع خيوط تلك القارة العجوز. ومبعث القلق آت، من التجربة التي تراكمت سلوكيا، على مستوى الممارسة السياسية، ذات السند الإجتماعي، بها خلال القرنين 19 و 20. فهي تجربة سجلت فقط لمنطق مواجهات عنيفة ولمنطق القطائع.
إن أسباب القلق، آتية من شكل التفاعل المنتظر خلال العشرية القادمة، بأروبا، مع تنامي صعود اليمين المتطرف بها، سواء في باريس أو لندن أو أمستردام أو برلين أو فيينا أو روما، الذي هو نتيجة ليس فقط لأزمة سياسية واجتماعية وهوياتية مركبة بالمجتمعات الأروبية، بل إنه نتيجة للتراجع العالمي للفكرة والدور الأروبي. إذ، علينا، جديا الإنتباه كيف أن المركزية الغربية الأروبية، التي بدأت في التراجع منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي، قيميا وسياسيا واقتصاديا، قد بلغت اليوم نقطة التحول الأكير في فقدان تأثيرها على منظومة العلاقات الدولية، التي أصبحت تصنع في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا والمحيط الهادئ. وأنها بعد أن كانت هي مصدر القرار الإقتصادي والسياسي والأمني في العالم، منذ القرن 18، حتى نهايات القرن 20، قد أصبحت اليوم تابعة فقط إما للقوة الأمريكية أو القوة الصينية أو القوة الهندية. ما يجعلها في لحظة تحول غير مسبوقة، تؤسس لمنطق أزمة مع الذات هناك، في تلك المركزية الأروبية.
إن النتيجة المعلنة عن نفسها منذ عقد من الزمان، هو تنامي تيار التطرف والإنغلاق في الوعي الأروبي. وهذه نتيجة مقلقة، علينا في بلداننا بالجنوب المتوسطي (فنحن أول وأكبر جيران وضحايا تلك المركزية الأروبية منذ نهاية القرن 18)، أن نحسن قراءتها ونهيئ لها جيدا كل أشكال الإستيعاب لتطوراتها المقلقة القادمة. خاصة على مستوى منظومة القيم، وأيضا على مستوى سؤال الهجرة واليد العاملة المهاجرة هناك، التي تفرز تطرفات مغربية ومغاربية متعددة غير مسبوقة. لأنه علينا الإنتباه، كيف أنه كلما تبلورت أزمة توجه وأزمة هوية وأزمة تدبير سياسي في تلك القارة العجوز، كلما فتح الباب للحسم العنيف المتطرف فيها. ليس أقلها التوجه الإستعماري لأنظمتها، لحل مشاكلها التدبيرية وحاجتها للأسواق والمواد الأولية، بكل العنف الذي صاحب ذلك. ثم، أيضا ميلاد التيارات السياسية القومية التي تطورت نحو الفاشية، بعد نتائج الأزمة العالمية لسنة 1929، التي كان تجليها ليس كامنا فقط في النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، بل أيضا في نظام فيشي الفرنسي وفي ديكتاتورية العسكر في البرتغال وإسبانيا واليونان.
ليس مستبعدا، اليوم، أن تكون النتائج متشابهة في أروبا، وربما بشكل أعنف، لأن السبب هذه المرة أكثر إيلاما للوعي الأروبي. الوعي الذي يستشعر فقدانه لدوره التاريخي في قيادة العالم، كما ظل يتحقق منذ ميلاد المركزية الغربية. وإذا كانت واشنطن، ضمن هذه المنظومة الغربية هي الوحيدة المؤهلة للتحول مع ما أصبح يفرضه دفتر تحملات العلاقات الدولية الجديدة، الذي تحدد نصوصه قوى عالمية جديدة صاعدة، من خارج تلك المركزية الأروبية. إذا كانت واشنطن هي الوحيدة القادرة على التواؤم مع هذه التحولات العالمية الجديدة للقرن 21 (بدليل ما يمثله تيار رئيسها الجديد دونالد ترامب، الحمائي، المناهض للعولمة التي لم تعد تخدم الرأسمال الوطني الأمريكي)، فإن باقي المجموعات الإجتماعية الأروبية غير مؤهلة لذلك. وأنه يخشى أن الطريق الوحيدة التي بقيت مفتوحة هناك، هي طريق تيارات المحافظة القصوى والتطرف والإنغلاقية.
كيف سيكون عالم القرن 21 متوسطيا بسبب هذه التحولات المعتملة في القارة العجوز؟. إنه واحد من الأسئلة الإستراتيجية الجدية التي علينا في فضاءنا الآفرو متوسطي أن نواجهها بمنطق التوقع والإستعداد. وأنه علينا توقع أصعب السيناريوهات في القادم من السنوات، في شكل علاقتنا مع أروبا، التي نجد بعض عناوينها في لامبيدوزا وفي مضيق جبل طارق. وأيضا في نتائج العمليات الإنتخابية هناك، التي ظهرت وستظهر في لندن وباريس وفيينا وأمستردام وروما، التي تفتح الباب أمام اليمين المتطرف للحكم. إن اليمين الجديد قادم، هناك بقوة، سواء في شقه المحافظ أو في شقه المتطرف، وحين سيمتلك سلطة القرار السياسي والإقتصادي والعسكري، فإننا سنجد أنفسنا ربما ضحايا جدد لمنطق التاريخ، بذات الشكل الذي وقع في نهاية القرن 19، وطيلة القرن 20، إذا لم نحسن بلورة الجواب الوطني في جغرافياتنا بالجنوب المتوسطي.
الحل في فطنة بلورة فضاء آفرو متوسطي غير مسبوق دولتيا ومؤسساتيا وأمنيا وثقافيا، من المغرب حتى مصر، من السينغال حتى الصومال. غير ذلك، سنعيد تكرار أخطاء ماضينا القريب ببلادة.