مقدمة
اهتم فقهاء منطقة سوس الواقعة جنوب المغرب في القرون الماضية بقضايا المرأة كغيرها من القضايا، وراعوا في فتاويهم خصوصيتهم الظرفية وبيئتهم، وسعوا من خلال هذه الفتاوى إلى حل إشكالات مطروحة على أنظارهم في ذلك الزمان. وتعكس هذه الفتاوى اجتهاد الفقهاء الرامي إلى إعطاء حلول تحقق العدل وتنصف النساء في ظل واقعهم المعيش. وجُمعت هذه الفتاوى السوسية ودُونت في عدد من الكتب التي تتناول فقه النوازل في سوس، وتقدم معلومات مضيئة في هذا الموضوع دالة على مراعاة فقهاء النوازل البيئة المحيطة بالنساء ودورهن في مجتمعهن البدوي. فما هي النوازل السوسية؟ وما هي خصائصها؟ وكيف تعاملت مع قضايا النساء؟
نظرة على النوازل السوسية:
اقتضت طبيعة الشريعة الإسلامية ظهور النوازل لأنها تواكب حياة الأفراد وتقرر حقوقهم وواجباتهم. وتقترن “النوازل السوسية” بمنطقة جغرافية معينة، وتتسم بالمحلية، وتكون بذلك متأثرة بمؤثراتها الوقتية. وعلى مستوى التعريف اللغوي، فالنزول هي الحلول، والنازلة هي الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس، ومن هذا المعنى أخذت النوازل الفقهية. فالنوازل الفقهية هي تلك الحوادث والوقائع اليومية التي تنزل بالناس، فيتجهون إلى الفقهاء للبحث عن الحلول الشرعية لها. وتمثل النوازل الأحداث الحية التي عاشها الناس، وتختلف عن الافتراضات النظرية التي طالما شعبت الفقه وعقدته. وتستدعي هذه الأحداث الظرفية اجتهاد الفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية الملائمة. وتعكس فتاوى فقهاء سوس في القرون الماضية الجهد الفكري الذي بذلته هذه الفئة من المفكرين لمواجهة المعضلات التي أفرزتها وقائع الحياة في بادية سوس حينئذ، وهو ما يدخل في باب الاجتهاد المأمور به شرعا. ونُقل عن فقهاء سوس انفتاحهم الفكري الإيجابي لدى بحثهم عن الحكم الشرعي السديد أينما وجد، إما بتبادل الفتوى ومقارعة الرأي بالرأي والدليل بالدليل، أو باستفتاء علماء الحواضر المغربية كمراكش وفاس، أو أحيانا بمراسلة علماء مصر وعلماء الحجاز.
وتُشخص النوازل السوسية وقضاياها خصائص المجتمع السوسي بجميع طبقاته، إذ بدأت بسيطة المحتوى والمضمون، ولكن ما لبثت أن اتسع ميدانها لتعم جميع مرافق الحياة. وتعد هذه النوازل سجلا واقعيا للعادات والتقاليد والأعراف المتأصلة في المجتمع، وترصد الأحداث والوقائع المهمة التي أغفلها المؤرخ وسجلتها كتب النوازل. وليكون الفقيه نوازليا، يتحتم عليه النزول من برجه العاجي والخروج من خلوته الهادئة ليدخل واقع الحياة المضطربة. وكان الفقيه في بعض الوقائع ضحية فتاويه ونوازله مثلما أشار المرحوم الدكتور العبادي في كتابه “فقه النوازل في سوس” إلى قتل فقيه من أجل فتوى أفتاها، ورحيل فقيه آخر عن بلده بعد تقاتل الأطراف المتخاصمة عقب فتواه بينهما. كما كان الفقيه يجد نفسه في بعض الأحيان في وسط النزاعات السياسية، فيستخدم علمه وقلمه لنصرة جهة معينة.
وكانت النوازل السوسية تراعي الأوضاع السياسية لسوس، وتعتني بالوضعية الاجتماعية من خلال مجموعة من القضايا، وتساعد المجتمع البدوي على تصريف شؤون الحياة. كما شغلت المرأة ووضعيتها في المجتمع ودورها من خلال ما تقوم به من أعمال داخل البيت وخارجه حيزا كبيرا من مسائل النوازل السوسية، وتظهر العناية بالمرأة من خلال أحكام الجهاز والصداق والشوار وأحكام الكد والسعاية، ومساهمة المرأة مع الرجل في تنمية المجتمع، إلى جانب الاهتمام بتعليم البنات والبنين…
قضايا النساء في النوازل:
عُرضت مجموعة من قضايا النساء على أنظار فقهاء سوس. وتشمل شؤون المرأة نوازل الجهاز والشوار والصداق والولي والصيانة من الفساد والهروب بالنساء وتعليم البنات. وقد قدم العلامة محمد المختار السوسي في كتابه “المجموعة الفقهية في الفتاوي السوسية” وغيره نماذج من هذه النوازل والحلول المقترحة. وسنقتصر في هذا المقال على ثلاثة نماذج تتمثل في مسألة الكد والسعاية والإرث والإضرار بالزوجة.
الكد والسعاية:
السعاية هي القصد والعمل والكسب للعيال، ومنه قوله تعالى ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ﴾ (النجم:39-40)، وقول الرسول ﷺ: “الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل، الصائم النهار” (فتح الباري: 9/497). وتكتسي السعاية عند الفقهاء والقضاة في سوس أهمية خاصة، باعتبارها إحدى المعضلات الفقهية التي شغلت باب النوازليين منذ نشوء فقه النوازل، إذ ما زالت الزوجات المطلقات أو المتوفى عنهن أزواجهن يطلبن حظهن في السعاية أمام المحاكم. وأعطى الفقهاء النوازليون عمل المرأة هذه الأهمية نظرا لما كانت تقوم به ولاسيما في القبائل الجبلية، من أعمال الحرث والحصاد، وجني الثمار، والاحتطاب، وجمع الحشائش، وتربية البهائم وسياستها بالعلف والسقي، ورعاية النتاج، وتربية الدواجن، بالإضافة إلى القيام بصناعة أنواع النسيج والغزل كالزرابي والأكسية وغيرها. ويعبرون عن هذا العمل بالسعاية وأحيانا يطلقون عليه الكد، أي التعب والعمل.
ورأى الفقهاء السوسيون أن عمل المرأة ومشاركتها في الإنتاج في بادية سوس لا يوازيه عملها في المدينة وإن كانت بعض النساء في المدن يعملن كذلك في الخياطة والنسيج والطرز وغيرها. وأما النساء في سوس فكلهن يعملن وينتجن ويكدحن، إلا من كانت غير قادرة لمرض أو عجز. ولذلك رأى الفقهاء أن حرمانهن من نصيبهن من هذا الإنتاج فيما إذا وقع طلاق أو وفاة ظلم لهن، فلم يقع خلاف بين فقهاء سوس في شأن إعطاء المرأة نصيبها من قيمة عملها. وبما أن الشريعة الإسلامية تقوم على مبدإ استقلال الذمة المالية لكل من الزوجين، فما ينفرد بملكيته الزوج أو الزوجة عن طريق الصدقة أو الهبة أو الإرث لا يدخل في مُستفاد السعاية. وقد وردت فتاوى بعض الفقهاء السوسيين تحدد نصيب كل طرف من السعاية.
وعلى سبيل المثال، طُرحت في القرن التاسع الهجري في سوس مسألة مدى أحقية الأخت أو غيرها بالأجرة بعد اشتغالها لفائدة أخيها، وجاء في جوابها أن كل امرأة ذات صنعة وسعاية مثل نسج وغزل ومحمل كانت شريكة فيما بينها وبين زوجها وأخيها أو أحد ممن تفاوض معها، والأصل في هذه الفتوى أن عمرو بن الحارث تزوج حبيبة بنت رزق عمة عبد الله ابن الأرقم، وكانت نساجة طرازة ترقم الثياب والعمائم وهو تاجر، وكل واحد يعمل بما عنده حتى اكتسبوا أموالا على الأصناف، فمات عمرو وترك أقرحة (الأرض القاحلة) وديورا وأموالا، فرفع أولياؤه مفاتيح الخزائن، ونازعتهم حبيبة، فتخاصموا إلى عمر بن الخطاب، فقضى لها بنصف المال وبالإرث في الباقي.
إرث النساء في سوس:
وأما في مسألة الإرث، تبين بعض النوازل أن المرأة لم تكن تحصل على حصتها الشرعية من الإرث في فترة من الزمن، وفيها أن فقيها سئل عن امرأة جهزت من إخوتها وأبيها، فلما مات أبوها طلب منها إخوتها أو ورثتهم رد الجهاز إليهم فقالت “إني لم أطلب الإرث حتى أرد عليكم الجهاز”. فأجاب بأن العرف في هذه البلاد أن لا ترد من جهازها شيئا ولا تُحاسب إلا إن طلبت إرثها من أبويها. وتؤكد نوازل أخرى أيضا أن المرأة كانت تُحرم من الإرث، ويفسر العبادي ذلك في كتابه بإصدار الملوك السعديين ابتداء من أبي عبد الله محمد الشيخ المهدي ثاني ملوك السعديين، ظهيرا يسقط فيه إرث النساء ومهورهن والأحباس وقيمة العمل –الكد- في أماكن معينة في سوس. ويكون إرثها في المقابل لبيت مال المسلمين. وبذلك خرج الملوك السعديون عن الحكم الشرعي رغم ثبوته بالكتاب والسنة والإجماع بحرمان النساء من الإرث في أراضي واد سوس. ولكن بعض كتابات الفقهاء تبين رفضهم آنذاك هذا الإجراء غير الشرعي، وتساؤلهم عن سبب شمول الظهير إرث النساء دون الرجال، دون أن يجدوا لهذا الأمر جوابا مقنعا. وفي هذا السياق، جاء في نوازل الرسموكي مثلا قول الفقيه ردا على هذا الظهير “فمن أراد الاحتياط لدينه ولآخرته فليعط النساء إرثهن”. ثم جاء بعض أمراء السعديين بعد ذلك فألغوا ذلك التشريع غير الشرعي الذي شرعه آباؤهم وأجدادهم، بعد أن أصدروا الأمر بإلغائه. ومن ثم كانت المرأة تحصل على حصتها في الميراث، بالإضافة إلى نصيبها في التركة إذا كانت تعمل عملا ينمي ثروة زوجها.
إضرار الزوجة:
وفي فتوى تتعلق بالإضرار بالزوجة وما يترتب عليه، فقد أفتى فقيه بأنه في حال كان الزوج يضارر بزوجته وهي في عصمته ولو كان الضرر منه مرة واحدة فالمشهور المعمول به أن يثبت للزوجة الخيار، فإن شاءت أقامت على هذه الحالة وإن شاءت طلقت نفسها بطلقة واحدة بائنة كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة، ولو لم تشهد البينة بتكرره. وتحيل هذه الفتوى على حديث “لا ضرر ولا ضرار”. وبذلك أعطيت لهذه المرأة المتضررة حرية اختيار مصيرها، ولو كان حدوث الإساءة أو الضرر مرة واحدة. وهذا يبين عدم استسهال إلحاق الضرر بالزوجة وعدم محاولة تبريره.
خاتمة:
رغم أن البادية تُعرف ببيئتها المحافظة، لم يتوانى الفقهاء في العصور الماضية عن إعطاء النساء حقوقهن وإنصافهن في عدد من النوازل السوسية، سواء تعلق الأمر بنصيبهن من عرق جبينهن أو حفظ كرامتهن عند وقوع الضرر. وتبين هذه النوازل أهمية اجتهاد الفقهاء عموما لإرساء العدل الذي أمر به الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم وإعطاء كل ذي حق حقه. فرغم أن كد المرأة يعود بالنفع على الأسرة كاملة ويحقق عيشها الكريم، إلا أن فقهاء سوس سعوا في اجتهادهم إلى إعطاء قيمة مادية لكدها وعملها بشكل مستقل عن حظها في الميراث المكفول شرعا دون حرمانها منه. ومن هنا يتبين استحضار فقهاء النوازل في سوس قيمة عمل المرأة إلى جانب الرجل وأهمية استقلالها المادي، وأحقية حصولها على ثمرة جهدها، وحفظ كرامتها أمام أي سلوك ظالم لها.
المراجع:
السوسي، محمد المختار. (1995). المجموعة الفقهية في الفتاوي السوسية. كلية الشريعة، أكادير. مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
العبادي، الحسن. (1999). فقه النوازل في سوس: قضايا وأعلام. منشورات كلية الشريعة، أكادير. مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.