ابرام التحالفات في اشتغال الأنظمة الديمقراطية مسلك أساسي لا مناص منه، فهو يرتكز على التسليم بأن بناء أغلبية ما في كل ممارسة ديمقراطية، امر ضروري لتحقيق الأهداف السياسية المتوخاة، سواء تعلق الأمر بالفوز في الانتخابات أو بتمرير مشروع قانون أو المصادقة على برنامج عمل.
لزومية بناء الأغلبيات تفرض نفسها على مختلف الفاعلين في الحياة السياسية، وحتى على الجمعيات والنقابات. بل ان أي حاكم مهما بلغت سلطته يحتاج على الأقل من حين لآخر الى اقناع وضم شخصيات أو جماعات ليست بالضرورة قريبة منه، والى توليف وجهات النظر المختلفة أو بلورة تسويات حول قضايا معينة، وهو مسلك ينسحب كذلك على المجتمع الدولي فيما يخص العلاقات بين الدول، حيث يمكن لدول ضعيفة أن تتكتل في سياقات معينة لمواجهة دول أقوى منها ولو بمجرد حل مشكلة طارئة.
إذا كانت ثقافة التفاوض والتوافق من أجل إنتاج تحالفات سياسية ظرفية أو استراتيجية، تكتسي أهمية بالغة في المجتمعات التي تمتاز بتعدديتها السياسية والأيديولوجية، وبتنوعها الجغرافي واللساني والديني، خصوصا منها تلك التي تتميز بوجود مؤسسات خاصة تؤطر وتوجه مسارات اتخاذ القرار، فانه يتعذر بل يستحيل في مثل هذه المجتمعات (ومنها المجتمع المغربي) فرض وجهة نظر ذاتية دون أي اعتبار لوجهات نظر الآخرين وبالأخص على المدى البعيد وفي القضايا ذات الصبغة الاستراتيجية والمصيرية.
تأسيا على هذا التصور يتضح أن اقتراع 7 أكتوبر في المغرب لم يقل بعد كلمته الأخيرة، فبعد انزياح الخرائط وانهيار التوقعات وارباك كثير من الحسابات، ها هي اليوم حصيلة هذا الاقتراع تسائل الفاعل السياسي حول مدى جاهزيته للحوار والتحالف من أجل افراز أغلبية حكومية منسجمة، فبعد أن كانت التحالفات قبل السابع من أكتوبر تخرج للوجود بدون حرقة الأسئلة وأوجاع الولادة، ها نحن اليوم نعيش على وقع الانتظارية و” البلوكاج” واللاحوار، حيث يتبين يوما عن يوم أننا لسنا فقط في حاجة الى إعادة بناء منظومتنا الانتخابية ومراجعة نسقنا التمثيلي ، بل اننا في أمس الحاجة الى بناء ثقافة للحوار والتوافق، خصوصا عندما نكون أمام فاعل سياسي يتعذر عليه التعايش والتفاهم مع فاعلين آخرين يختلفون عنه في قناعاتهم ومرجعياتهم ، فاعل سياسي يفهم التعدد بمعنى التكاثر ، ويفهم الائتلاف التوافقي بمعنى الضم القسري، ويفهم آداب المفاوضات بغريزة شن الغارات .
ان منطق التسوية يصبح حاسما عندما تتنازع على الساحة أنساق تبريرية متعددة، اذ لا يوجد، كما يذهب الى ذلك بول ريكور، مجتمع بشري يمتلك نسقا وحيدا لتبرير ما هو حق وما هو باطل، وبالتالي فان المصلحة العامة لا يمكن أن تتحقق من خلال تبرير أحادي، بل من خلال تفاعل عدة مستويات تبريرية وهو ما يجعل آلية التسوية مرتبطة بقبول تعددية التبرير، أي بإدماج تعددية البراهين التي يطرحها الفاعلون في الصراع المجتمعي.
من هنا يصبح منطق التسوية ضروريا وحيويا حتى لا تفضي النزاعات الاجتماعية والسياسية الى سيادة العنف، وحتى يتحقق العيش المشترك في ظل السلم والطمأنينة. غير أن منطق التسوية لا يمكن أن يقوم على الاهواء الشخصية والرغبات الذاتية، انه اشتغال مشترك على القناعات والمشاريع في ظل الاحترام المتبادل، وهو سعي ذكي ودؤوب نحو توسيع مساحة المشترك بين الفاعلين والتعاقد بشأنه، وذلك بالضبط هو النهج الذي سار عليه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ تكليف جلالة الملك للسيد عبد الاله بنكيران بتشكيل الحكومة الجديدة، انه نهج واضح من أجل المشاركة لا يقل وضوحا عن موقفه السابق عندما اعتذر عن المشاركة في الحكومة المنبثقة عن انتخابات 25 نوفمبر 2011 وقرر التموقع في المعارضة بمحض ارادته ومقتضى استقلالية قراره.
والاتحاد الاشتراكي عندما يعلن بلسان كاتبه الأول أنه سيسهل مأمورية رئيس الحكومة المعين وأنه مستعد مبدئيا للمشاركة، فذلك يعني في منطق الحداثة السياسية أنه مستعد للحوار وللتفاوض وأنه قابل للالتزام والتوافق، وذلك على قاعدة البرامج والمشاريع والتصورات، وليس على أساس التوزيع الكمي للحقائب ، لم يشترط الاتحاد الاشتراكي اقصاء أو الحاق أي حزب بالأغلبية الحكومية، لكنه نال من التقريع أكثر مما ناله الفاعل الذي قد يكون طرح مثل هذه الشروط، واعتبرت التقليدانية السياسية أن الحديث عن الهندسة الحكومية والأرضية البرنامجية جنوحا الى الغموض والابتزاز.
ليس من أخلاقيات الحوار والتفاوض شن الغارات على الفرقاء والافتراء عليهم وتسفيه أقوالهم، لا لشيء الا لأنهم لم يأتوا الي الأغلبية راكعين شاكرين، كما أنه لا مناص في المدى القريب والبعيد من التشبع بأخلاقيات الحوار وايتيقا التفاوض كمدخل أساسي لإفراز أغلبية حكومية جادة ومسؤولة يتوفر لها الحد الأدنى من الانسجام والاستقرار.
لقد نبه جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى 41 للمسيرة الخضراء الى ضرورة القطع مع المنطق الغنائمي في تشكيل الائتلاف الحكومي، وكنا قد سمعنا كلاما غريبا يندرج في هذا المنطق الغنائمي من قبيل أن الحزب المتصدر للانتخابات سيكافئ بعض الشخصيات بحقائب وزارية اعتبارا لولائها، وأنه سيتمسك بهذا الحزب أو ذاك جزاء على وفائه، أما التوجه العام للائتلاف الحكومي المقبل ونوعية أولوياته الاستراتيجية، فإننا لم نسمع عنها أي شيء طيلة ما يزيد عن أربعين يوما.
في مقابل هذ التوجه التبخيسي لأخلاقيات الحوار والائتلاف ساهم الاتحاد الاشتراكي من خلال تصريحات قيادته وبيان لجنته الإدارية في انتاج خطاب سياسي راشد يتأسس على مقولات تعاقدية مثل الرؤية والبرنامج والمشروع والالتزام، لكنها مع الأسف مقولات لم يعرف الخطاب السياسي التقليداني كيف يلتقطها ويتفاعل معها، ربما لأنه خطاب يحكمه براديغم باتريمونيالي مأزوم، خطاب أسير لمقولات الاصطفاف والاعتكاف والانقلاب والمحنة والمؤامرة… وغيرها من المشتقات الكلامية التي لا يمكن أن تمهد لتشكيل حكومة ائتلافية مسؤولة ولا أن تؤسس لحياة سياسية سليمة .