خلال استقباله ببيته مساء السبت الماضي لوفد من شبيبة حزبه حرص السيد عبد الإله بنكيران على توجيه رسالة مشفرة إلى الدولة بعناية مدروسة وإخراج محكم، فقد كشف بنبرة مفعمة بالدروشة الطافحة عن انه صار زهدا في الناس و معتصما ببيته ” ما كنخرجش بزاف من الدار لأنه ما كنشوفش علاش غادي نخرج “، ثم لوح رئيس الحكومة المكلف في ثنايا حديثه المرموز ، بمفردة ملغومة لا تندرج من قريب أو بعيد ضمن القاموس السياسي المعاصر، انه مفهموم المحنة الذي يكتسي دلالة خاصة في تاريخ الصراع السياسي الإسلامي، غير أن زعيم العدالة والتنمية لم يكن دقيقا في كلامه وهو يخاطب شباب حزبه عن محنته، ولعله توخي الالتباس والمراوحة الماكرة بين الإقرار بالمحنة ونفيها في نفس الآن عندما قال لهم” شكر الله سعيكم ملي جيتو تضامنو معايا في هذه المحنة.. أنا لست في محنة الحمد لله أنا بخير وعلى خير”.
هو إذن في محنة وليس في محنة ، يشكر من جاؤوا يتضامنون معه في محنته قبل أن يستدرك أنه ليس في محنة ، والمقصود هنا أن المحنة قائمة لكنها لم تنل منه، وأنه صامد على البلاء ثابت على الحق ، لكن لماذا يقحم الرجل مفهوم المحنة بشحنته الدينية في سياق سياسي مخصوص يستدعي في أقصى الأحوال الحديث عن أزمة وليس عن محنة.
لابد أن نستحضر هنا المعاني التي يزخر بها التراث الإسلامي في باب المحنة، فهي امتحان وابتلاء، وهي ما يهيئ الله للمؤمن من ظروف الشدائد والمصائب في نفسه وفي بدنه، في حياته وفي أهله . وتذكر كتب التاريخ عديدا من المحن التي تعرض لها علماء الأمة، وكانت أشد هذه المحن وأعتاها، هي محنة القول بخلق القرآن، والتي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل ، وقد بدأت فصول هذه المحنة عندما استطاع المعتزلة التسلل إلى قلب الخليفة المأمون وأقنعوه بمسلكهم الفلسفي في التفكير الذي نتج عنه إنكار صفات الخالق ، ومن بينها صفة الكلام ، ومن ثم دعوة المأمون العلماء إلى القول بخلق القرآن بدل الاعتقاد في قدمه، وأراد المأمون أن يحمل النَّاس على ذلك ، إلا أنَّ الإمام أحمد بن حنبل أبى واستعصم وثبت على رأيه .
ولم تكن هذه المحنة خاصة بالإمام ابن حنبل وحده، وإن كان قد تحمل عبأها الأكبر وحده، بل كانت محنة عامة وفتنة شاملة، طالت كثيرا من الفقهاء والعوام من الأحرار والعبيد كانوا يمتحنون على القول بخلق القرآن.
وكان الإمام الشافعي قد سئل مرة ما الأولى للمؤمن أن يبتلى أو يمكن(بنصب الميم)؟ فقال الإمام الشافعي وهل يمكن إلا بعد أن يبتلى! ما يعني أن التمكين لا يأتي إلا بعد الابتلاء، فلا بد للمؤمن أن يمر بالمحنة حتى يحصل على المنحة ، ألم يبتلي الله يوسف عليه السلام مع اخوته الذين رموه في الجب ثم بعد ذلك مكن له؟
تلكم هي معاني المحنة في الموروث الإسلامي، والتي تنطبق إجمالا على من كان يجبر على الضلال بالقوة وبطش الحاكم، الذي لا يطيق أن يخالفه أو يتحدى سلطته أي أحد مهما كانت مكانته وعلمه.
فهل يظن السيد عبد الإله بن كيران أن مفهوم المحنة ينطبق على حالته ؟ وهل بلغت به الفانتازيا إلى درجة وضع نفسه مع النبي يوسف والامام بن حنبل؟ أم أنه لجأ لجوءا ماكرا إلى استيهامات دينية من أجل توصيف حالة سياسية يكون فيها هو المستعصم المبتلي من السماء ، وهوالصابر على البلاء والثابت على الحق ؟