يستند الخطاب السياسي، في جزء كبير منه، إلى الأهواء في المقام الأول؛ إنه يقتات مما تختزنه الذات من انفعالات هي أداة لتنظيم ما يعود إلى الفضاء السياسي ومقتضياته في التوجيه والإغراء والتضليل، وهي السبيل إلى الدفع بالمتلقي إلى الانخراط في “حقيقة” تُبْنى ضمن قناعات المتكلم لا استنادا إلى واقع فعلي. فما يُقدمه السياسي هو في الأصل “ذاتية” تُكيِّف العالم الموصوف مع ما يَوَده الواصف ويشتهيه. ذلك أن الطاقة “الذاتية” لا توضع في الكلام، بل في طريقة صياغته، أي في الـمُكَملات الانفعالية التي تكشف عن موقف الذات من مضمون قولها. إن السياسي ليس معنيا، إلا في النادر من الحالات، بالحقيقة في ذاتها، بل يهتم بما يمكن أن يقود إلى انخراط المتلقي في المنطق الذي يتحكم في سيرورة تَشَكلها.
وهذا معناه أن “الحقائق” في الخطاب السياسي تتأسس ضمن دائرة انفعالية تتضمن كل ما “يُحمِّس” و”يُحرض” و”يعبئ” و”يُحسس” و”يشجب” و”يُدين”؛ بعبارة أخرى، يستند الانفعال في جل سياقاته، إلى “عقيدة” (بالمعنى العام للكلمة)، لا تُشكل اللحظة السياسية المخصوصة داخلها سوى مثير لاحق يكشف عن مضمون امتداداتها في تفاصيل العمل السياسي. فكل كلام يتوجه إلى الآخر يتضمن رغبة في إقناعه. يتعلق الأمر بخطاطة تواصلية يجب أن تقود إلى توفير مجمل الشروط التي تَضْمن هيمنة “حقيقة” طرف سياسي على “حقائق” كل الأطراف الأخرى.
تلكم هي بعض المحددات التي تحكمت في كل الحمْلات الانتخابية الأخيرة، ومنها تلك التي نظمها حزب “العدالة والتنمية”، فالغاية تظل واحدة عند جميع الأطراف المتصارعة على السلطة؛ إلا أنه وجَّهَها وفق ما يمكن أن يستثير، ضمن الخطاب السياسي ذاته، عوالم قيمية ليست من السياسة ولا تُصنف ضمن دوائرها. فقد بلور الحزب، في شخص رئيسه، لغة جديدة لا تصف المشهد السياسي، وإنما تُسقط، في ما هو أبعد منه، عوالم “العقيدة” و”الإيمان” و”الكفر” و”الهوية”، أي ما يعود إلى “الأخلاق العامة” التي تشمل كل شيء في حياة الناس : السلوك واللباس ومراقبة المقررات والأفلام والمهرجانات والبرامج التلفزيونية استنادا إلى حكم ديني مسبق.
وقد كانت هذه الاستراتيجية تقتضي صب سيرورة “الإقناع” داخل كَمِّ انفعالي ينتشر في الخطاب وفي سياقاته المباشرة أو المفترضة في الوقت ذاته. لقد وُضِعت الشحنة المنتقاة من هذا الكَمِّ في الكلمات في المقام الأول، أي في التسمية والوصف والقصد الفعلي( الامتحان والبلاء والخوف وطريقة تصنيف فئات الشعب، والاستعداد للموت من أجل…)، كما وُضعت في الواجهة البرانية للذات المتكلمة أيضا: “البكاء” و”القهقهة” والاستعمال المفرط للجسد باعتباره مصدر الهوى ومنتهاه . وفي جميع الحالات هناك فعل تواصلي يُوازن بين ذاتية الخطيب وخلفياته القيمية، وبين كل الانفعالات المنتشرة بين الحشود.
وقد تكون هذه اللغة هي التي حددت طبيعة فعله السياسي، كما حددت جزءا من طريقة إدارته لكل أشكال تواصله مع “الشعب”. فقد سعى باستمرار إلى تخليص خطابه من المفاهيم السياسية “الحافية”، أو على الأقل التقليص من حضورها داخله، لكي لا يهتم سوى بما يمكن أن يقود إلى بناء “وقائع تواصلية” مفتوحة على مرجعية ضمنية يعيش بها الناس، ولكنه ضَمَّنَها قاموسا سياسيا مستحدثا استطاع من خلاله أن يستوعب “الحالة السياسية” ضمن “حدود” جديدة غير تلك المتعارف عليها في الأدبيات السياسية والتصنيفات الاجتماعية، كما سنرى ذلك. وهو القاموس الذي جعل منه فاعلا جديدا يتحرك خارج المشهد السياسي بتصنيفاته المعروفة. فهو “زعيم” سياسي، ولكنه لا ينتمي إلى “أعيان” السياسة، وينتمي إلى كيان حزبي، ولكنه لا يصطف ضمن اليمين أو اليسار.
لقد جاء إلى السياسة من خارج الإيديولوجيا بمفهومها السياسي المباشر، وجاءها من خارج التاريخ السياسي للمغرب أيضا. وكان بذلك شبيها بكل الكيانات التي لم تُفرزها حاجات الشعب الوطنية أو الطبقية، ومع ذلك استطاع أن يثبت هويته ضمن سياقات أخرى تستمد مضمونها من المرجعية العامة التي يعلن أنه التعبير عنها. فضمن التقاطبية الجديدة كان كل شيء يميل لصالح العدالة والتنمية: فالأصالة والمعاصرة “حداثي” في اللغة وحدها، ولكن لا هوية له في السياسة: أما العدالة والتنمية فمحافظ في اللغة، ولكنه “شعبي” في السياسة. البام لا تاريخ له، فأسند له الناس تاريخا ضمن تاريخ السلطة نفسها، ولا تاريخ للعدالة والتنمية، ولكنه أعلن انتماءه إلى مرجعية تتجاوز في امتداداتها التاريخ الوطني للشعب، لكي تشمل تاريخ “الأمة” كله، بما يعني ذلك استعادته لكل رمزية هذا التاريخ في الأسماء والوقائع والبعد السردي.
وهذه الخاصية يجسدها الاختيار الرمزي على مستوى هوية كل حزب. فلا يعني لفظ “الجرار” وصورته أي شيء عند الناس ( المحراث في الذاكرة أقوى من الجرار، الأول إفراز للجهد البشري من أجل ترويض الطبيعة، وبذلك فإنه يشير إلى ارتباط الإنسان المباشر بالأرض؛ أما الثاني فكيان مستحدث ومستورد ويشير إلى الهوة التي تفصل العامل في الأرض عن الفلاح الحقيقي). وعلى عكس ذلك، ما يشير إليه المصباح لفظا وصورة، إنه في الذاكرة الإنسانية هو الهداية والدعوة إلى اتباع الطريق القويم. إن النور فيه لا يمكن أن يكون دالا إلا إذا كان نقيضا للظلمة والعتمة والجهل. وهو ما يعني في لغة الإيمان أن الاستعانة برمزية المصباح هي إحالة مباشرة على “وجود ظلام يعْمَه فيه الناس”، ويعني في لغة السياسة أن الحزب هو النور الذي يهدي مجتمعا يعيش في ” ظلام الظلم والفساد”، ولكنه هو أيضا من ينشر العدل بين الناس. وبهذا لن يكون الحزب داعية إلى حقيقة ضمن حقائق أخرى، بل يبشر بحقيقة تقصي كل الحقائق لأنه حقيقة الله ذاتها.
وبهذه الطريقة فقط استطاع الخطاب السياسي عنده التخلص من الطابع “البرهاني” ليتحول إلى وعاء “لـمُحتمَل” مودع في الذاكرة الجماعية لا ضمن حقائق الواقع. وهي الاستراتيجية التي انزاحت بالمشهد السياسي في وعي المواطن العادي عن تقابلات كلاسيكية تستند إلى اختلاف في طرق إدارة الدولة والمجتمع وتوزيع الثروات ( يمين يسار، رجعي، تقدمي)، لكي تتبنى تقاطبات جديدة تتخذ من “الرصيد العقَدي”، بكل إسقاطاته القيمية، مصدرَها الرئيس ( المحافظة/ العدل في مقابل المعاصرة/ الانزياح عن القيم الأصيلة). وكان ذلك يقتضي بلورة إيديوم خاص ( لغة جديدة) يبحث في أحاسيس الناس ومشاعرهم وانفعالاتهم عن سند للفعل السياسي، وهي اللغة ذاتها التي سيتحول المجتمع كله داخلها إلى أمة “واحدة” متراصة يجمع بينها الانتماء العَقدي لا مصالح المعيش اليومي وحده. وهي حقيقة تحيل على تقابل ضمني بين من ينتمي إلى موروث “الشعب” وبين من يوجد خارجه.
وسيتم تصريف هذه المبادئ مجتمعة في التجمعات التي كان يترأسها بنكيران. لم تكن وقائع هذه التجمعات تكتفي بعرض برنامج جاهز، بل كانت تبني فضاءً سياسيا يجمع بينه وبين “حشود” لا تبحث عن جواب في القاموس السياسي المتداول، بل تستغرقها “كثافة” اللحظة التواصلية وما يمكن أن يصدر عن “الزعيم”. لقد أشركها في “قصته” مع “التحكم” وفي صراعه مع خصوم من كل الأطياف السياسية. لقد كان يُصر على إدراج معتقداته وأفكاره وتصوراته ضمن قصة يستمدها من معاناة فئات بعينها، أو من الموروث الديني، فتصبح هذه القصة، بمنطق الـمُحتمل السردي وحده، جزءا من التاريخ العام للأمة، ويصبح هو بطلها الرئيس.
لذلك تفادى دائما في خطبه الإحالة على التاريخ الفعلي للحزب (لا يرتبط حزب العدالة والتنمية بأي معركة من المعارك التي خاضها الشعب المغربي دفاعا عن كرامته وحقوقه السياسية)، بل كان يستحضر زمنية دينية قادرة على استيعاب كل التواريخ الممكنة، دون الحاجة إلى الإشارة إلى الدين بشكل مباشر، لقد كان يُضَمِّن خطابه ما يكفي من الكلمات والإحالات الضمنية لتوجيه القلوب إلى ما خزنته الذاكرة واحتمت به في لحظات ألمها وضعفها وعجزها. فهي ذاكرة عامة يشترك فيها كل الذين يعانون من الظلم في الأرض، إنها جزء من المخيال الذي يُطلق عنانه سرد وضعيات تخص أناس بلا سند.
في البدء كان التركيز على بناء “الشخصية الفاعلة” ذاتها، ووضعها في حالة تماهٍ كلي بين الرئيس وبين الحزب، بين الصوت الناطق باسم هذا الحزب وبين المدافع عن حقوق “الناس”. تم ذلك من خلال الاستعانة بما يُمَكن الخطيب من استمالة “الحشود” إلى هذه القيم وتبنيها والدفاع عنها، خارج محددات “برنامج سياسي” صريح. يتعلق الأمر باستثارة أحاسيس يتعرف الناس داخلها على حالتهم أو يُسقطون حالات مخيالية منبثقة من هذه الأحاسيس، دون أن يكون هناك ما يوحي بوجود حقيقة موضوعية تُسندها. لقد قدم نفسه للناس باعتباره زعيما “معزولا” يواجه كل الناس وحيدا: “خوكم هذي خمس سنين وهما يحاربوني يمينا وشمالا ولكن الله معاوني عليهم”، “عطيوني صوتكم وخليوني معهم”. لقد اختار “شعبه” بدقة وحدد حاجاته، ووصفه بما يمكن أن يكون له وقع عند “الفقراء”. لقد حاصره خصومه ضمن سياقات إيديولوجية ليس لها صدى في ذاكرة عموم الشعب، أو ليست أولوية من أولوياته، واستدرجهم هو إلى ما يشكل “حقيقة” الناس في الذاكرة العقدية، وفي الحاجات المباشرة، سيأخذ ممن لا يستحق لكي يعطي إلى من هو في عوز وحاجة : وتلك وصفة تذكر “بجزيل العطاء” و”الإحسان” لا بتوزيع حقيقي للثروة( أن تتصدق على فقير واحد، معناه أنك تَعِد كل الفقراء بالصدقة).
من هم هؤلاء ؟ كل الناس ولا أحد: لا يشير بنكيران إلى صراع بين الطبقات أو تقابل بين مصالح هذه الفئة مع مصالح تلك. وبهذا اللاتحديد تستطيع الطاقة الإقناعية للغة عنده استيعاب كل السياقات الممكنة ( لقد ترك باب التوبة مفتوحا أمام “الضال”). لقد حولوه إلى ضحية، لا لأنه ارتكب فعلا مشينا، بل لأنه أعار صوته للآخرين، أي لكل المهمشين: لحظتها يمتد الجسر بين الإحساس الخاص، وبين “البرنامج السياسي” الذي يجسده البطل/الضحية. فأن يكون “الله مْعَاوْنو عْليهم” معناه أن الله معه وحده، وبالتبعية سيكون ضد الآخرين جميعا. وأن يكون كل السياسيين يمينا ويسارا ضده، معناه أنه يملك حقيقة يخاف منها هؤلاء جميعا.
لقد أتقن دور “الضحية” الذي تأتيه الطعنات من كل جانب، ونُسبت إليه أخطاء “اعتاد” الناس عليها عند غيرهم. لقد كان يجابه خصومه مجتمعين وحيدا، فاستثار عطف الحشود، وبذلك تحول “الضحية” إلى بطل. لقد خرج “البطل” من عباءة “الضحية”، كما هو تاريخ الكثير من الأبطال في التاريخ: وحيدا ضد الجميع، ومن أجل الجميع (seul contre Rome). لا يمكن أن يكون من يصرخ من أجل الشعب ظالما، إنه ليس نموذجا للسياسي “المحنك” بل صورة عن “محسن”. فمن يقف ضد الزعيم ليس الشعب، بل قلة لا تنتمي إلى ” قيم الأمة”.
لذلك لا قيمة “للبرنامج” ضمن فضاء التجمعات الكبرى ( يعممها أتباع الحزب في شبكات التواصل الاجتماعي)؛ هناك ما يكفي من الانفعال لكي يحشو هذه الفضاءات بما يستثير عاطفة الحشود وأحاسيسهم. وهي الاستراتيجية التي اعتمدها بنكيران في تحديد جمهوره، إنهم الفقراء : “اليتامى” و”الأرامل” و”المطلقات” و”اللي ما فْحَالوش”، ومن خلال هؤلاء يشعر كل المهمشين أنهم معنيون بهذا البرنامج أو بآثاره على أنفسهم، وأن المتحدث يعرفهم وهو واحد منهم: ” يدنا نظيفة، حْنينا على المساكين والفقراء، وساعدنا المقاولة، وأنقذنا ميزانية البلاد “؛ لقد اختار شعبه، واختار سلطته وهويته الإيديولوجية خارج التصنيف السياسي المعتاد.
وتلك هي القوة الضاربة في الخطاب: فما يحيل عليه “العامل” و”الفلاح” و”الأستاذ” و”المعلم” و”الطبيب” و”الممرض”، هي وظائف “محايدة” في الدولة، إنها تحدد موقعا داخل شبكة تبادل اجتماعي لا يثير عند المتلقي أي إحساس عدا ما يمكن أن يقدمه هذا الموظف أو ذاك من خدمات. في حين لا يحيل الفقير والمهمش والضعيف والمستضعف وكل الصفات المشار إليها أعلاه على وظيفة، بل على ” إحساس”، “حالة اجتماعية” فيها الكثير من المآسي والغبن والحاجة والعوز، إنها تتضمن شحنات انفعالية مضافة، وهي الأحاسيس ذاتها التي تحرك الكثير من الموظفين أعلاه. إنه لا يتحدث عن طبقة اجتماعية لها مطالب، بل يتوجه إلى من لفظهم التطور والتوزيع غير العادل للثروات، فولَّد عندهم الشعور بالغبن والقهر والحكرة.
ومع ذلك فهذا الشعب لا يستحق سوى الصدقة، إنه ” شعب” قاصر، إنه ليس قوة للتغيير تناضل من أجل مشروع حضاري، بل هو حشود موجهة للتصويت فقط: ” عطيوني صوتكم وخليوني ليهم” “وأنا متأثر ما تزيدونيش”. فوحده البطل يمكن أن ينوب عن الحشود ويقودها إلى النصر وهي هنا قاعدة في بيوتها. إن الحزب لا يناضل من أجل مشروع سياسي، فهو بحكم الانتماء العقدي، يسعى إلى استعادة حقيقة في التاريخ ضيعها الضالون أو يريدون تضييعها.
لذلك لا يطلب منهم وعيا سياسيا، ولا يطلب منهم نموا في الحس الحضاري، ولا يقترح عليهم مشروعا تربويا، ولا يطلب منهم الانخراط في معركة تعيد توزيع الفضاء الاجتماعي ضمن وظائف في المجتمع المنتج لا الهامشي؛ إنه يطلب منهم فقط أن يعطوه صوتهم: “أيها المغاربة أنتم في امتحان، اعطوني أصواتكم وخليوني مني ليهم”، إياكم ثم إياكم تبقاو جالسين فديوركم يوم سابع أكتوبر دافعوا عن أنفسكم وعن بلادكم، بغيت نشوف في مكاتب التصويت الصف والناس ما خايفاش عطيوني صوتكم وخليوني ليهم أحزاب المعقول معروفة والعدالة والتنمية يمثل أمل المجتمع”. من جهة لا يمثل هؤلاء أنفسهم، فهم مازالوا خائفين ( من ذا الذي يخيف المغاربة ويمنعهم من التصويت ؟؟)، إنهم في حاجة إلى من يمثلهم، إلى من يذكرهم أنهم في امتحان، أي أن الله يمتحنهم ويبلوهم لكي يعرف من هو أحسن منهم إيمانا وعملا. وهو في بلاء، “كل يوم خلال عمر هذه الحكومة كان ابتلاء”، لقد ابتلاه الله بأن وضع حياة هؤلاء أمانة في يده هو، كما ابتُلي قبله عمر بن عبد العزيز حين “اعتبر الخلافة بلاء”. إنه لا يبحث عن السلطة، بل هي التي أتت إليه، إنها ليست ممارسة في الواقع، بل حمل ثقيل في التاريخ والعقيدة.
إن الامتحان الذي هو محنة وبلاء، هو في الوقت ذاته طقس استئناسي ينتقل المريد داخله من حالة إلى حالة، ولن يكون هذا الطقس سوى ما سيتم يوم الاقتراع، ما يشبه الدفع بالمواطن إلى الانتخاب ليتطهر ويصبح مريدا قادرا على فهم تعاليم الشيخ. فالذي يريد أن يخرج من هذا الامتحان سالما عليه ألا يصوت فقط، بل عليه أن يصوت للعدالة والتنمية، فهو الذي أوكِلت إليه مهمة تخليص الشعب من الخوف. حينها يصبح الاقتراع “اعترافا” لا يمكن أن يتحقق إلا أمام من يحق له الاستماع إلى اعترافات الناس: المعزل “خلوة” مع النفس ومع الخالق، يتعلق الأمر باستعارة طقس الصلاة أو طقس التأمل: المعزل لحظة بينك وبين الله وليس بينك وبين نفسك، أنت لا تقوم بواجب، بل تتعبد، ومن خلال العبادة تعود إلى نفسك.
إن المعنى المنشود في هذه الاستراتيجية لا يوجد في الرابط الممكن بين “سبب” و”نتيجة”: أحفزكم على الفعل فتفعلون، بل يوجد في السياق التواصلي كله، أي في قدرة الكلمات على استثارة حقائق من التاريخ قد يكون العقل نسيها أو تناساها، ولكن الوجدان لا يزال يرى فيها خلاصا ممكنا من كل شرور الدنيا. وبذلك، فإن الحزب يتوفر على ما يكفي من هذه السياقات الكامنة، ونجاحه في الانتخابات يعود، في جزء منه على الأقل، إلى أنه عرف كيف يضمنها حاجات من الواقع.