يؤلمني جدا أن أسيء الأدب (مرغم أخوك لا بطل !) مع أناس ليسوا غرباء عني ولست غريبا عنهم. لكن يؤلمني أكثر أن يسيء هؤلاء – من خلال ما يكتبونه أو ما يدلون به من حوارات أو تصريحات – إلى البيت الذي جمعنا وتعلمنا فيه أبجديات النضال وأدب الحوار وقواعد الاختلاف(أليس “الاتحاد مدرسة”؟). وهذا ما وضعني، سجاليا، في مواجهة بعض القياديين الاتحاديين الذين كنا نعتبرهم قدوة لنا ولغيرنا ونعتز بمعرفتهم وصداقتهم ومواقفهم وكتاباتهم وكفاءتهم… ومرد هذه المواجهة (أو الاصطدام) ليس سوى انقلابهم على حزبهم والاجتهاد في الإساءة إليه.

 ومن بين هؤلاء، الشاعر والروائي والصحافي والسياسي والوزير (السابق، طبعا !!) محمد الأشعري الذي يحرص على غرس سكاكينه وأنيابه بعمق في جسم الاتحاد الاشتراكي كلما أتيح له ذلك. وقد وجد ضالته في بعض الجرائد التي تفتح له صفحاتها بسخاء ليمارس ازدواجيته الخبيثة المتمثلة في قتل القتيل والنوح في جنازته.

ويكمن خبث هذه الازدواجية في كونه يجعلك تتفق مع المتحدث في جزء مهم من التحليل لقدرته على جعل حيلة “كلام الحق الذي يُراد به باطل” تنطلي عليك. فهو يوهمك بالغيرة على الاتحاد والحسرة على الوضع الذي آل إليه، في حين، كمن يدس السم في العسل، يوجه إليه أقوى الضربات وأخبثها. وهذا ما ينطبق على حواره الأخير مع جريدة “أخبار اليوم”(الأربعاء 26 أكتوبر 2016).

شخصيا، لم يفاجئني هذا الحوار، لا من حيث توقيته ولا من حيث رسائله وخلفياتها ولا من حيث المنبر الذي نُشِر فيه؛ وذلك لأسباب أصبحت بديهية مع توالي خرجاته الإعلامية المسيئة للحزب الذي كان قياديا فيه واستوزر باسمه لولايتين متتاليتين.

واختياره لجريدة يشرف عليها شخص معروف باحترافه للتلفيق إلى درجة أنه أصبح يلقب بـ”تلفيق بوعشرين”، ليس بريئا بالمرة. ومن المعروف عن الأشعري، منذ أن قرر تصفية حساباته مع الحزب الذي صيره “همة وشان” (يمكن للمتخصصين في مجال التحليل النفسي أن يجدوا في هذا التحول وهذا الجحود الكبير مادة دسمة للدراسة والتحليل)، أنه يختار لحواراته المنابر التي نذرت نفسها لمسخ تاريخ الاتحاد الاشتراكي وتشويه ذاكرته. ومنبر “بوعشرين” من بين هذه المنابر النشطة في هذا الصدد.

من المؤسف أن ينزل الأشعري (المثقف والقيادي والوزير الاتحادي السابق) إلى مستوى شخص مثل”بوعشين” ويضع يده في يده، طلبا لخدماته ضد حزبه؛ خاصة وقد أصبح أشهر من نار على علم في مجال النصب والاحتيال (وهو تعبير مأخوذ من أحكام قضائية) والارتزاق والاختلاق والافتراء وغيره من السلوكات اللاخلاقية  المسيئة لقدسية الكلمة ولجلال السلطة الرابعة.

لكن، يبدو أن في الأمر ما يؤكد مقولة “الطيور على أشكالها تقع” (أو كما يقال في الدارجة المغربية:”طَحْ الحُكْ وصابْ غْطاه”)، خاصة وأن الأشعري يجتهد، في كل حواراته، في تسويد صفحات رفاق الأمس وقياديي اليوم في الاتحاد. وهو ما يعني، ضمنيا، اجتهاده في تبييض صفحته الشخصية بالتغطية على أخطائه، وما أكثرها، بالنفخ في أخطاء الآخرين. وهذا عمل غير أخلاقي لكونه يعتمد على الكذب والتلفيق وتزوير الحقائق… ناهيك عن التحامل والتشفي وغيره.

قد يتساءل البعض عن أسباب  إصرار محمد الأشعري على نفث سمومه ضد الحزب الذي صنع منه قياديا وأهله لأن يكون وزيرا؛ ذلك أن اصطفافه إلى جانب كل من له حسابات شخصية يريد تصفيتها مع الاتحاد أو مع بعض من قيادييه (رفاق الأشعري بالأمس في النضال وفي القيادة…)، يُحيِّر، بالفعل، ويدفع إلى التساؤل عن السر الكامن وراء هذا التحول وهذا الجحود الكبير.

 شخصيا، لا أجد من سبب أقوى وأهم من الريع الحزبي. فقد استمرأ الأشعري وضعه الريعي وصعب عليه، كما صعب على من هم من شاكلته، التسليم في الامتيازات المادية والمعنوية التي كان يوفرها له(م) هذا الوضع. فهو من الذين رفضوا الفطام عن الريع وانقضوا على البيت الذي ساهموا في بنائه، مستعينين بكل ما توفر لهم من معاول الهدم والردم.

صحيح أن ذلك يُغَلَّف بنوع من المواقف “الجريئة” (والتي ليست، في الواقع، إلا هروبا إلى الأمام). غير أن ذلك لا ينطلي على المناضلين الذين اختاروا حزب القوات الشعبية ليس طمعا وإنما اقتناعا. لذلك، يصعب على هؤلاء أن يتماسكوا ويصبروا على الإساءة للحزب من قبل من استوزر باسمه لعشر سنوات متتالية وأسهم بقسط وافر في تردي وضعيته التنظيمية وضمور صورته لدى الجماهير الشعبية.

ويكفي، في هذا الباب، أن نستحضر ما يقال عن عجرفته وسوء تعامله مع من كان يمثلهم بالبرلمان حين يقصده بعضهم سواء كبرلماني أو كمسؤول في الحكومة. وفي هذه النقطة بالذات، يمكن طلب شهادة وكيلي لائحة الاتحاد الاشتراكي في الانتخابات التشريعية لسنة 2011 والانتخابات التشريعية لسنة 2016 ولجان دعمهما حول ما كان يقال في حق الأشعري من قبل السكان الذين كانوا يلتقون بهم في الحملة الانتخابية، سواء على مستوى مدينة مكناس أو على  مستوى جبال زرهون التي ينتمي إليها مولدا ونشأة.

والواقع أنه كان لمحمد الأشعري دور خطير فيما آل إليه وضع الحزب، تنظيميا وسياسيا، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الوطني. فعلى المستوى المحلي، فقد تسبب في فقدان الاتحاد لدائرة مكناس منذ الانتخابات التشريعية لسنة 2007؛ بحيث فشل في الحفاظ على مقعده البرلماني وهو عضو في حكومة جطو. وقد ترك لنا(رغم منجزاته المهمة كوزير؛ نعترف له بذلك) من الآثار السلبية، تنظيميا وسياسيا، ما عجزنا على تجاوزه رغم كل المحاولات. وهكذا، فشلنا في استعادة مكانة الحزب، انتخابيا، بهذه الدائرة إلى اليوم. وهو شيء يمكن فهمه وتفهمه؛ ذلك أن الهدم أسهل بكثير من عملية البناء.

 أما فيما يخص تأثيره على الصعيد الوطني، فيكفي أن نعرف أنه كان من المستميتين في الدفاع عن الدخول في حكومة جطو بعد البيان القوي الذي أصدره المكتب السياسي حول الخروج عن المنهجية الديمقراطية في سنة 2002. وهو ما تسبب في اندحار الحزب في الانتخابات التشريعية الموالية ( أي سنة 2007)، حيث تدحرج من المرتبة الأولى إلى الخامسة. ومنذ ذلك التاريخ، لم يسترد الاتحاد عافيته رغم كل المجهودات المبذولة.

وليس من الموضوعية ولا من المنطق في شيء القفز على هذه المرحلة والتركيز فقط على الوضع الحالي. فهذا فيه تدليس وكذب على التاريخ وفيه حيف وظلم في حق من تسلموا قيادة الحزب وهو يتجه نحو الانتحار الجماعي، كما قال الكاتب الأول السابق الأخ عبد الواحد الراضي. هذا، دون الوقوف عند الضربة الموجعة التي وُجِّهت للاتحاد من قبل بعض قيادييه البارزين، بعد مؤتمره التاسع للتغطية على نجاح هذا المؤتمر الذي عرف تمرينا ديمقراطيا غير مسبوق، بغض النظر عن بعض الجزئيات البسيطة التي اتخذها البعض ذريعة، وبإصرار، من أجل تحويل النجاح إلى فشل. ومن تتبع مسار ومآل ما سمي بالبديل الديمقراطي، لا يحتاج إلى المزيد لفهم ملابسات الوضع الحالي للاتحاد.

وتذكيري بهذه المعطيات ليس القصد منه التبرير أو التنصل من المسؤولية؛ بل هو إعلان  لرفض القفز على الواقع والتاريخ ورفض التحليل التجزيئي والتلفيقي. وهذا ليس دفاعا عن القيادة الحالية (التي لها ما لها وعليها ما عليها، ككل القيادات السابقة)؛ بل هو دفاع عن الموضوعية وعن النزاهة الفكرية وعن الأخلاق السياسية التي يُضْرب بها عرض الحائط عند البعض حين تتعارض مع مصالحه الذاتية. ولا يهمه، بعد ذلك، أن يهوي إلى الحضيض أو ينزلق إلى درجة الصفر في المصداقية.

فكم هو مؤسف حقا، ومؤلم أيضا، أن يتحول في عينك إلى أقزام أناس كنت تعدهم أهراما!! ماذا سيبقى في صحيفة وفي رصيد من استحكمت فيهم عقلية “أنا ومن بعدي الطوفان” أو من أرادوا تملك التاريخ وتوريثه لأبنائهم، ضدا على الديمقراطية وضدا على المؤسسة الحزبية وضدا عن الأخلاق السياسية؟

 لقد أساء هؤلاء بجحودهم وأنانيتهم إلى الاتحاد إساءة بليغة بإعطائهم أسوأ مثال للمناضل وللمواطن العادي وألحقوا أضرارا كبيرة بصورة الحزب في المجتمع. ومن حسن الحظ أن قادتنا ليسوا كلهم على هذه الشاكلة. فهناك من القادة من نأوا بأنفسهم- في سلوك حضاري يسجله لهم التاريخ بمداد الفخر والاعتزاز- عن الإساءة إلى حزبهم، رغم أن منهم من  ظُلموا من طرف بعض إخوانهم في القيادة وفي غيرها، وتركوا الساحة لغيرهم بدون ضجيج، ليس ضعفا ولا هروبا، ولكن زهدا وتواضعا. وهم الآن موضع احترام وتقدير من طرف كل الاتحاديين والاتحاديات.

وفي الأخير، أود أن أهمس في أذن الأخ محمد الأشعري وأُذكِّره بفشل بيانه الشهير (الثلاثي الأطراف) في استقطاب الاتحاديات والاتحاديين إلى مشروعيه السياسي. وقد كان عليه أن يستخلص الدرس من مبادرته التي بقيت صيحة في واد؛ مما دل ويدل على انتهاء “صلاحيته” السياسية. أما استمراره في إظهار المزيد من الجحود تجاه الحزب الذي “لحم أكتافه من خيره”، فلن يزيد إلا في تعميق أسباب إفلاسه سياسيا وأخلاقيا. ثم إن سلوكه هذا سوف يكشف للملأ ما بقي من عورته مستورا، إن بقي منها شيء.  وللجحود حدود !!!

الاحد 6 نونبر 2016.

 

‫شاهد أيضًا‬

دراسة نقدية لمجموعة (ولع السباحة في عين الأسد).للقاص (حسن ابراهيم) * د. عدنان عويّد:

التعريف بالقصة القصيرة ودور ومكانة القاص في تشكيل معمارها:      القصة …