نرتكب جميعا خطأ عدم التمييز، احيانا، بين الشعارات الدعائية والشعارات المطروحة للانجاز في خضم الممارسة السياسية، خاصة عندما تكون قضاياها ضاغطة بشكل يعتقد فيه الممارس ان كل جهد في مجال التمييز بين هذين الصنفين من الشعارات يدخل في نطاق الترف التأملي الذي لا يتناسب مع حرارة اللحظة السياسية التي تتطلب التدخل المباشر وبكل الشعارات الممكنة، ما دامت الغاية المنشودة هي الانتصار في معركة من المعارك ولو كان ذلك بتسجيل النقط متى تعذر تحقيق الانتصار الكامل على المنافسين او الخصوم السياسيين.
غير ان كل التبريرات التي يتم سوقها عادة لابراز ضرورة او حتمية هذا الخلط لا تنفي انه في أصل الكثير من انواع تخبط الممارسة السياسية، من زاوية عدم مقروئية أولوياتها الفعلية بالنسبة لأغلبية المعنيين بالخطاب، في هذه الفترة او تلك. والحال، ان فعالية الشعارات وقدرتها التعبوية تتوقف أساسا على مدى مقروئيتها ووضوحها. اذ من دونهما ليس ممكنا لها ان تجد سبيلا الى وعي المتلقي، فأحرى ان يتم استبطانها والتصرف على اساسها بشكل تلقائي كما لو كانت من صميم بنات أفكاره التي عليه الدفاع عنها والعمل على تعميم العمل بها في مختلف ساحات الفعل التي تمت بلورتها أصلا للتعاطي مع إشكالاتها وقضاياها الملموسة.
واذا كانت الشعارات الدعائية تغطي مرحلة نضالية بأكملها وتحاول استشراف أفقها البعيد، فإن الشعارات المطروحة للانجاز ملتصقة بمعطيات وشروط الواقع الملموس الذي يراد التأثير فيه بشكل مباشر وهي بداهة لا تماثل في شيء شعارات المرحلة النضالية بأكملها حتى عندما تكون صياغة تلك الشعارات بطريقة توحي بأنها نوع من التحضير لطرح الشعارات الدعائية على جدول الأعمال، في المستقبل المنظور، حيث تلعب الشعارات الآنية دور الجسور الممكنة نحو شعارات الأفق البعيد للممارسة السياسية.
الحرص على التميز مشروع مبدئيا ونظريا الا انه غير منتج عمليا، بل قد يكون ضارا تماماً خاصة اذا جاء ليعبر عن طموح يتجاوز وعي الشعب وارادته الفعلية كأن يتم التركيز على شعار الجمهورية في مجتمع جله مع النظام الملكي الدستوري او البرلماني او التركيز على الملكية البرلمانية شعارا للانجاز الفوري في ظروف لم تنضج فيها الممارسة السياسية لطرح مثل هذا الشعار، مع العلم أن التطور الطبيعي للعمل السياسي الديمقراطي يمكن ان يؤدي الى هذا الواقع، من خلال مراكمة مكتسبات الممارسة السياسية وبلورة القناعة المشتركة لدى مكونات الشعب الوطنية حول هذه المسألة بالذات دونما حاجة الى طرح الشعار. وهذا ينطبق أيضاً، وربما اكثر من غيره، على طرح بناء النظام الاشتراكي في بلد مجتمعه لم يقم بعد بالفرز بين مكوناته وشرائحه المجتمعية وحيث شعارات محاربة الأمية ذات ملحاحية قصوى وحيث التربية على المواطنة وحقوقها المختلفة دون مستوى ما وصلت اليه مجتمعات اخرى قطعت أشواطا متقدمة في مسارها الثقافي والسياسي وانجاز مهام المرحلة الوطنية الدينقراطية.
ان هذا الخلط لا يكشف الميل الى احلال الرغبات محل الواقع فحسب، بل انه يعتم على الممارسة السياسية سبل تقدمها ويؤدي الى انحراف الحوار السياسي متى انطلق بين مكونات الشعب الى متاهات المزايدة اللفظية ظنا منها ان الشعار يستمد قوته على هذا المستوى من تلقاء ذاته او بالأحرى وفق ذوات رافعيه وليس من مدى اجرائيته على المستوى الفعل وقدرته على جذب مكونات الشعب المختلفة الى درجة يصبح فيها شعارها الجماعي، وبالتالي، يطرح نفسه بإلحاح على جدول اعمال الممارسة السياسية حيث يصبح تقدمها مشروطا بإنجازه.
وبطبيعة الحال، فإن المزايدة التي يعتبرها كبار سياسيي اليسار العالمي مجرد مماحكة لفظية تؤدي الى الزهد في ممكن الواقع وتجاهله بدعوى الحرص على ما يتم اعتباره مبدأ ثابتا، مع العلم انه غير قابل للانجاز في الزمن المنظور.
ولعل هذا ما يفسر عقم صنوف من الخطاب التي تتجاهل الواقع للتشبث بمسبقات لا يغير من ضعفها التعبوي اضافة كلمة المباديء او الثوابت اليها في معرض الحديث عنها. ذلك ان هذه الأخيرة مرتبطة أشد الارتباط بمستوى الوعي العام للجسم الاجتماعي المدعو الى ممارستها على أرض الواقع. لكن هذا لا يعني التزام صمت القبور حول استراتيجيات النضال وآفاق الممارسة السياسية ضمن دوائر التفكير وبلورة الأهداف البعيدة للممارسة. لأن امتلاك رؤية استشرافية شرط أساسي لتقدم الممارسة لكن التعاطي مع هذه الرؤية الاستشرافية على أساس كونها جوهر الممارسة السياسية يؤدي الى تعظيم انتظارات أصحابها بشكل غير منطقي. الأمر الذي ينتهي حتما إلى مستويات من الاحباط وربما اليأس تحاكي مستويات الانتظارات غير الواقعية وغير العقلانية في نهاية المطاف. والحال، ان اقتصاد الجهد وتدقيق الشعارات في ضوء الانتظارات الممكنة هو الطريق السالكة نحو تحقيق الأهداف القريبة او الجزئية بطبيعتها والتي يمكن التأسيس عليها لمراكمة المكتسبات على درب التطور السياسي الشامل.