تدل كلمة الأنا على الذات أي على الشخص. ومنها اشتقت كلمة الأنانية، أي الإفراط في حب الذات وعدم التفكير في الغير. والأنا إما أن تكون عادية وإما أن تكون مرضية. ففي الحالة العادية، تبقى الأنانية في حدود معقولة ومقبولة. أما في الحالة المرضية، فإن الأنانية تتخذ أبعادا غير مقبولة؛ مما يجعلها مقيتة ومذمومة.
ومن السمات الأساسية للأنا المرضية استحكام الخبث في صاحبها. والخُبْث مصدر من فعل خَبُثَ، أي فسد. فقولك خَبُثَ فلان معناه صار خبيثا، أي ماكرا ودنيئا، الخ. وعادة ما يطلق لفظ الخبيث على من هو كثير الخبث.
ويتجلى الخبث في ممارسات غير سوية، يمجها العقل ويمقتها الحس الإنساني السليم، من قبيل “أكل الغلة وسب الملة”، قتل القتيل والمشي في جنازته والنوح على فراقه، إتيان أفعال مشينة واتهام الآخرين بها، الجحود والتنكر لأفضال الآخرين (وقد يكونون من المقربين)، تقويض أركان المعبد ليسقط على من فيه، نخر أساسات البناء للتشفي في ضحاياه بعد سقوطه، الانضمام إلى صف الأعداء السابقين بعد انتفاء شروط استمرار الاستفادة (المادية والمعنوية) من غفلة الإخوة والأصدقاء، اتخاذ الكذب منهجا وسلوكا، وغير ذلك من الممارسات والأفعال التي لا يأتيها إلا خبيث، أي من هو عديم المروءة والأخلاق ويجسد كل أوصاف الخسة والنذالة والسفالة وغيرها.
وما تساؤلنا الاستغرابي الذي عَنْوَنَّا به هذه الخاطرة إلا دليلا على وعينا بالحالة المرضية التي تصيب الأنا وتجعل بعض النفوس تقطر غلا وحقدا وتدفع بها إلى أقصى مستويات الخبث والدناءة؛ الشيء الذي يجعل الخبيث لا يبالي حتى بالإساءة التي يلحقها بنفسه، وهو يعمل على الإضرار بالآخرين والإساءة إليهم. ولا يصل إلى هذه الدرجة إلا من استبدت به واستحكمت فيه عقلية “أنا ومن بعدي الطوفان”.
ويشكل هذا النوع من البشر خطورة على القيم الاجتماعية والمجتمعية لكونهم يتسترون وراء قيم يتخذونها قناعا لتحقيق طموحاتهم الشخصية وإرضاء نزواتهم ورغباتهم الذاتية. وعند انتفاء (أو انتهاء) شروط الاستفادة، فإنهم ينقلبون رأسا على عقب. وبذلك، فهم يقدمون نماذج فاسدة للقدوة؛ إذ يعطون أسوأ مثال للذين كانوا يرون فيهم النموذج الأمثل (حسب المجال الذي كانوا يتحدثون باسمه) إما للورع والتقوى حين يتعلق الأمر بالوعاظ والأئمة، وإما للنضال والتضحية حين يتعلق الأمر بالقياديين في المجال السياسي أو النقابي أو الجمعوي، وإما للموضوعية والحياد والنزاهة الفكرية حين يتعلق الأمر بالمحللين والنقاد، الخ.
فالانقلاب الذي يحدث في المواقف يشكل صدمة قوية للمؤمنين بالقيم النبيلة التي اتخذها الآخرون قناعا. وهو ما يفقدهم الثقة ليس في هؤلاء فقط، بل في المنظومة برمتها. ويعاني الحقل السياسي الكثير من هذه الآفة؛ إذ من الساسة من يهدم كل ما بناه خلال سنوات بمجرد ما يستشعر قرب أفول نجمه (انظر مقالنا بعنوان “عن آفة ردم التاريخ الشخصي ودكِّه”، “الحوار المتمدن”، 11 يوليوز 2016). وهو ما يؤثر سلبا على التنظيم الذي ينتمي إليه. فسلوك هذا النوع من القادة يزرع الشك ويشجع على العزوف عن السياسة. وهو ما يتسبب في إضعاف التنظيم الحزبي.
وأصل الداء، في الواقع، يكمن في الانتهازية التي تستبد بالبعض. لقد سبق لي أن كتبت مقالا بعنوان “فصل المقال فيما بين الانتهازي والمناضل من اتصال وانفصال” (انظر “صحراء بريس”، 31 يوليوز 2014)، أبرزت من خلاله كيف أن لبعض الانتهازيين قدرة كبيرة على إخفاء أهدافهم الحقيقية، حتى وإن طالت المدة، إلى أن يحين الوقت المناسب، فيضربون ضربتهم ويحققون “همزة” العمر. ثم يعضون عليها بالنواجذ. ويا ويل من يقترب، بعد ذلك، من الريع الذي استمرؤوه.
وهذا ما يفسر الحدة التي تتخذها بعض الصراعات داخل التنظيمات التي تسلل إلى صفوفها الأمامية رهط من الانتهازيين والوصوليين الذين نجحوا في تقمص دور المناضلين وتَقنَّعوا(من القناع) بخصالهم وسلوكهم وعملوا على ترسيخ صورة إيجابية عنهم لدى الأصدقاء والمعارف والرفاق في التنظيم (سواء كان سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو حقوقيا أو غير ذلك).
ولم يسلم الاتحاد الاشتراكي من هذه الصراعات؛ بل عانى منها الأمرين. فقد نخرته من الداخل بسبب الانشقاقات التي أدت إليها. يضاف إلى ذلك، جشع بعض القياديين الذين رفضوا الفطام من الريع الحزبي. ولما وجدوا أنفسهم أمام الأمر الواقع، أي نهاية “صلاحيتهم” التنظيمية والسياسية، أمسكوا بمعاول الهدم وراحوا يُقوِّضون أساسات البنيان حتى يسقط على من فيه، ثم يتباكون على حالته ويتهمون غيرهم بإضعافه، في تنصل تام من المسؤولية الجسيمة التي يتحملونها فيما آلت إليه أوضاع الاتحاد.
وهذا هو حال محمد الأشعري الذي أبان عن لؤم كبير وخبث شديد في تحامله على حزبه وقيادته؛ وذلك، بشكل يبعث على الريبة والاستغراب، والقرف أيضا؛ إذ لم يتورع لا عن غسل يديه على الاتحاد (ويحق له ذلك بعد أن أكل وشبع إلى حد التخمة) ولا عن إعلان وفاته ولا عن وصفه بدكان انتخابي، ولا، ولا… !!! في جرائد جعلت من مهامها مسخ تاريخ الاتحاد الاشتراكي وتشويه ذاكرته (ولنا عودة إلى الموضوع).
الاربعاء 02 نونبر 2016.