في مشهد سياسي «مبلقن».. من يقف وراء من؟

بقلم: إدريس بنعلي
تعرف الساحة السياسية في المغرب حاليا غليانا كبيرا: بات السياسيون ينزلون بكل ثقلهم بتصريحات سياسية يشكفون فيها مواقفهم الحقيقية من عدد من القضايا، والحكومة بدورها تتحرك في كل الاتجاهات..
رئيس الحكومة وأعضاء فريقه الحكومي يناضلون ويضاعفون مبادراتهم وينشطون الحياة السياسية عبر إعمال آلية الخرجات الإعلامية؛ الأحزاب تحضر إلى مؤتمراتها وتنظم انتخابات لاختيار الزعماء والقادة يصل فيها التنافس ذروته؛ زعماء سياسيون جدد يغزون المشهد السياسي المغربي، والبرلمان أصبح فضاء مفتوحا للمواجهات المباشرة ومجالا لا يخلو من فرجة. هذه تحولات تكشف دينامية مثيرة وغنى كبيرا في الحياة السياسية المغربية. أكثر من ذلك، لا تخلو هذه التحولات بدورها من مستملحات ولمسات فلكلورية.
غير أن التفكير في جوهر هذه التحولات يقودنا إلى استنباط حقيقة واحدة: نكتشف أن الدينامية الجديدةتنحصر في الإثارة ولا تتجاوزها إلى الأفعال وتحقيق أشياء ملموسة على أرض الواقع؛ إذ يريد البعض أن يعطي الانطباع بأنه، حقيقة، في مستوى تطلعات وانتظارات السكان، وينسجم، بحق، مع روح الدستور الجديد.
الواقع أن الأحداث التي طبعت المشهد السياسي المغربي في السنتين الأخيرتين انتشلت بعض السياسيين المغاربة من السبات العميق الذي كانوا يغطون فيه، وأخرجتهم بعد طول خمول إلى الشوارع من أجل الاحتجاج.
ويرجع هذا التحول الملموس، في الواقع، إلى الهزة التي أحدثها الربيع العربي وصيغته المغربية، حركة 20 فبراير، في الحياة السياسية المغربية، إلى جانب عوامل أخرى أهمها المصادقة على الدستور الجديد، وصول حزبٍ إسلامي -كِيلت له كل التهم وحكم عليه بالبقاء أبد الدهر على الهامش- لأول مرة، إلى الحكومة بفضل انتخابات نزيهة نسبيا. الحزب نفسه لا يزال يلفت إليه الأنظار بفعل اختياراته الإيديولوجية والنوايا التي يعبر عنها قياديوه، ولاسيما أمينه العام الذي يشغل منصب رئيس الحكومة.
لكن المؤسف، حقيقة، أن هذه «الصحوة» لم تترجم إلى نقاش عميق يمس جوهر القضايا المطروحة ويفضي إلى بروز نخبة سياسية جديدة وإلى تشبيب الفاعلين الأساسيين في المشهد السياسي المغربي. وهذا ما يفسر، في العمق، عدم انخراط عموم المواطنين في هذه الدينامية؛ فقد ارتأت الجماهير أن تقف موقف متفرج يستمتع بما يقدمه الفاعلون المنشطون للمشهد السياسي المغربي من «عروض فكاهية»، حيث اكتشفت في بعض السياسيين قدرة خارقة على تسليتهم وجعلهم ينسون، ولو للحظات، مرارة الواقع. وأحيانا، تنظر الجماهير إلى هذه الفئة من السياسيين بفضول لكونهم غرباء حد العجائية.
ثمة أيضا فئة ثالثة من السياسيين يمكن تشبيههم بحراس العمارات، ونقصد بهم الرجال الذين يسرقون الأضواء بفعل قاموسهم السياسي المقتبس من الحقل اللغوي لحراس العمارات أولئك، وليس ببلاغتهم وفصاحتهم ورقي تفكيرهم. ونموذج ذلك التصريحات التي تبادلها كل من رئيس الحكومة والأمين العام لحزب الاستقلال في بحر الأسبوع المنصرم.
ويلزم التنبيه، في هذا الإطار، إلى أن السيد حميد شباط يقوم حاليا بتنشيط الحياة السياسية المغربية ويضفي عليها «نكهة» غابت عنها سابقا. وهذا سلوك غير مفهوم على الإطلاق من قبل الأمين العام لحزب الاستقلال؛ فرغم أن حزبه مكون أساسي داخل الأغلبية الحكومة الحالية، فقد انبرى لمعارضة رئيس الحكومة مطالبا إياه بالإسراع بإجراء تعديل حكومي يعلم حقيقة أنه لا يدخل ضمن اختصاصاته.
غير أن باقي مكونات التحالف الحكومي تواصل دعمها للحكومة. وهذه الأخيرة أيضا تواصل تنفيذ سياستها دونما تغيير، ولا يتوقع أن تحدث تغييرات في سياستها نزولا عند رغبة أحد مكوناتها، فأين تكمن المشكلة؟
ثمة فرضيتان للإجابة عن هذا السؤال، تفيد الأولى بأن زعيم حزب الاستقلال يصفِّي حساباته مع عناصر حزبه؛ وفي هذه الحالة، ينبغي أن يعلم بأنه ينقل الصراعات الداخلية لتنظيمه السياسي، بل والصراعات العائلية أيضا، إلى جهاز الدولة. ولا يمت هذا العمل إلى السياسة بصلة، لأنه يدخل في باب ما يمكن أن ننعته ب»الانتقام السياسي»؛ أما الفرضية الثانية، فتذهب إلى اتهام شباط بالسعي إلى إضعاف الفريق الحكومي الحالي وشلّ حركته ومنعه من مواجهة التحديات الحقيقية التي تعترض نمو البلاد وإطلاق الإصلاحات البنيوية الكبرى؛ وهذه ميكيافلية منحطة.
المؤكد، في جميع الأحوال، أن ثمة إرادة لمنع الحكومة من الاضطلاع بالسلطات المخولة لها بنص الدستور الجديد وتطبيق برنامجها الذي كسبت بفضله ثقة المؤسسة التشريعية. ومن هذا المنطلق، حُق لنا أن نطرح السؤال التالي: من يقف وراء من؟ ففي مشهد سياسي «مبلقن» يتضمن أحزابا لا تستند إلى إيديولوجيات واضحة ولا تنتهج استراتيجية دقيقة، وزعماء يغيرون آراءهم ملثما يستبدلون معاطفهم، نزداد يقينا بأننا بلغنا مرحلة الغموض الشامل والفوضى العارمة. صار مشهدنا السياسي شبيها ب»عوالم كافكا». وما يزيد الطين بلة هو تنامي القلق من وجود أشخاص أو قوى خفية تمسك بخيوط اللعبة وتتحكم فيها دون أن تخرج إلى العلن.
ويتمثل الهدف المنشود في محو جميع مكتسبات حركة 20 فبراير وإعادة الأمور إلى نقطة الصفر مجددا. وإذا كان حزب العدالة والتنمية قد استفاد من تلك الأحداث لإقناع خصومه، بل وأعدائه أيضا، بضرورة الخضوع لتفادي خلخلة النسق برمته، فإنه بات اليوم محاصرا من قبل مختلف القوى التي ناصبته العداء قبل اعتلائه سدة الحكومة. يبدو أن التحضير جار على قدم وساق لتنفيذ إبادة ما. لقد دخلت هذه الاستراتيجية حيز التنفيذ منذ بداية ولاية الحكومة الحالية وقد وصلت اليوم إلى مراحلها الحاسمة؛ فمن يقف وراءها؟

آخر مقال لإدريس بنعلي
2013

 

‫شاهد أيضًا‬

حضور الخيل وفرسان التبوريدة في غناء فن العيطة المغربية * أحمد فردوس

حين تصهل العاديات في محرك الخيل والخير، تنتصب هامات “الشُّجْعَانْ” على صهواتها…