نقصد بالواقع الحزبي الخارطة السياسية التي أفرزتها الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر 2016؛ ونقصد بالسياق السياسي المشاورات الجارية حاليا لتشكيل الحكومة الجديدة.
وسوف نقتصر، في تأمل هذا الواقع، على الوضع الحالي لأحزاب الصف الوطني الديمقراطي والتقدمي دون غيرهم من الأحزاب التي تؤثث المشهد السياسي المغربي؛ وذلك لاعتبارات سياسية ومنهجية.
حين نتأمل النتائج التي حصلت عليها الأحزاب الوطنية الثلاثة المنتمية للكتلة الديمقراطية المنهية الصلاحية، نجد أنها كلها تراجعت في نتائجها مقارنة مع ما حصلت عليه من مقاعد في الانتخابات التشريعية لسنة 2011؛ ويتساوى في هذا الأمر من كان في الأغلبية ومن كان في المعارضة.
ولهذا الأمر أهمية بالغة في التحليل وفي تحديد حيثيات القرارات السياسية المرتقبة وتقدير تبعات هذه القرارات، إن إيجابيا أو سلبيا، على الوضع الداخلي لكل حزب وعلى الوضع السياسي العام بالبلاد.
فإذا أخذنا نتائج كل حزب على حدة، سوف نرى أن الخسارة، وإن بنسب متفاوتة بعض الشيء، كانت فادحة. فحزب الاستقلال- الذي شارك في حكومة بنكيران الأولى، ثم خرج إلى المعارضة بعد مؤتمره الوطني السادس عشر الذي اختار السيد “حميد شباط” أمينا عاما له- تقهقر من المرتبة الثانية إلى المرتبة الثالثة بفقدانه 14 مقعدا مقارنة مع 2011.
أما الاتحاد الاشتراكي- الذي اختار المعارضة، في سنة2011، بناء على تقييمه لنتائج صناديق الاقتراع، التي اعتبرها بمثابة رسالة له من المواطنين لمغادرة سفينة التدبير والعودة إلى صفوف المعارضة، خدمة للوضوح الإيديولوجي وللفرز المنهجي والفكري بين المشروع المجتمعي الاشتراكي الحداثي والمشروع المجتمعي المحافظ؛ وهو الاختيار الذي زكاه المؤتمر الوطني التاسع- فقد خسر أكثر من 40 % من مقاعده وحصل بالكاد على العدد الذي يسمح له بتكوين فريق برلماني (20 مقعدا). وتراجع من الرتبة الخامسة التي تدحرج إليها سنة 2007 (بعد أن كان يحتل المرتبة الأولى سنة 2002)إلى الرتبة السادسة.
وفيما يخص حزب التقدم والاشتراكية الذي اختار، في سنة 2011، المشاركة في حكومة بنكيران، فقد خسر هو أيضا مالا يقل عن 40 % من مقاعده؛ إذ لم يعد يتوفر حاليا إلا على 12 برلمانيا، بينما كان له فريق برلماني من 20 عضوا في الولاية السابقة.
ومن شأن الوضعية الحالية لأحزاب الصف الديمقراطي والتقدمي في الخارطة السياسية المغربية أن تزيد الوضع، بالنسبة لهذه الأحزاب، غموضا ولبسا وتجعل التحليل أكثر تعقيدا وصعوبة؛ مما يجعل أي قرار يتخذ في هذا الاتجاه أو ذاك لا يعدو أن يكون مغامرة غير محسوبة (أو محسومة) العواقب. فليس هناك عنصر ملموس واحد قادر على أن يرجح الكفة لصلح هذا الرأي أو ذاك وييسر، بذلك، اتخاذ القرار المنظور. بل، العكس هو الصحيح؛ ذلك أن المعارضة والمشاركة تساوتا في مفعولهما السلبي على الأحزاب المعنية؛ إذ لا المعارضة حسَّنت من وضعية حزبي الاستقلال والاتحاد ولا المشاركة استطاعت أن تضمن لحزب التقدم والاشتراكية تحسين نتائجه أو الحفاظ على مكانته، على الأقل.
وهو ما يعني أن كل دفع في اتجاه المشاركة أو في اتجاه المعارضة لن يجد في النتائج المحصل عليها ما يمكن الاستناد عليه للمرافعة لصالح هذا الموقف أو ذاك. وبمعنى آخر، فلن يجد أي طرف مبررات مقنعة في الواقع الحالي للتنظيم الذي يريد أن يدافع عن مشاركته في الحكومة أو عن انخراطه في المعارضة؛ ذلك أن نتائج الاستحقاق الأخير قد أبطلت كل مبرر من هذا القبيل.
فماذا بقي إذن من مبررات للدفاع عن المشاركة أو المعارضة؟ بالطبع، لن تنعدم المبررات تماما. فكل فريق، داخل كل تنظيم، سيجد له ما يكفي من مسوغات لتبرير موقفه. فمن مع المشاركة، سيبحث عما سيقوي به موقفه؛ ومن مع المعارضة سيقوم بنفس الشيء. وسيكون النزال في الأجهزة التقريرية، ما لم يتم تفويض الأمر للأجهزة التنفيذية.
وأتصور أن القرار لن يكون سهلا ودورات البرلمانات الحزبية لن تكون فسحة والقيادات الحزبية لن تكون في راحة. أو على الأقل، هكذا أتصور الأمر بالنسبة للاتحاد الاشتراكي الذي يعنيني، بالأساس.
من مبررات المشاركة في الحكومة، التي بدأ يلوِّح بها البعض، هي المصلحة العليا للوطن. لكن هذا التبرير لا يصمد أمام التحليل؛ بل يبدو واهنا وغير مقنع؛ ذلك أن مصلحة الوطن يمكن خدمتها بالمعارضة أيضا. فخدمة الوطن لا تقتصر على المشاركة في الحكومة. وخير مثال على ذلك الاتحاد الاشتراكي الذي يشهد له التاريخ بدوره الريادي والفعال في هذا المجال.
ومن بين المبررات التي يقدمها المدافعون على الانخراط في المعارضة، مصداقية الخطاب. والمقصود بمصداقية الخطاب هو احترام التعهدات والقرارات والمواقف السابقة، أو على الأقل تجنب السقوط في نقيضها. والمقصود بالمصداقية، أيضا، هو الحفاظ على الهوية الإيديولوجية والفكرية. وبدون ذلك، سيعم الخلط وتكتسب مقولة “أولاد عبد الواحد كلهم واحد” نوعا من المصداقية؛ الشيء الذي سيزيد من أسباب العزوف السياسي ويغذي الشعور بالنفور من الأحزاب. وهو، حسب هذا التوجه، أخطر ما يمكن أن يهدد الحياة الحزبية والسياسية ببلادنا.
وإذا كان لكل توجه مبرراته وتبريراته التي قد لا تخلو، من جهة، من التطلعات الشخصية ومن المَسْحَات الذاتية، ومن جهة أخرى، من الوجاهة والسداد، فالمطلوب هو وضع كل هذه المبررات في ميزان المستقبل السياسي، ليس للأشخاص، بل للتنظيم الحزبي المعني. وحيث ما مالت كفة الميزان، فثمة القدر الكافي من الصواب والحد المطلوب من المعقولية والمقبولية في قرار بمثل هذه الأهمية. وعلى كل، فلن يكون هناك قرار يرضي الجميع، كيفما كان هذا القرار.
وأتصور أن الأمر سيكون أعقد بالنسبة للاتحاد الاشتراكي لاعتبارات كثيرة، ليس أقلها ما جاء في البيان السياسي العام للمؤتمر الوطني التاسع فيما يخص التحالفات السياسية المستقبلية. فقد أكد البيان المذكور أن مهمة “تدقيق التحالفات السياسية في المستقبل، في انسجام مع مرجعيتنا الاشتراكية الديمقراطية وخطنا السياسي وقيمنا الحداثية التقدمية، أصبحت مهمة أساسية، مبدئية، لا يمكن تحت أي مبرر من المبررات الاستهانة بها أو القفز عليها، كما لم يعد مقبولا السقوط مجددا في سوء تقدير بخصوص نتائجها على الوعي الجماعي وعلى مهام فرز القوى السياسية بشكل موضوعي ومفهوم”.
لقد حاولت أن أقارب واقع أحزاب الصف الوطني الديمقراطي والتقدمي، على خلفية ما أفرزته الانتخابات الأخيرة من نتائج، بنوع من الحياد والموضوعية، مستحضرا الصعوبات والتوجهات الممكنة. حاولت، قدر الإمكان، أن لا أميل لأي موقف ولا أنحاز لأي توجه، رغم أني لست من أنصار الحياد في المواقف.
واعتبارا لانتمائي الحزبي، فقد استنكفت عن إبداء أي رأي شخصي في شأن موقفي حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية. أما فيما يخص حزب الاتحاد الاشتراكي، فأحتفظ برأيي لحين انعقاد جهازه التقريري. وإلى ذلكم الحين، كل المودة والتقدير لكل من يقرأ هذه المساهمة (المتواضعة) في مقاربة جانب من الواقع السياسي المغربي على ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة.