بعضهم يختار أن يطلق عليها صفة «الإختراق»، بينما الحقيقة أنها مجرد مرحلة أكثر تقدما في الإستراتيجية الإفريقية للمغرب، منذ تدشين دوره المركزي، ضمن تجمع دول الساحل والصحراء، في بداية الألفية الجديدة. حين شرعت الرباط، بوعي جيو ستراتيجي جديد، في رسم أشكال تعاون جديدة مع عمقها الإفريقي، بالشكل الذي سيعزز من قوتها الجغرافية كواحدة من بوابات إفريقيا باتجاه أروبا وأمريكا الشمالية (أقرب المطارات والموانئ الإفريقية إلى أروبا الغربية وإلى واشنطن وكندا وأمريكا الوسطى، هي المطارات والموانئ المغربية). وهو التوجه الجريئ، الذي على قدر ما له من إيجابيات ملموسة، على قدر ما له من فاتورة، ضمن منطق التدافع بين مصالح عدة متقاطعة في منطقتنا لغرب المتوسط وشمال إفريقيا. وهي الفاتورة التي لا يمكن عمليا، إلا أن تشحذ ذكاء مدرستنا الديبلوماسية المغربية، بالشكل الذي سيعلي من قيمتها واحترافيتها. لأنه لا يمكن أن تتعلم التحليق عاليا، سوى حين ترتقي مع الريح وحين تختار مغامرة التحليق مع الكبار.
على هذا المستوى، تجب الرؤية، في ما أتصور، للزيارة الملكية الجديدة لعدد من دول إفريقيا. ميزتها، الكبرى، أنها أول زيارة من نوعها، لرمز الدولة المغربية، إلى منطقة البحيرات الكبرى، وشرق إفريقيا والفضاء الأنغلوساكسوني. التي تشمل، لأول مرة رواندا (المستعمرة البلجيكية السابقة) وتانزانيا (التي تناوب عليها الإستعمار الألماني ثم الإنجليزي) وإثيوبيا (المملكة الإفريقية القديمة الوحيدة التي لم تقع تحت الإستعمار رغم 5 سنوات من الإحتلال الفاشي الإيطالي لجزء من أراضيها). وهي الدول الثلاث، التي تشكل مداخل (لكل من يحسن قراءة أثر الموقع الجغرافي في نسج العلاقات الجيوستراتيجية بين الدول والمصالح)، تشكل مداخل/ مفاتيح لكل الشرق الإفريقي، حيث أديس أبابا ودار السلام وكيغالي، محطات حاسمة في ذلك، إلى جانب العاصمة الكينية نيروبي، وأن المداخل لذلك هي أساسا اقتصادية وأمنية. وليس اعتباطا، مثلا، أن من بين 19 اتفاقية التي تم التوقيع عليها في المحطة الأولى لهذه الجولة الملكية الجديدة، بعاصمة رواندا، نجد اتفاقيات اقتصادية وأمنية بالأساس، وعدد أقل من الإتفاقيات ذات الطبيعة السياسية، رغم أهمية تصريحات وزيرة خارجية كيغالي. مما يؤشر على أن اللغة الجديدة، التي يتكلمها الجيل الجديد من المسؤولين الأفارقة، ليست لغة المناسبات والتمنيات، بل لغة الأثر الملموس في الواقع الملموس.
والواقع الملموس، هو أن المغرب سيدخل ماليا وتنمويا في شرق إفريقيا، من خلال توسيع حضور مؤسساته البنكية وأيضا من خلال الإستثمار في مجالات العقار والفلاحة والتكوين التقني. وأن ذلك لا يمكنه أن يتم بدون إطار تعاون أمني غير مسبوق. وأعتقد أن معنى التعاون الأمني هنا، لا يعني فقط، تبادل الخبرات، بل هو بداية لإعادة تأسيس غير مسبوقة وهامة جدا، للعقيدة الأمنية المغربية، في أفق انفتاحها العالمي، الذي لا يمكن أن يكون مسموعا ومطلوبا ومؤثرا واحترافيا، سوى حين يستند على قوته في عمقه الإفريقي. لأنه علينا الإنتباه، أن فتح نافذة على التعاون الأمني مغربيا، مع ذلك العمق الشرق إفريقي، فيه نقلة غير مسبوقة مغربيا بمقاييس قارية وعالمية. ذلك أن الملفات الأمنية لبحر زنجبار، كمقدمة لبحر العرب عند مضيق ممر المندب وكمقدمة للمحيط الهادئ، عند فضاء يمتد من دجيبوتي والصومال، حتى الموزمبيق، ثم في امتداده ضمن فضاء منابع مياه النيل والبحيرات الكبرى، هي ملفات مختلفة تماما عن ملفات غرب إفريقيا ومنطقة الساحل. لكنها، متفاعلة معها عند نقط تماس عدة، ليس أقلها الملف السوداني واليمني والليبي. هنا، فإن الخبرة المغربية، لا يمكن إلا أن تغتني عاليا، خاصة حين نجدها ذات أذرع متكاملة بين ما هو اقتصادي وأمني.
طموح مشروع “آفرو متوسطي”
ألن تخلق هذه الإستراتيجية الإفريقية للمغرب حساسيات هنا وهناك؟. سيكون من الخطل الإعتقاد عكس ذلك. لكن، السؤال الآخر الأهم، هو: هل يعني ذلك، أن لا يتحرك المغرب لترسيخ تعاونه جنوب جنوب، بما يعزز من توجهه الإستراتيجي الجديد، كدولة، الذي انخرط فيه منذ 1999، تسعى أن تكون ابنة زمنها، وابنة منطق القرن 21؟. أي ابنة زمن منطق التكتلات الإقتصادية والتعاون الدولي بمنطق رابح رابح. واضح الجواب المنطقي في سياق مماثل، الذي، ها هنا، مهم قراءة نوعية الوفد المرافق للعاهل المغربي في زياراته الإفريقية، وضمنها هذه الجولة الجديدة. إنه يضم أكبر عدد من رجال الإقتصاد والمال والأعمال، وأنها زيارات مدققة البرنامج، كل دقيقة فيها، هي مجال للقاءات تقنية ومشاورات. فالرأسمال الأساسي عند أصحابها هو “قيمة الزمن”. فالمجال ليس للخطابة والمجاملات، بل هو للنقاش والتدافع وخطاب الصراحة والحساب، من أجل إنضاج أشكال تعاون ملموسة ومدققة وذات نتائج على الأرض. علما أن إفريقيا الجديدة، أصبحت تتكلم لغة التعاون، لا لغة المواقف، خاصة في شقها الأنغلوساكسوني (بما لذلك من خلفية ثقافية سلوكية، قليلا ما ينتبه إليها. تكمن في أن الثقافة الأنغلوساكسونية عملية مباشرة فعالة، عكس الثقافة الفرانكوفونية النظرية أكثر، البيروقراطية أكثر). دون إغفال معطى سوسيولوجي جديد، مغربيا، المتمثل في الجيل الجديد من النخبة المغربية، التي أغلبها شابة، ذات التكوين الأكاديمي العالي، المنتمية اجتماعيا لشرائح تندرج عادة ضمن “الطبقة المتوسطة”، والتي عمليا على أكتاف قيمة تكوينها العلمي والميداني، المتراكم خلال العشرين سنة الماضية، في عواصم أكاديمية منوعة (لندن/ مونريال/ أمريكا/ باريس/ برلين/ بروكسيل)، يتم تنفيذ هذه الإستراتيجية الإفريقية الجديدة للمغرب. ومن أكثر المجالات حيث تبرز تلك النخبة الجديدة، هي مجالات الفوسفاط، العقار وقطاع الأبناك والتأمين. وحين قلت، إنه علينا الإنتباه لهذا المعطى السوسيولوجي الجديد، مغربيا، فلأنه يكاد يعزز ذات التوجه الذي انخرطت فيه مجتمعات ودول أخرى بالعالم، أصبحت اليوم تصنف ضمن خانة “الدول الصاعدة”، التي تؤكد يقين أن صناعة القرار الإقتصادي والتنموي (وبالإستتباع السياسي)، عالميا لم يعد محصورا في المركزية الغربية. تلك المركزية التي ظلت سيدة العالم لقرون أربعة كاملة، وهي تجربة كل من الهند وتركيا والبرازيل وبولونيا.
إن أهمية الجولة الملكية الجديدة لشرق إفريقيا، البراغماتية، العملية، المنتجة، هي بعض من المقدمة لأفق تعاوني إفريقي جديد، يدشنه المغرب، يؤسس ميدانيا لما نراه دوما حاجة تنموية واجبة، نحب دوما وصفه ب “الفضاء الآفرو متوسطي” فضاء جيوستراتيجي جديد، مفروض أن يمتد من مضيق جبل طارق حتى قناة السويس، ويصل عمقه الإفريقي من دار السلام بتانزانيا حتى خليج غينيا الغني والإستراتيجي. وهنا فإن مجتمعات ودول مثل المغرب والجزائر ومصر ونيجيريا والسينغال والغابون وكينيا وإثيوبيا وتانزانيا، لها أوراق قوة مالية واقتصادية وأمنية وبشرية، قدرها هو التعاون بمنطق التكامل من أجل تحقيق ذلك “الفضاء الآفرو متوسطي”. عمليا، المغرب، الدولة والمجتمع، المسنود بقوة ترسيخ خياره الديمقراطي والمؤسساتي داخليا، يحاول ذلك ويقوم بدوره الإيجابي لترسيم خريطة الطريق التنموية البناء هذه. وهنا، جديا، لا يمكن أن يكتفي الآخرون بمجرد المزايدة عليه، لأن منطق الدول، ومسؤولية نخبها الحاكمة أمام شعوبها، تفرض الإنخراط في الزمن العالمي الجديد للتعاون الدولي، بمنطق التعاون والتكامل. وهذا أمر يخاطب (ويحاسب) ذكاء النخب الوطنية الكامنة في كل من الجزائر ومصر، ضمن عمقنا العربي الشمال إفريقي، بما تملكانه من مصادر قوة اقتصادية وأيضا من ثروة بشرية.
العودة إلى الجذور، الحبشة وزنجيبار
تعيدنا الجولة الملكية، غير المسبوقة، إلى شرق إفريقيا، ليس فقط إلى إعادة ترتيب متقدمة وجريئة للإستراتيجية الإفريقية للمغرب، بما يملكه من إمكانيات اقتصادية وبشرية تحدد حجمه غير المستهان به، ضمن أفق إفريقي، متوسطي وعربي. بل، إنها تعيدنا في بعض محطاتها إلى تجديد العلاقة مع عناوين لها رمزيات خاصة ضمن المخيال العام الثقافي والقيمي للمغاربة. وأساسا من خلال عناوين “الحبشة” (إثيوبيا) و”زنجبار” (تانزانيا).