استهلال:
“لقد ظل الحذر ضحية حياة الكلمات وتنوع الفلسفات وبشكل عام الروح الجماعية. لقد كان ضحية للمذهب العقلاني في البداية وللمذهب الأخلاقي بعد ذلك. ولصلته ببعض من رؤى للعالم يجب أن يصير إلى أفوله”.[1]
لطالما وقع الإنسان في وجوده الراهن ضحية الجهل والمغالطة وتصرف تحت تأثير صدمة الواقع ورزح لتضليل وسائل الاتصال وضغط الإعلام وتلاعبت الدعاية بعقله وعاش دون أن يدري في وضع مقلوب وخاضع للاغتراب الديني والاستغلال الاقتصادي والاستبداد السياسي الناعم. ولطالما احتاج الإنسان دائما إلى توظيف ملكة الحذر بغية الاحتراس من الوقوع في الرذائل وتفادي المفاسد والابتعاد عن المضار وجلب المنافع وإتيان المحاسن وذلك بحسن توظيف المدارك والتسلح بالحيطة وتحقيق الاستفاقة وبلورة أدوات اليقظة واستعادة نعمة الوعي وتغليب روح الأنوار والاستقلالية على ظلمات التبعية والتقليد. لقد كان الحذر مستعملا بكثرة في الحياة الروحية وأوصت به الشرائع السماوية والمعتقدات والحكم التي وضعها البشر وأقبل عليه الحكماء منذ الإغريق والفرس والعرب والرومان واللاّتين إلى الأزمنة الحديثة.
ولقد تم الاستنجاد به في عمليات شحذ الذهن وتقوية البصيرة وترويض الإرادة وإعداد السلوك وتدبير الفعل وتوجيه العقل نحو غائية راقية ودفع الرغبة نحو مقاصد نبيلة وكان خير سند للمرء عند الحيرة وأفضل التجارب الممكنة التي تسهل للناس عملية التمييز بين الجيد والرديء وتجود ملكة الحكم والتعقل. لقد ربط الفلاسفة الحذر بالشجاعة وجعلوا الإنسان الحذر إنسانا متفوقا والقادر على إصدار أحكام صائبة. لكن لماذا توقظ الفضائل والرذائل في الفكر وعلى حد السواء أحاسيس مبهمة بدل أفكار واضحة؟ وهل الحذر فضيلة أم رذيلة؟ وهل يوقظ في الذهن إحساسا مبهما أم فكرة واضحة؟ وماهي الدواعي التي جعلت التراث الأخلاقي الغربي يقوم بحجب وتغطية فضيلة الحذر؟ وما سر قيام الفلاسفة اليونان بتمجيد فضيلة الحذر؟ وكيف تحول الحذر إلى ضحية فيما بعد؟ ومن يتحمل مسؤولية الاستعمال الانتفاعي للحذر؟ هل تتحمل السياسة الواقعية مسؤولية في هذا الاستخدام النفعي؟ وأي دور باتت تلعبه فضيلة الحذر في اللعبة السياسية الراهنة؟ وإلى ماذا يرجع هذا الاختلاف في الحكم عليه؟ هل يعود إلى هيمنة اللاهوت أم سيطرة الميتافيزيقا؟ بماذا يتعلق الحذر؟ وما هو مضوعه ومجالاته؟ هل يتنزل في نظام الغايات أم في نظام الوسائل؟ وأين يمكن إدراج فضيلة الحذر؟ هل ضمن إطار الحكمة النظرية أم في الحكمة العملية؟
ما نراهن عليه من خلال هذا المبحث هو حمل قضية الحذر من دائرة الالتباس والإهمال والغموض إلى دائرة الوضوح المفهومي والتصور الدقيق والفكرة المتوهجة والاهتداء به وسط العواصف والتقلبات.
1- الحذر بين أفلاطون وأرسطو:
“إن استقامة الفضائل الأخلاقية تتوقف على الحذر”.[2]
يطرح مفهوم الحذر مشكلا فيلولوجيا وفلسفيا ويفترض وجود منبع عصي عن الفهم وغير موثوق به، وإن لم تكن اختلافات الأحكام حول الحذر مجرد فوارق دلالية بين الكلمات بل ترجع إلى قوة الحدث التاريخي وتطلب التخلص من الاعتبارات الميتافيزيقية والأحكام المسبقة والمفاهيم الجامدة على غرار الضرورة.
تفيد كلمة الحذر prudence في اللغة الفرنسية الموقف الذي يدفع المرء إلى اتخاذ جميع التدابير ودراسة الظروف والإحاطة بالوضعيات وتشخيص الصعوبات وسبر العراقيل وتوقع التبعات قبل مباشرة الفعل.
لهذا السبب تم تصنيف الحذر من طرف التراث القديم والوسيط في إطار الحكمة النظرية التي يطمح الإنسان إلى بلوغها ووقع اعتباره من أهم الفضائل وأكثر تشريف للطبيعة البشرية ولقد نعتها الفلاسفة الإغريقيين بجودة التمييز Sophia في حين ربطها الحكماء اللاتينيين بالمعرفة الفطنة Sapientia.
غير أن الاقتران التاريخي الذي توطد بين الحكمة والحذر والتعامل معهما بوصفهما فضيلتين متطابقتين قد أفضى إلى الرفع من قيمة الحكمة والتنقيص من قدر الحذر من جهة الوظيفة والمرتبة والغايات والماهية.
لقد تم اعتبار الحكمة هي الاستعمال النظري للعقل بطريقة تأملية خالصة بينما وقع معاملة الحذر على أنه الاستعمال العملي للعقل بطريقة خبرية تداولية وأعطيت للحكمة منزلة التأسيس والقيادة بالنسبة إلى الحذر وبالتالي نسبت الحكمة إلى استطلاع الفكر وأدرج الحذر في نسق الفضائل التي تتحكم في التجربة العملية.
حد التعقل هو مفهوم مركزي في الفلسفة الإغريقية ولقد ارتبط بالعقل والقلب والأهواء وميز الحالة تمر بها النفس عند الاختيار التفضيلي بين الأفعال وما تبديه من تريث وتروي ومداولة وتصويب وتسديد وقوة الشكيمة والعزم والتصميم والتنفيذ وما تراكمه من حس سليم وخبرة عملية وحنكة التجربة واعتدال الشعور وحيازة الوعي الإدراكي ونضج الفكر وصلابة العزيمة وسرعة الذهاب إلى حقيقة الظواهر.
لقد كان الحذر هو الحكمة العملية التي تسمح بالتمييز بين الضار والنافع في توجيه الحياة وتحديد الوسائل الملائمة لبلوغ الغايات وتحقيق الأهداف. لقد عده أفلاطون مع العدالة والشجاعة والاعتدال أحد الفضائل الأساسية واعتبره المعرفة الثابتة بالوجود الثابت بالتعارض مع الرأي والظن والإحساس بالأشياء المتغيرة وأدرجه في محارة “الفيلاب” ضمن التأمل الذي يؤسس الفعل المستقيم بالتطابق مع المثل المطلقة والثابتة.
لقد حاول أفلاطون أن يحافظ على التنوع الدلالي لمصطلح الحذر بأن أضاف له محمولا فلسفيا يرتكز على التأمل المحض للفكر ويجعل من التعقل حالة تصير إليها النفس حينما تقترب بشكل كبير من العقل الكلي.
يصرح أفلاطون على لسان سقراط في محاورة الفيدون ما يلي:” تقود النفس في حد ذاتها بواسطة نفسها امتحانها نحو ما هو محض وما هو دائم وما هو خالد ويكون دائما مطابق لذاته… يبقى بالقرب من هذه الكائنات مشابها دائما لذاته بما أنه يظل على اتصال دائم بنفسه. أن حالة النفس هذه التي تسمى التعقل”.[3]
ما يترتب عن ذلك أن مفهوم التعقل عند أفلاطون ظل يتحرك ضمن سياق محض ويشكل مثالا حياتيا موجه كليا بواسطة الفكر ويعتمد على الحكمة في تحويل الانفعالات عن الرذائل نحو تحصيل الفضائل. كما يشتغل التعقل عنده على المحتوى الباطني للنفس وذلك بإكسابها مجموعة من الفضائل ودفعها لكي يرتقي إلى فضيلة الحكمة بوصفها الغاية المطلقة التي تطلب لذاتها وملكة كل الفضائل الأخرى.[4]
بهذه الطريقة التأملية يصل التعقل عند أفلاطون إلى مرتبة نوعية تجعله يمنح الوحدة لكل الملكات الذهنية ويوصف بكونه ملكة الفضائل الفكرية ويتميز عن الفانتازيا التي تجمع بين الإحساس والخيال وعن الذاكرة والمعرفة التأملية وعن الرأي السديد والاستدلال والذكاء والفهم وعن التقنية التي تحسن الصنع بالثبات في الأمر والرسوخ في الايمان والسداد في الرأي والمداومة على الفعل.[5] وبالتالي يمتلك التعقل نقطة ارتكاز قوية تسمح له بتجاوز الرأي ولا يملك العلم ذاته عليه أي سلطة يمكنها أن تتحكم فيه ولذلك يبتعد أفلاطون عن النظر إلى التعقل بوصفه البعد العملي للفكر الذي يهتم بتوجيه الفعل ويبقي على وظيفة التوجيه والقيادة إلى بلوغ الفكر درجة من العلو والتفوق على الصعيد الفكري الخالص.
أما أرسطو فإنه أعطى للتعقل وظيفة تحقيق الاستمرارية بين الأشكال الدنيا من الوجود التي تمنح الإدراك والوعي والأشكال العليا التي تمنح أدق تجارب التفكير وأحسن الفضائل الفكرية وكل الأنشطة التي تحدد ذاتها بذاتها دون الحاجة إلى وسائط أخرى وصرح بأن “التعقل هو الأكثر أهمية من بين الخيرات”.[6]
بعد ذلك قام أرسطو في كتاب “أخلاق إلى نيقوماخوس” بتطوير هذا المفهوم في اتجاه العلم العملي مميزا إياه عن العلم النظري وعن الفضيلة النظرية وأسند له القدرة على المداولة في الأشياء العرضية واعتبره فضيلة النفس العقلانية التي تتمتع بالقدرة على الحساب والاستعداد العملي الذي يقصد الفعل وليس الإنتاج ويعتني بقاعدة الاختيار وليس بالاختيار في حد ذاته. تبعا لذلك يصلح الحذر للإجابة على الوضعية الأنطولوجية للإنسان التي تتصف بالهشاشة والتمزق والتوتر والتردد ويستخدمه هذا الأخير في رأب التصدع الذاتي وتحقيق التماسك الداخلي والاقتدار على التمييز بين الخير والشر بشكل عام والإجادة في تحديد الوسائل الضرورية والكافية لبلوغ الأهداف والتخلص من الآفات ويستوجب الحذر شحن الإنسان بالملكات بغية التفريق بين الممكنات وإدراك اللحظة الحاسمة في الاختيار وتسديد الفعل بواسطة الفضيلة.
بهذا المعنى “الحذر هو استعداد، يرافق القاعدة الصحيحة، وقادر على الفعل في حقل ما هو حسن أو قبيح بالنسبة إلى الكائن البشري”.[7] على هذا الأساس سعى أرسطو نحو تأسيس فضيلة التعقل أو الحذر على أرضية عقلانية وجودية بالتعارض في نفس الوقت مع التجريبية السفسطائية الكلامية والعقلانية المثالية الأفلاطونية. كما أعاد تعريف مفهوم التعقل ليُفيد به الأشكال العليا من الفكر من ناحية ويشير إلى الذكاء العملي الذي يكتسبه الحيوان عن طريق التجربة من ناحية وعبر انتمائه للقطيع من ناحية أخرى.
بيد أن طرافة أطروحته تكمن في مفهوم التعقل الإيتيقي الذي يهتم بتدبير السلوك البشري في وضعيات عرضية وظروف خاصة وضمن تجارب انتقالية لا تتوافق مع قواعد كلية وقوانين عامة وأطر مسبقة.[8]
لقد حدد أرسطو مفهوم الحذر من خلال تمييزه الإنسان الحذر عن الإنسان الغافل من جهة وبالانطلاق من الأفعال الحذرة وتمييزها عن الأفعال المهلكة القبيحة وتقريبها من الأفعال الإرادية الحميدة من جهة ثانية. كما اشترط الالتزام بماهية الحذر وجود الإنسان الحذر واعتبره أساس الالتزام بهذه القيمة وقاعدة تطبيق هذه الفضيلة على أرض الواقع ووصفه بالمنصف. “فإذا كان الحذر هو الفضيلة الأخلاقية التي تسمح في كل مرة بتعريف المعيار فإن المنصف ينبغي أن يمتلك فضيلة الحذر في أكثر نقطة علوا من أجل أن يطبقها في ميدانه الخاص الذي هو توزيع الخيرات وبصورة أكثر عمومية العلاقات بين الناس”.[9]
لقد أكد على أن الإنسان الحذر هو الإنسان القيّم وعلى أن الأفعال الحذرة هي الأفعال الحسنة والجميلة. بهذا المعنى يقوم الاستعمال الإيتيقي للتعقل على استعداد جزء عاقل من النفس للانتباه والحذر واليقظة والتسلح بالحيلة والمناورة والتنازل والحيطة والاحتراس والتراجع في ظل الوضعيات الصعبة والجزئية. لكن إلى أي مدى يتعارض مفهوم الحذر مع الحياة السعيدة التي تقوم على مبدأ تحصيل اللذة وتجنب الألم؟ وهل يتنزل الحكم على فضيلة الحذر ضمن دائرة القيم المطلقة والثابتة أم المعايير النسبية والمتطورة؟
2- الحذر بين الرواقية والأبيقورية:
“يبدو أن التعقل يشير هنا، مثلما هو الشأن عند أرسطو، الى وحدة النظر والعمل، والمعرفة والفضيلة”.[10]
لقد بقي الحذر مفهوما مركزيا في الفلسفة الهيلينية عند الأبيقورية والريبية والرواقية وعد من الفضائل الرئيسية التي تنظم الحياة الأخلاقية في كليتها وتمثل الخيط الرابط والمبدأ الموحد لكل الفضائل الفرعية.
لقد حاولت الفلسفة الرواقية الخروج من قبضة أرسطو بتعاملها مع الحذر باعتباره علم الأشياء والأعمال التي توجد في متناولنا ويمكن القيام بها وتمييزها عن الأشياء التي ليست في متناولنا ولا يمكن القيام بها.
لقد شكل الحذر Prudence عند الرواقية واحد من الفضائل الأساسية الأربعة التي تتربع على قمة الحياة الأخلاقية والتي يبلغ بها المرء الاستقامة في سلوكه ويسيطر على أهوائه وانفعالاته حينما يتبعها في حياته.
لقد أكد زينون على أهمية المعرفة في إتباع الفضيلة وتحصيل السعادة وعلى دور فضيلة الحذر في حيازة الفضائل الأخرى والتغلب على الاختلافات القائمة بينها وتوحيدها وإيجاد حلول لكل المصاعب والتغلب على المشاكل والنظر “للشجاعة بوصفها الحذر في تحمل الأشياء والعدالة في الأشياء التي يحمل عليها”.[11] بعد ذلك قام شيشرون بخلق مفهوم Prudentia لكي يشير به إلى من ينظر إلى الأمام والى المستقبل ويقرأ عواقب الأمور وذلك بامتلاك جملة من المهارات النظرية والفضائل العملية التي تتفادى المخاطر وتغرس الحكمة في العقول والذكاء في الأنفس وتبلور المعرفة الصانعة التي تساعد على تنظيم المدينة.[12] لقد حاول شيشرون الجمع في ترجمته لكلمة الفرونيزيس بين الحذر والتعقل والمعرفة والحكمة ولكنه أضاف حسن الخلق والوفاء إلى الحقيقة واعتبار الشرف والكرامة والتمكن من تمييز الحق عن الزيف. كما امتحن طبيعة الحذر ضمن سياق ديناميكي يشقه البحث المتواصل عن الحقيقة والنزاع المستمر بين الواجبات والتعارض بين فضيلة الحذر وملكة المعرفة والتضارب بين اختيار الوسائل وبلوغ الغايات.
لقد عرف شيشرون التعقل من حيث هو معرفة الأشياء التي يجب تفاديها وعمل الأشياء المرغوب فيها ورفض التمييز القديم بين المعرفة النظرية والحذر العملي الذي انحدر عن التمييز بين الحكمة والتعقل. لقد بان بالكاشف احتياج الحذر إلى البصيرة النظرية واستكمال البعد التأملي للحكمة بالتطبيق العملي.
من جهة مقابلة يذهب أبيقور إلى أن الحذر هو المبدأ المنظم لمختلف مجريات الحياة الأخلاقية ووسيلة مفضلة ومتبعة لدى الحكماء من أجل تجنب الألم والأذى والمضرة واقتناص اللذة والإمتاع والمنفعة.[13]
على هذا النحو يدعو أبيقور الإنسان إلى التسلح بالحذر في حياته إذا ما رغب في تنجب الشقاء الناتج عن اختلاط الأهواء وتناقض الرغبات في الحياة اليومية وإذا ما سعى نحو بلوغ الحياة الفلسفية والتمتع بالرائق وتجنب الكدر ويعتبر الحذر شرط الحياة الأخلاقية وأهم الوسائل التي تفضي إلى نيل الفضيلة والسعادة.
بيد أن الفكر الديني قد تعامل معه بنوع من الاستخفاف والاختزال واعتبره من الفضائل الدنيا وبلور نظرية تعتمد على الخلقية في تطعيم الوعي الأخلاقي وتسند إلى هذا المبدأ مهمة ترشيد الفعل البشري. علاوة على أن الفلسفة الحديثة قد أفقدت كلمة الحذر Prudentia دلالتها الإغريقية التي كانت تفيد التعقل بالمعنى الفرينوزيسي phronesis عند أرسطو ودلالتها الرومانية التي تنصص على أهمية فكرة العناية Providentia عند شيشرون عندما اختصرتها في خصال البصيرة prévoyance والحيطة والاحتراس والحصافة واليقظة والانتباه والحرص والتوقي من العواقب الوخيمة بعد تسديد الرأي وتصميم العمل.
لقد أصبح الحذر فضيلة عملية تنطبق على الحياة بصورة ملموسة ولكن هذا التحول أفقده الوظيفة التي كان يقوم بها في الفلسفة اليونانية والتي تجعله يحدد غاية الحياة البشرية ويختار الوسائل الضرورية لبلوغها.
اذا كان الحذر يفيد التعقل ويدرج ضمن الفضائل الرئيسية عند الرواقية والأبيقورية يجد منزلته الإيتيقية عند تقسيم النفس العاقلة إلى جانب علمي وجانب تداولي وعند التمييز بين الخير المطلق والضروري الذي يمثل موضوع الحكمة والخير النسبي والعرضي الذي يمثل موضوع اختيار البشر في عالم الأرض.
لكن ما الذي يمنع الإنسان من التعامل مع فضيلة الحذر (التعقل) على أنها واجب أخلاقي وأمر قطعي؟
3- الحكم الكانطي على الحذر:
“لقد شطب كانط الحذر من الأخلاقية لأنه ليس سوى أمرا شرطيا”[14]
إذا كان تاريخ الفلسفة يقدم مدارس الرواقية والأبيقورية والريبية على أنها الاستثناء في مستوى بناء رؤية منصفة ومميزة للحذر فإن عمونيال كانط يعتبر هذا التقديم مجرد نظرة خارجية وملامسة من الظاهر للمسألة ويقر بأن هذه المدارس حاولت تأسيس الأخلاق على المبدأ العقلي للاكتمال وبالتالي تفادت الاستناد إلى المبدأ الخبري للسعادة ولكنها أخفقت في اختيار الاكتمال كمبدأ مادي يقوم بتحديد الإرادة بشكل صائب وظلت تتعامل مع الحذر كوسيلة تستهدف غايات خارجية وتابعة لعوامل الصدفة والاضطرار والإكراه.
لقد أدرج كانط الحذر klugheit ضمن دائرة الأمر الشرطي الذي يختلف عن الأمر القطعي في كتابه “الأسس الميتافيزيقية للأخلاق” بتأكيده أن جميع الناس يقترحون بالضرورة السعادة هدفا لحياتهم ويعولون على الحذر في اختيار وسائل تقودهم وتوجههم نحو تحقيق أكبر قدر من تمام الوجود.[15]
لا يتحدث كانط في مؤلفاته في الفلسفة العملية عن الأوامر الشرطية إلا لكي يظهر الفوارق التي تبعدها عن الأوامر القطعية وبالتالي لكي يبين الشروط والخصائص والأبعاد التي يجب أن تحدد الفعل الأخلاقي.
لا يذكر كانط في نقد ملكة الحكم القواعد التقنية التي تطابق الأوامر الشرطية التي تحدثت عنها المؤلفات الأخلاقية مثل نقد العقل العملي والأسس الميتافيزيقية للأخلاق إلا لكي يجعل منها مجرد نتائج للقضايا النظرية ومستلزمات للفلسفة التأملية وبالتالي لا يعتبرها قضايا أخلاقية يتم اشتقاقها من الفلسفة العملية.
بيد أن الأوامر الشرطية تتضمن منفعة مزدوجة: فهي من ناحية تحوز على وضع منطقي ومعرفي والقضايا التي تعبر عنها تحتاج إلى توضيح ويمكن أن تكون حسنة على المستوى النظري ولا تساوي شيئا على الصعيد العملي. غير أن الإنسان في حياته اليومية لا يتصرف وفق الأوامر الأخلاقية القطعية بل يعتمد بالأساس على الأوامر التقنية للمهارة ويبحث عن شروط البراعة والأوامر البراغماتية للحذر.
اللافت للنظر أن كانط في كتابه “الأنثربولوجيا من وجهة نظر براغماتية” وضع هذه الموجهات ضمن دائرة الأنثربولوجيا وليس ضمن دائرة الأخلاق وتعامل مع الحذر بوصفه محايد من الناحية الأخلاقية. ولم يقم كانط بتطوير فضيلة الحذر إلا ضمن “دروس حول البيداغوجيا” حينما عمل على التفريق بين الثقافة التقليدية للمهارة والثقافة البراغماتية للحذر وقد ترتب عن ذلك أن قام بإخراجه من دائرة الثقافة الأخلاقية.
لقد طرح كانط مسألة الحذر في نقطة التوتر التي تلتقي عندها كل من الأخلاق بالسياسة والتربية بالثقافة ولقد برز باعتباره أول من اعترف بالطابع المقولي لنصائح الحذر وقواعد المهارة وقوانين الأخلاق.
لقد زاد التحيليل الكانطي لمقولة الحذر من درجة التبخيس القيمي الذي تعرضت له هذه الفضيلة في النسق العام للقيم ولقد ألصق تهمة لاأخلاقية الحذر بالمدرسة الأبيقورية وقام بإخراجه من دائرة الأخلاقية وذلك لاقترابه من دائرة المهارة والصنعة وسرعة البداهة وقوة التركيز وشدة الحفظ وصلابة التصميم والتقرير.
تقتضي الأخلاقية Moralité أن يقوم العقل بتحديد الفعل بصورة جذرية خارج كل تحفيز حسي أو باعث، بينما تستوجب المهارة تطبيق ما يمنحه العقل العملي من مجموعة من التحذيرات والتنبيهات والتوصيات.
لقد حدد كانط مفهوم الحذر على النحو التالي:”يمكن أن نعطي اسما للحذر، بأن نأخذ الاسم في معناه الأكثر صرامة، إلى المهارة التي تقودنا في اختيار الوسائل من أجل حسن الوجود في قسمها الكبر الخاص بنا”.[16]
ما يلفت للنظر أن هذه الصياغة الكانطية تقوم بتقريب الحذر من الخبث والحيلة والمكر والدهاء وتقطع أي علاقة كانت موجودة مع الأخلاقية التي لا يمكن استخلاصها من حساب تقني ومن أوامر شرطية للمهارة.
لم يقم كانط برفع الحذر إلى مستوى الضرورة التي يتميز بها الأمر القطي والتي تجعله حجر الزاوية في الحياة الأخلاقية. لكن يظل الحذر أمرا نافعا ويحمل على الخيرات المتحققة ولا يستقيم في الحياة الأخلاقية بذاته و لكي يكون صالحا من الناحية الأخلاقية يفترض مبدأ الإرادة الخيرة والنية السليمة ودون ذلك وجود هذه المبادئ الخلقية يمكن أن يتحول الحذر إلى أمر سيء ويضر بالسلوك والعلاقات بين البشر.
غير أن كانط في نقد ملكة الحكم يضع الحذر ضمن الأوامر البراغماتية حينما يقوم بالتمييز بين الأوامر التقنية والأوامر الفنية ويقوم بتعريف الحذر على أنه المهارة في الاقتدار على الاستعمال وخدمة نوايا الناس الأحرار ووضعها على ذمة الاستعدادات الطبيعية وفي خدمة الميولات الغريزية في حد ذاتها.[17]
لقد عارض كانط بين الأوامر الفارقية problématiques للمهارة التي تخص عملية انجاز هدف معين والأوامر التوكيدية للحذر لكونها مهارة تسعى إلى امتلاك فن الوجود السعيد من حيث هو غاية يرغب فيها كل الناس وبين الأمر القطعي للعقل الذي يحترم الواجب ويمنح المرء نعمة الاستقلالية الذاتية.[18]
لقد فقد الحذر تأثيراتها بشكل كبير ولم يعد ينظر إليه بوصفه الموجه الكبر للحياة الأخلاقية ولم يظل المبدأ الموحد للفضائل المتنوعة. لقد افتك منه الوعي الأخلاقي مختلف الوظائف التي كان يؤديها في حياة الفكر.
إذا كان الحذر عند كانط غير بعيد عن المهارة في اختيار الوسائل التي تقود إلى بلوغ درجة الوجود الجيد ويندرج ضمن الأوامر الشرطية ويطمح إلى بلوغ السعادة بوصفها الغاية الحقيقية لكل الناس فإن اتصاف لطبيعة البشرية بالتناهي نتيجة اللاّتناسب بين المحسوس والمعقول والتمزق بين الميولات الحسية والأفكار المبادئ العقلية يمنع فضيلة الحذر من أن تتحول من طابعها الشرطي إلى كيفية أمرية قطعية تطلب لذاتها.
من جهة الفكرة قد “لا تملك أوامر الحذر لا الدقة التحليلية لقواعد المهارة ولا الوضوح التام للأمر القطعي ولهذا السبب في حالة الحذر من الملائم الحديث بالأحرى عن نصائح conseils بدل عن أحكام commandements “[19] لكن من جهة الواقع يمكن العثور على هذه الشروط في الإنسان الحذر.
فالي أي مدى يصح الحكم الكانطي حول الحذر في معانيه السياسية والإيتيقية في الحياة المعاصرة؟
خاتمة:
“يبدو أن الحذر عندئذ هو ضروري وغير نافع في ذات الوقت”[20]
لقد اعتبر الحذر واحد من الفضائل الأساسية إلى جانب الشجاعة والاعتدال والعفة ويحتاجه المرء في تقوية الفكر وفي عملية البحث عن الحقيقة ولقد ظل يعني الجانب العملي والقسم التطبيقي من الحكمة.
غير أن المعنى المتداول أعطاه دلالة قريبة من التجربة اليومية وتتمثل في الطابع المستمر من فن التفكير والنباهة التي يتميز بها المرء وتسمح له من تجنب الوقوع في المخاطر والمزالق في حياته وجلب المنافع.
والحق أن الفلسفة وجدت صعوبات كبيرة في التعامل مع الحذر سواء من جهة تحديد مفهومه أو من جهة ضبط شروط وجوده ولقد زاد هذا الالتباس حينما رفعته إلى درجة الفضائل حينما وتعاملت معه كمعيار حينا آخر ونزلت به إلى مستوى المهارة والبراعة حينما قرنته بالحرية والتعقل ووضعته في حقل التجربة.
من مشروطية الحكم على فضيلة الحذر الإقرار بالصدفة والجواز والاتفاق في الحياة وبالتالي نفي وجود الضرورة الكونية وإتاحة الفرصة للإنسان قصد الاختيار التفضيلي بين الممكنات والقول بحريته وقدرته.
إذا كان التعقل عند الإغريق قد انصب على توجيه العمل والممارسة والتحكم في ميدان التطبيق والتجربة فإن المحدثين قد صاغوا نظرية في الحذر تقارع الطابع المتحرك واللاّمرئي للحظ وطرق توزيع قسمته.
إذا كان الحذر في بعده الأول يساعد الإنسان على حسن التصرف في العالم ويمنحه المعرفة الصانعة فإنه يعمل في بعده الثاني على حمايته من الوقوع في المهالك والآفات ويمنحه قدرة الرد على تغيرات العالم.
هكذا يستوجب الحذر على المرء أن يتسلح بالحيطة ويجري التعديلات اللازمة mutatis mutandisقبيل اتخاذ القرار ومباشرة الفعل وذلك بسبب الهشاشة التي يتصف بها المسعى البشري عند مواجهته للحظ.
ما يثير الاستغراب أن الحذر يظل الفضيلة التي يلتجئ إليها الأخلاقي والريبي والسياسي والاقتصادي وذلك من أجل امتلاك الحكمة العملية ومحاولة الخروج من اللاّوجود وعقلنة الفوضى وتوجيه السلوك واقتناص الفرص وجلب الحظ واختيار أقوم المسالك وتفضيل أنجع الوسائل وتمييز الإستراتيجية النافعة.
غاية المراد أن إصابة الحد الأوسط هو المعيار العقلاني الذي يجب اعتماده في تجربة الحذر من أجل التغلب على الإخفاق والتعثر والعبث والاستخفاف بالوجود والضياع في العالم وبغية تهدئة الانفعالات.
إذا كان الحذر يتحرك ضمن كوسمولوجيا إغريقية تعترف بعجز الآلهة عن تدبير الكون وتسمح للبشر بأهلية الاختيار وفق آلية الحكمة العملية وثلاثية الحق والخير والجمال فإن ذلك يسلم ضمنيا من ناحية أولى بوجود طابع أنثربولوجي متمثلة في جودة الروية وقوة التمييز والقدرة على المداولة في الوسائل والغايات وفق درجة من الحكم تتحرك ضمن القصدية الأخلاقية ويفترض من ناحية ثانية وبصورة بدئية المصدر التراجيدي الذي يظهر بوضوح في الحاجة إلى التوقف عند حكمة الحدود والبحث عن التوازن والتعادل.
صحيح أن الموقع الذي يمارس منه الإنسان فضيلة الحذر يتصف بالعرضية والاتفاق ويخضع للصدفة والتغير والجزئية ولكن هذا لا يعني الوقوع في النسبية والقول بتبدل الفعل الحذر من شخص الى آخر.
علاوة على أن فضيلة الحذر لا يجب أن يعتبرها البشر معيارا متعاليا على أفعالهم وفق الرؤية الأفلاطونية وإنما يمكن اعتبارها أسلوب مُحايِث للحياة ونمط في الوجود يساعد على تفادي المضرة ويجلب المنفعة وذلك بالاقتدار على استخلاص الكلي المتعين في الجزئي بدل الوقوع في خطأ قياس الجزئي على الكلي.
هكذا يظهر الطابع الإيتيقي في “الحذر كفضيلة ما وليس علما معينا بل معرفة من نوع آخر”[21]
من هذا المنطلق يحتاج الإنسان في الحياة المعاصرة إلى التسلح باليقظة والانتباه إلى الواقع والحذر من المخاطر التي قد تعصف بالكون نتيجة التحولات المجتمعية والمنعطفات التاريخية والتقلبات المناخية. بناء على ذلك يجب إنقاذ الحذر بتخليصه من الأحكام العقلانية القاسية واستبدالها بأحكام مرنة ومتفهمة تشجع على ممارسة التعقل والروية والتريث. وبالتالي يجدر بالمرء استحسان الحذر في اختيار الوسائل وفي تحديد الغايات وحسن التعامل مع التراث الحي وصيانة مدخرات الطبيعة وإجادة انتظار الآتي واستشراف حال البشر وبناء استراتيجيات لأنسنة المستقبل. لكن كيف يرتبط الحذر في اللحظة الراهنة بالوعي الايكولوجي ويقترن بعملية التنبيه على المخاطر التي تعصف بمصير الحياة على الكوكب؟
*****
الهوامش والإحالات:
[1] Aubenque (Pierre) , la prudence chez Aristote, édition PUF, Paris, 1963, 3° édition 1986.p01.
[2] Aristote, Ethique à Nicomaque, X, 8, 1178a 18. traduit par Tricot.
[3] Platon, Phédon, 79d, 1-7,
[4] Platon, Banquet, 196 d
[5] Platon, Protagoras, 352 d
[6] Aristote, Protreptique 40 d
[7] Aristote, Ethique à Nicomaque, VI, 1140 b, op.cit. p285.
[8] Aristote, Ethique à Nicomaque, VI, 1140 b, p285.
[9] Aubenque (Pierre) , la prudence chez Aristote, op.cit.p44.
[10] Aubenque (Pierre) , la prudence chez Aristote, op.cit.p184.
[11] Plutarque, Sur la vertu morale, 2440 E-441 d,
[12] Cicéron, De divinatione II,11.
[13] Epicure, Lettre à Ménécée, 132.
[14] Aubenque (Pierre) , la prudence chez Aristote, op. cit.p01.
[15] Kant Emmanuel, fondements métaphysiques des mœurs, traduction par Victor Delbos, p127.
[16] Kant Emmanuel, fondements métaphysiques des mœurs, op, ci , AK IV 416
[17] Kant Emmanuel, Critique de la faculté de juger, traduit par A Philonenko, Edition Vrin, 1982.
[18] Kant Emmanuel, Critique de la faculté de juger, op.cit.II ,
[19] Aubenque (Pierre) , la prudence chez Aristote, op. cit.p191.
[20] Gontier Thierry, Prudence et sagesse chez Montaigne, in Archives de philosophie ,Tome 75, 2012, Janvier-Mars,Cahier1,p113
[21] Aristote, Ethique à Nicomaque, 1246 b 35-36.
*******
المصادر والمراجع:
Aristote, Ethique à Nicomaque , VI, 1140 b, traduit par R. -A. Gauthier et J. -Y. Jolif, Paris – Louvain, Nauwelaerts, 1958 ; par J. Tricot, paris, édition Vrin, 1959.
Aubenque (Pierre) , la prudence chez Aristote, édition PUF, Paris, 1963, 3° édition 1986.
Kant (Emmanuel), fondements métaphysiques des mœurs, traduction par Victor Delbós, Paris, Delagrave, réimprimé, 1958.
Kant Emmanuel, Critique de la faculté de juger, traduit par Alexix Philonenko, Edition Vrin, Paris, 1982.
Gontier (Thierry), Prudence et sagesse chez Montaigne, in Archives de philosophie ,Tome 75, 2012, Janvier-Mars,Cahier1,p113