نُفاجأُ، من حين لآخر، بنزول بعض الناس- الذين كنا “نَعُدُّهم من الأخيار” ونقيم لهم وزنا واعتبارا في حياتنا- إلى الحضيض والدرك الأسفل من التقدير، إن صح التعبير. وكم هو مؤسف أن ينحدر، مثلا، أكاديمي من عيار الدكتور “محمد الناجي” إلى مستوى لا يليق إلا بأفَّاك من طينة تلفيق، عفوا، “توفيق بوعشرين”، مثلا. فمن غير العادي ومن المثير جدا أن يحيد الأكاديمي عن الصرامة العلمية والنزاهة الفكرية وينزلق إلى “الدرجة الصفر في التحليل”، حسب تعبير الأخ “لحسن العسبي”، الصحافي بجريدة “الاتحاد الاشتراكي”.
ويبدو أن جريدة “أخبار اليوم” التي يديرها “بوعشرين”، قد تحولت إلى ما يشبه قاعة انتظار (أو استقبال أو مكتب إرشادات أو قاعة عرض) يؤمها المتهافتون والطامعون والانتهازيون… من النخبة المثقفة، الذين يرغبون في ترويج بضاعتهم و تسويق أنفسهم وعرض خدماتهم من خلال بعث رسائل الود والتودد إلى أولياء نعمة “بوعشرين” الجدد.
فأن تَنْشُر في جريدة “بوعشرين”، والأصح أن يُنشَرَ لك فيها، خاصة بعد أن تحولت إلى لسان حال حزب العدالة والتنمية وتحول مديرها إلى ناطق “رسمي” باسم السيد “عبد الإله بنكيران”، لهو دليل على أن الهدف هو تمهيد السبيل للباحثين عن الحظوة عند “الأسياد” الجدد، من أجل التعبير عن رغبتهم أو أطماعهم من خلال الرسائل المبعوثة لمن يهمهم الأمر بواسطة هذا المنبر.
ومن أجل الوصول إلى الهدف المرسوم وبانتهازية فجة، ينسى الأكاديمي الموضوعية والحياد وينسى المثقف النزاهة الفكرية والنسبية في الأحكام وينسى المؤرخ التمحيص والتدقيق في المعطيات المتوفرة، وغير ذلك من أشكال الانسلاخ عن الشخصية والهوية العلمية والثقافية.
وقد اكتشفت مؤخرا نموذجا من هذا الصنف؛ والفضل يرجع، في ذلك، إلى الأخ “لحسن العسبي”، الصحافي بجريدة “الاتحاد الاشتراكي”، الذي يقوم، في هذا المنبر الحزبي، بدور ثقافي وإعلامي كبير بفضل تتبعه للحياة الثقافية والسياسية ببلادنا. فقد نشر الأخ “لحسن”، على صدر الجريدة، مقالا بعنوان “محمد الناجي والدرجة الصفر في ‘التحليل'” (“الاتحاد الاشتراكي”، السبت/الأحد 15/16 أكتوبر 2016).
وإذ أستسمحه في جعل هذا العنوان جزءا من عنوان المقالة التي أنا بصدد تحريرها، أعترف له أن معرفتي بالأكاديمي (والمؤرخ والمفكر وأستاذ السوسيولوجيا الاقتصادية في جامعة محمد الخامس بالرباط…) كانت سطحية جدا ولا تتجاوز بعض الإشارات الصحفية التي كنت أصادفها في هذا المنبر أو ذاك. فشخصيا، لست متتبعا لا لأبحاثه ولا لمقالاته ولا لحواراته. وقد يكون السبب في ذلك تباعد مجال التخصص وتباين مجال الاهتمام.
وبدون أدنى مركب نقص أو تنكر لمجهود الغير، أعترف أن الأخ “لحسن العسبي” جعلني أتعرف على الرجل وبعمق كبير. فقد اكتشفت أن الأكاديمي المغربي المعروف، الدكتور “محمد الناجي”، يعاني من عقدة نفسية اسمها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وهذه العقدة جعلته يسقط في أخطاء تسيء لمكانته كسوسيولوجي وكمؤرخ وكمفكر. وهي أخطاء لن يسقط فيها حتى المبتدئ في مجال البحث العلمي والأكاديمي. وهو ما يؤكد أن العقدة استحكمت فيه وأصبحت من النوع المزمن، أي المستعصي على العلاج؛ وبذلك، فقد أصبح لا يرى حتى البديهيات حين يتعلق الأمر بحزب اسمه الاتحاد الاشتراكي الذي يقف غصة في كثير من الحلوق.
وليست هذه هي المرة الأولى التي أصادف فيها هذه الحالة. فقد سبق لي أن تناولت هذا الموضوع عند البعض ممن عبروا عن عقدتهم بنفس المشاعر ونفس السلوك (التحامل، الحقد، الضغينة، الكراهية، الافتراء، الخلط، التضليل…). ولي في هذا المضمار، ولا فخر، بعض الصولات والجولات حتى مع أهل الدار وليس فقط مع الأغراب.
ولثقتي في كفاءة الأخ “لحسن العسبي” ونزاهته الفكرية، فإني أتبنى كل ما جاء في مقاله، شكلا ومضمونا؛ مما يعفيني من إضاعة بعض الوقت في البحث على الحوار الذي اعتمد عليه وقراءته؛ خاصة وأنني لست متتبعا لإنتاجات “الناجي”؛ وهذا من حسن حظي، وإلا كنت سأصير مصدوما من هول السقطة.
وتجدر الإشارة إلى أن “العسبي” كتب هذا المقال بعد قراءته للحوار الذي صدر لـ”رجل العلم والتحليل الملموس للواقع غير الملموس” (“العسبي”)، يوم الجمعة 14 أكتوبر 2016، في يومية “أخبار اليوم”؛ أي ذاك المنبر الذي يديره شخص أصبح أشهر من نار على علم في مجال النصب والاحتيال (وهو تعبير مأخوذ من أحكام قضائية)والارتزاق وغيره من السلوك المشين الذي يمس بقدسية الكلمة وبجلال السلطة الرابعة.
وقد أخبرنا الصحافي بجريدة “الاتحاد الاشتراكي” أنه يحرص “دوما على قراءة كتابات وحوارات الباحث السوسيولوجي المغربي محمد الناجي (السياسية)” التي يكتشف فيها، “دوما“، عنوانا لمعنى “التهافت”؛ كما اكتشف أنه يعاني من عقدة نفسية اسمها “البارانواتحادية”. وهذه العقدة جعلته يصاب بالحول السياسي، حسب تعبير “العسبي”؛ الشيء الذي جعل مستوي التحليل عنده “ينزل إلى الحضيض وإلى الدرجة الصفر”.
وقد ترفَّع الصحافي الاتحادي عن الخوض في أسباب عقدة “الناجي” تجاه الاتحاد الاشتراكي، والتي، حسبه، “ليست تماما مجهولة”. لكنه تأسف، كثيرا، لكون “الأدوات العلمية تتحلل فجأة، مثل جثة نتنة”، عند الأكاديمي الرصين حين يتعلق الأمر بـ”التحليل السياسي”.
وبالفعل، فقد تحول الباحث الأكاديمي، المشهود له في مجال تخصصه بمكانة علمية متميزة، إلى شخص آخر لا يختلف عن تلك الأبواق التي إما تُجمِّل القبيح وإما تُقبِّح الجميل، حسب الطلب وحسب الأجر المدفوع. ففي الحوار السياسي المنشور بجريدة “أخبار اليوم”، نثر “الناجي” الكثير من الورود، بدون مناسبة، على الحزب الفائز في الانتخابات الأخيرة(مغازلة ليست بريئة، على كل حال؛ فربما عينه على منصب ما)؛ بينما “أغدق” التهم الرخيصة، بـ”كرم وقح”، وبدون مناسبة، أيضا، في مقارنة غير ذي موضوع وخارج السياق، على الاتحاد الاشتراكي وحكومته، في تزييف فاضح للحقيقية وكذب صراح على التاريخ وعلى الواقع، توَّجه بزعمه “أنه لأول مرة في تاريخ المغرب يتم تجديد الثقة في حكومة كل أعضائها(كذا) بقوا نظيفي اليد” (“العسبي”).
وفي هذه النقطة بالذات، أي “نظافة اليد” المزعومة، لا يختلف “محمد الناجي” السوسيولوجي عن أولائك الناس البسطاء الذين يتم استغفالهم من قبل تجار الدين بالطهرانية المفترى عليها. فلا أعتقد أنه يجهل فضائح “الشوباني” الذي، بسببها، استحق لقب “الشوهاني”، وفضائح عمدة الرباط وفضائح “بنكيران” نفسه (بالمقابل، لا أظن أنه يجهل زهد المجاهد “عبد الرحمان اليوسفي” في امتيازات السلطة وفي التعويضات السخية للمنصب؛ كما لا أظن أنه يجهل رفض “فتح الله والعلو” الاستفادة من التعويضات الضخمة لوزارة المالية…). وما هذا إلا غيض من فيض. وإلا فهم كلهم “ما عَنْدْهُم قلب على المال العام” الذي يتلذذون بتبذيره وتبديده (أكتفي بالإشارة إلى رؤساء الجماعات الترابية وصفقات السيارات وعددها ونوعها). ناهيك عن فضيحة الوزير مول “الكراطة” والوزير مول “الشكلاطة”، الخ.
وقد افترى على التاريخ حين ادعى أنه “لأول مرة في تاريخ المغرب يتم تجديد الثقة في حكومة…”. وهو أمر غير مسموح له به مادام يقدم نفسه كمؤرخ أيضا. فالكل يعرف أن حكومة المجاهد “عبد الرحمان اليوسفي”، شفاه الله وعافاه وأطال في عمره، نالت الثقة الشعبية من جديد “في أول انتخابات برلمانية الأكثر نزاهة في تاريخ المغرب”(“العسبي”)، سنة 2002 والتي احتل فيها حزب الاتحاد الاشتراكي المرتبة الأولى.
لكن الخروج عن المنهجية الديمقراطية حال دون استمرار حكومة اليوسفي. وإذا كانت المنهجية الديمقراطية تحترم اليوم، فالفضل، في ذلك، يرجع إلى الاتحاد الاشتراكي الذي ناضل من أجل دسترتها خدمة للديمقراطية وصونا لها، وليس لمصلحة حزبية ضيقة وآنية.
فيا أيها الأكاديمي المفكر والمؤرخ والسوسيولوجي، لم الكذب على التاريخ، إذن؟ ولم تلميع الواقع الحالي القاتِم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحقوقيا…؟ ولم كل هذا السقوط والاندحار حتى وصلت إلى مستوى الصحافي المعروف بتقديم خدماته لمن يدفع أكثر ضدا على أخلاق المهنة وضدا على النزاهة الفكرية والموضوعية وغيرها من القيم النبيلة؟
لك أن تحب الشخص أو الحزب الذي تريد ولك نفس الحق في الكره وغيره من العواطف المدمرة. لكن وضعك الأكاديمي لا يسمح لك بالافتراء وتزوير الحقائق ولا يسمح لك بالنزول إلى الحضيض بالقيم العلمية الرصينة. فتزوير التاريخ، سواء بالتَّجميل أو التَّقبيح، خيانة في حق الأجيال السابقة والحالية، وجريمة في حق الأجيال القادمة. ولا أملك سوى أن أدعو الله أن يفُكَّ عقدتك المزمنة ويشفيك من الحوَل السياسي وغيره من الأعطاب النفسية.