يمكن اعتبار الخطاب الملكي أمام البرلمان المنتخب في استحقاق السابع من أكتوبر خطاب تحديد فلسفة ووظيفة الإدارة وعلاقتها بالمواطن الذي هو محور ومبرر وجودها، وخدمته هو هدفها الأساسي في مختلف النظم السياسية المعاصرة.
من هذا المنطلق فهو خطاب تعميق وتوسيع للمفهوم الجديد للسلطة الذي اعتمده الملك محمد السادس منذ أكثر من عقد ونصف من توليه مقاليد السلطة العليا في البلاد وهو من هذه الزاوية تقييم نقدي شامل لممارسة الإدارة المغربية من منظور مصالح المواطنين التي ينبغي أن تتصدر قائمة اهتمامات مختلف المؤسسات في البلاد منتخبة كانت أو إدارية.
غير أن عبارات وجيزة تصدرت خطاب افتتاح البرلمان جاءت بمثابة رسالة واضحة إلى مختلف القوى السياسية في البلاد تهدف إلى تبديد تخوفات البعض منها ووضع سقف لا يمكن تجاوزه لطموحات البعض الآخر حول طبيعة النظام السياسي المغربي في بعده التعددي بالذات.
لقد عبرت أحزاب سياسية مغربية انطلاقا من قراءتها لبعض التصورات عن ضرورة تحول المشهد الحزبي المغربي إلى قطبية حزبية، إلى جانب نوع من القراءة لنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة وفرزها لحزبين كبيرين (العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة) من حيث عدد المقاعد، وعبّرت عن تخوفها وقلقها من أن الذهاب بهذا المنطق إلى أقصاه يعني المساس بالتعددية المغربية والقضاء على عدد من الأحزاب بشكل تعسفي، نظرا لعدم نضج الحياة السياسية المغربية لمثل هذا التحول الذي ترى فيه مقدمات قد تنتهي بالحياة السياسية المغربية إلى نوع خاص من نظام الحزب الوحيد عمليا، ولو اتخذ شكل القطبية الثنائية.
إن حديث الملك محمد السادس عن التشبث بالتعددية السياسية الحزبية هو طمأنة حقيقية لتلك الأحزاب، حول طبيعة النظام التعددي المعتمد في المغرب. إذ لا محيد عنه بل سيظل من الأسس التي تقوم عليها الحياة السياسية في البلاد.
ولم يخف البعض من التيارات والقوى الفكرية والسياسية موقفه السلبي من التعددية المغربية ومآلتها التي يرى أنها كرست نوعا من التشرذم في الحياة السياسية المغربية تجعل الانتخابات غير قادرة على فرز أغلبية حقيقية يمكن أن تشكل حكومة منسجمة تكون قادرة بالتالي على تطبيق برنامجها الانتخابي، دون الخضوع لشروط ومتطلبات الصيغة الائتلافية للحكومة وسلبياتها الواضحة على ممارسة الحكومة على جميع المستويات، خاصة أن إيجاد التوافق بين القوى المشكلة للأغلبية البرلمانية يستدعي الكثير من الجهد والتنازلات البرنامجية التي تجعل المواطن أمام برنامج جديد تماما قد لا يراه يعكس حقيقة اختياراته وهو أمر يؤثر سلبا على العمل السياسي الذي يتم نعته عادة بأنه محصلة مساومات بين أحزاب سياسية همّها الوحيد هو خدمة مصالحها السياسية الضيقة.
غير أن هذا التعليل لا يكاد يخفي تطلع أحزاب قوية بعينها، إلى اختزال الحياة الحزبية المغربية في حزبين أساسيين يتداولان ممارسة السلطة وفق آلية انتخابية تفرض على الأحزاب الصغيرة الاندماج في أحد الحزبين الكبيرين إذا لم ترغب في الاختفاء نهائيا من المشهد السياسي المغربي.
بل إن هناك من رأى في مثل هذا التحول نزوعا نحو صيغة الحزب الوحيد التي تتعارض مع نص وروح الدستور المغربي في مختلف صيغه منذ مطلع ستينات القرن الماضي، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة الوقوف في وجهها حتى لا تفرض كأمر واقع بهذه الطريقة أو تلك.
الخطاب الملكي إذن هو بمثابة طمأنة للمتخوفين من إقامة تقطابية حزبية لا مبرر لها ولم ينضج بعد وضعنا السياسي العام لتقبلها ولا تختلف في جوهرها عن الحزب الوحيد، كما أنه إعادة التأكيد على أن الملكية لن تفسح المجال أمام أيّ قوة تحركها تطلعات هيمنة على المشهد السياسي منافية للديمقراطية التعددية التي تبناها المغرب منذ السنوات الأولى للاستقلال.