مواكبة الانفجار المعرفي…

مهند النابلسي

في غمرة التغييرات الهائلة التي تعصف بالعالم والمنطقة العربية خصوصا، ماذا يتبقى لنا غير العلم سلاحا نقاوم به تقلبات العصر وصنوف الفوضى اللاخلاقة التي تعصف بالمنطقة؟ لقد شبعنا تنظيرا ولغوا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفقه، ومن المفيد أن نتحدث قليلا عن تخلفنا العلمي الحضاري المزمن القاهر!

 

 

حقا ان التطور العلمي- التقني مزعج تماما لطبيعة حياتنا الاتكالية القدرية التي تعتمد على اللامبالاة والاسترخاء، لأنه يتطلب أنماطا انضباطية صارمة يغلب عليها المنطق، وتغيب عنها اشكال الفوضى والعاطفة والتعصب والهيجان، ولكنا حقا لا نملك خيارات كثيرة سوى أن نعرض أنفسنا بقصد لصدمة “فكرية- علمية- ثقافية” تهز الركود العربي من أساسه وأركانه… حتى نستيقظ من سباتنا التاريخي العميق، ونهرع قبل فوات الأوان لنواجه المخططات الاسرائيلية- الاستعمارية – الطائفية المرعبة التي تسعى لسرقة الموارد والأوطان وتشتيت البشر ونشر الاقتتال الداخلي والكراهية والطائفية والاقليمية…

 

فما مدى مساهمتنا كعرب في ثورة المعرفة العالمية الجامحة؟ لقد قيل أن الخبرة المكتسبة خلال اﻟ65 عاما الماضية توازي تلك المتجمعة خلال اﻟ650 سنة السابقة، كما أن الخبرة المكتسبة لهذه الأخيرة توازي الخبرة البشرية المتكونة خلال اﻟ6500 سنة السابقة لها، واعتمادا على هذا المقياس الدال فان الخبرة المكتسبة في شتى صنوف المعرفة خلال الأربع او الخمس سنوات القادمة ستوازي تلك المكتسبة خلا اﻟ65 سنة الماضية وهكذا…


 

لقد مس الانفجار المعرفي الكاسح “المعرفة النظرية والتقنية التطبيقية” في آن واحد، وفيما يتحدث العلماء عن ظاهرة التفكك الاشعاعي “النصف- حياتي” لبعض العناصر الاشعاعية، يتحدث الخبراء الان عن ظاهرة مماثلة تمس التطور في المساقات العلمية: فالعمر النصفي للهندسة الكهربائية والكميوتر مثلا أصبح من سنتين لثلاثة فقط، بينما كان المهندسون من ثلاثين سنة خلت يعيشون لمدة 12- 14 سنة مع معارفهم الهندسية المتقادمة!

 

يقول أحد الخبراء انه يتوجب على مهندس “عصري” متخصص في تقنية “أشباه الموصلات” (كمثال) أن يقرأ يوميا ما بين 40- 50 مقالا متخصصا ليتمكن من مجاراة ومواكبة التطورات العلمية في تخصصه! وأتحدى بثقة أنه لا يوجد عربي واحد متخصص يقرأ حاليا مقالا واحدا يوميا بمجال تخصصه، وقد وصلت لهذا الاستنتاج الواقعي بطريقة احصائية طريفة رصدتها شخصيا، حيث كنت ارسل بقصد احيانا مقالات متخصصة بالجودة لحوالي 40- 50 شخص ولا احصل بالمقابل على تغذية راجعة الافيما ندر ومن شخص او شخصين واحيانا ثلاثة بالحد الأعلى، مع أني كنت اقصد ارسال مقالات قصيرة مبسطة وواقعية وبعيدة عن التعقيد والتخصص! كما لاحظت نفس الظاهرة في معظم الحالات التي تتطلب الجهد والمثابرة والاطلاع ومتابعة المستجدات، ونرى ذلك جليا في الكثير من المقالات السياسية والثقافية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية… التي تجتر وتكرر نفس الموضوع ونفس الأراء والحقائق وكأن الزمن قد توقف، حتى أصبح القارئ ينفر من قراءتها كاملة لأنه اصبح يعرف مضمونها مسبقا! وللطرافة أسوق مثالا معبرا من مجلة الناقد اللبنانية الرائعة (التي اندثرت منذ حوالي العشر سنوات)، حيث وجدت وأجد الكثير من المقالات المعبرة والتي تبحث في الأحداث السياسية والثقافية والأدبية والاقتصادية وحتى الاجتماعية بعمق وروح نقدية طريفة تكاد تواكب أحداث وتداعيات عقدنا الجديد وكأنها ذات بعد مستقبلي رؤبوي! وحيث تتفوق أحيانا بطروحاتها المتنقدمة والكم المعرفي على مثيلاتها من المجلات العصرية “كالمشاهد اللبنانية” (كمثال معبر) التي تقدم الخبر والمقالة والتحليل كسندويش الهمبرغر (كغذاء سريع) ينساه الانسان مع انتهاء تناوله، حتى أن بعض تحاليل العرض السينمائي فيها تكاد لا تفهم منه شيئا لرداءة اللغة وسطحية الطرح والترجمة الركيكة وبلا أدنى جهد واحترام لذكاء القارىء وثقافته واطلاعه!

 

لقد اصبح التغيير “هدفا ديناميكيا متحركا” وبدونه لا يمكن تخيل النجاحات الكبرى في المنافسة العالمية لأسواق السيارات والألكترونيات المختلفة والموبايلات والحواسيب الشخصية مثلا… وسنبقى نعاني من الفوضى والتخلف والبطالة وهجرة الأدمغة طالما لم نبدأ بتطبيق استراتيجيات جديدة تعتمد التدريب والتعليم المستمر في المعاهد والكليات الأكاديمية والبوليتكنيك، كما في المؤسسات الصناعية والخدمية والزراعية والحكومية المختلفة.

 

 

لقد ساعدت ثورة الاتصالات والانترنت على تسهيل نقل المعرفة بشكل لم يشهد له مثيل من قبل، فبعض الدورات المتخصصة تعقد الآن حاليا في صفوف تعليمية افتراضية (عن بعد)، وتبث يوميا لمدة خمس ساعات بواسطة الأقمار الصناعية والشبكة العنكبوتية، وبذلك قلت الحاجة للانتقال والسفر بغرض اكتساب المعرفة وزيادة التخصص، واصبحت بعض الجامعات المحلية قادرة على تغطية اكثر من حوالي 50% من المادة التعليمية بواسطة الأقنية التعليمية الفضائية، وهكذا يمكن لكل واحد منا ان يبقى في مكان عمله وان يتلقى بالانتساب او بالتعلم عن بعد المعرفة المتخصصة المنتظمة التي تساعده على تطوير مقدرته وكفاءته، وكمثال فقد شاركت شخصيا بعد “تقاعدي المبكر” بأربعة مساقات تعليمية متطورة بالجودة المتقدمة، مع متابعات افتراضية حية اسبوعيا باشراف استاذ متخصص، كما قدمت الامتحانات اتوماتيكيا بواسطة الانترنت، وشعرت فبما بعد أن هذه المعرفة الضخمة المتخصصة تضاهي بل قد تتفوق احيانا على اساليب التعليم الجامعي التقليدية لأسباب تتعلق باستثمار الوقت والتركيز وجودة التعليم العملي الذاتي وكثرة الأمثلة والحيادية والجدية!

 

 

لا بد من مواكبة “الانفجار المعرفي” بالتعليم المستمر مدى الحياة، ويلزمنا في هذا الصدد تطوير منهجي- جذري لنظم التعليم العربية، وتسخير جزء من المبالغ الطائلة التي تذهب احيانا لتغطية نفقات البعثات والدورات الخارجية المتعددة، وذلك من اجل تطوير استراتيجي لبرامج التلفزيون التعليمي واستخدام أنظمة الارسال بالأقمار الصناعية والفضائيات والأمواج الدقيقة والانترنت وغيرها من وسائل الارسال العصرية المتطورة!

موقع التجديد العربي

11/6/2013

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…